اطبع هذه الصفحة


البحث عن ثقافة التطوع في مجتمعاتنا
موقع شبكة التطوع الكويتية
2001/10/9

د. إبراهيم البيومي غانم
مستشار أكاديمي


ما يلفت النظر ابتداءً هو أن التدني في فاعلية التطوع في معظم المجتمعات العربية من المحيط إلى الخليج، يأتي في وقت هي أشد ما تكون حاجة إلى تنشيط كافة فاعليات العمل الأهلي، وفي القلب منها فاعليات العمل التطوعي؛ وذلك لأسباب تعود إلى طبيعة التحولات الاقتصادية والسياسية التي تمر بها من جهة، ونظراً لصعود موجة الاهتمام العالمي لما يُسمَّى القطاع الثالث أو اللاربحي من جهة أخرى، مع ما يفرضه هذا الصعود من ضرورة التفتيش عما تملكه في مخزونها الثقافي والقيمي من محفزات ودوافع لتنشيط العمل التطوعي وتطويره.

إن مفهوم "التطوع" إنما يقع في منظومة الفكر المادي العلماني على طرف نقيض لمفهوم "الواجب" أو "الإلزام"؛ ولذلك نجدهم يُفرِّقون بين "العمل التطوعي" "والعمل غير التطوعي"؛ ومن ثمَّ بين القطاع الخيري أو اللاربحي، وقطاع الأعمال ( أو الربحي) من جهة، والمنظمات الحكومية والمنظمات غير الحكومية أو الأهلية من جهة أخرى.

والأمر جِدُّ مختلف في منظومة الفكر الإيماني الإسلامي؛ إذ يتصل التطوع بالفرض، كما تتصل السُّنَّة بالواجب اتصالاً وثيقاً، يصل أحياناً إلى حد انتقال العمل الواحد من موقع "التطوع" إلى موقع الفريضة الملزِمة، وذلك في الحالات التي عبَّر عنها الفقهاء بمفهوم "فروض الكفاية"؛ وهي تلك الأعمال التي يتعين القيام بها لمصلحة المجتمع أو الأمة كلها، ويُناط ذلك بفرد أو بجماعة منها أو فئة معينة تكون مؤهلة لهذا العمل على سبيل التطوع، فإن لم ينهض به أحد صار العمل المطلوب فرضاً مُلزماً، ويأثم الجميع ما لم يقم هذا الفرد أو تلك الفئة أو الجماعة – أو غيرها - بأدائه على الوجه الذي يكفي حاجة المجتمع.

وكلما كان الفرد -أو الجماعة أو الفئة – أكثر قدرة على القيام بأداء فرض الكفاية على سبيل التطوع وتقاعس عن ذلك، كان نصيبه من الإثم أكبر من غير القادر أو الأقل قدرة منه.

ولم يحظ العمل التطوعي في أي ثقافة أجنبية بمثل المكانة التي حظي بها في الثقافة الإسلامية، ومع ذلك فإن ثقافة التطوع في المجتمع العربي المعاصر تتسم بدرجة متدنية من الفاعلية في معظم البلدان من المحيط إلى الخليج، وهو ما يدفعنا للسؤال: لماذا هذا التدني في فاعلية التطوع وفي جدواه الاجتماعية في عالمنا العربي؟

ولا شك أن هناك أسبابًا كثيرة يمكن ردها إلى أن "الثقافة السائدة" في هذا المجال تعاني بدورها من إشكاليات أربع:

* إشكاليات التسييس.
* اختلال الأولويات.
* جمود الخطاب الفكري وتقليديته في ميدان التطوع.
* ازدواجية المرجعية المعرفية في هذا الميدان.

وقد نبتت – بجملتها – في مناخ الحكم الشمولي التسلطي الذي عانت منه معظم المجتمعات العربية على مدى النصف قرن الأخير، حيث تشكل هذا المناخ في إطار فلسفة الرأي الواحد والأمر من أعلى هرم السلطة إلى أدناه، والامتثال من قاعدة المجتمع إلى حد الإذعان التام، وهو ما يتناقض مع فلسفة التطوع القائمة على المبادرة والاختيار الحر.

وفقا للمسطرة الحكومية

- ولكن ماذا عن الإشكاليات الأربع من المنظور الواقعي؟

* إشكالية التسييس التي تجلّت عندما سخرّت السلطات الحاكمة كافة أنماط الخطاب الثقافي لخدمة سياساتها، ومن ثم جرى إدماج ما يتعلق بثقافة "التطوع" ضمن ثقافة الهيمنة التي فرضتها الدولة، كما خضعت البنى المؤسسية "للأعمال التطوعية" للتفكيك وإعادة الهيكلة والتنميط وفقاً للمسطرة الحكومية. ولما كانت الجماعات الحاكمة في النظم الثورية خلال عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، قد تبنت أيديولوجيات سياسية مفارقة في كثير من جوانبها للتراث السياسي والثقافي للمجتمع، فقد تفاقمت إشكاليات "تسييس" ثقافة التطوع؛ إذ ضاق الفرق بين ما هو طوعي وما هو إجباري حسب منطق السلطة، وهُمِّشت الثقافة الدينية، أو اُختزلت في أفضل الحالات في مقولات مؤيدة لسياسة الدولة؛ الأمر الذي أدى إلى ضمور "ثقافة التطوع" بعد تهميش منبعها الأكبر؛ وهو الثقافة الدينية الأصيلة.

وبالرغم من التحولات التي أدت بمعظم الأنظمة العربية إلى الابتعاد النسبي عن فلسفات الحكم الشمولي والسلطوي –خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين- فإن إشكالية تسييس ثقافة العمل التطوعي لم تنته، وأخذت أبعاداً جديدة في ظل موجة العولمة وما ولّدته من خشية –مشروعة في بعض الحالات- لدى الدولة على أمنها وسلطتها من مقولات ومفاهيم وشعارات يجري ترويجها باسم التطوع، أو المنظمات غير الحكومية أو المجتمع المدني، وبعد أن كان التسييس يجري في السابق من جهة الدولة على حساب المجتمع، أضحى في السنوات الأخيرة مزدوجاً تمارسه الدولة وعديد من الهيئات التطوعية والاجتماعية المدنية في آنٍ واحد، وبخاصة تلك التي تتبنى الثقافة الوافدة في مجال التطوع.

السلام قبل محو الأمية!

* تجلت اختلال الأولويات داخل ثقافة التطوع السائدة في التركيز على بث مفاهيم وأفكار التطوع حول قضايا لا تحتل أولويات متقدمة في سُلَّم الاهتمام العام للمجتمع، الأمر الذي تؤكده ممارسات الخطاب الثقافي الوافد؛ حيث يولى اهتمام كبير بأفكار التطوع والعمل الأهلي في قضايا المرأة، والسلام، والبيئة أكبر من قضايا محو الأمية والبطالة والرعاية الصحية، التي تحتل أولوية متقدمة بالنسبة لمعظم المجتمعات العربية.

وربما أسهمت إشكالية التسييس المشار إليها، في ظهور إشكالية اختلال أولويات ثقافة التطوع؛ إما لاحتكار السلطة للشأن الثقافي العام في مرحلة سابقة كما أوضحنا، وإما بسبب توجيه عديد من فعاليات العمل التطوعي لاهتمامها ناحية مواجهة الدولة، والسعي لتحرير الشأن الثقافي التطوعي من هيمنتها، وإما للأمرين معاً. وفي جميع الحالات فإن هذا الاختلال لا يخدم أياً من الطرفين (المجتمع أو الدولة)، وإنما ينطوي على سلبيات كثيرة لكليهما.

* نظراً لحالة التكلس الذي تعانيه قيادات العمل التطوعي، وعدم قدرتها على إنتاج خطاب ثقافي يتسم بالفاعلية والتجديد والتجاوب مع متغيرات الواقع، فإنها تواجه إشكالية جمود وتقليدية الخطاب الفكري الذي تمارسه معظم هذه القيادات.

إن جمود خطاب ثقافة التطوع وتقليديته –على هذا النحو- تجعله غير قادر على التوسع وكسب قواعد اجتماعية جديدة؛ بسبب جموده الداخلي وكذلك سيطرة قيم الثقافة الفردية وانصراف معظم أفراد المجتمع لحل أزماتهم الخاصة، كما أن هذا الجمود يجعله حبيساً لأطره المحلية والقطرية، وعاجزاً عن التفاعل أو التوافق مع الخطاب العالمي لثقافة التطوع، ناهيك عن أن يسهم في صياغة هذا الخطاب، والنتيجة النهائية لذلك هي استمرار قابلية ثقافة التطوع بالمجتمع العربي للتأثر بثقافة الآخر والتبعية لها، دون القدرة على التأثير فيها أو تجنب سلبياتها.

صيغة حديثة لذل المسألة

تستند ثقافة العمل التطوعي في المجتمع العربي في قسمها الموروث إلى المرجعية التراثية الدينية، بينما تستند في قسمها الوافد إلى المرجعية الوضعية العلمانية، وتتسبب هذه الازدواجية في ظهور ازدواجية المرجعية المعرفية في هذا الميدان لتسبب كثيرًا من التناقضات والانقسامات داخل خطاب الثقافة السائدة للتطوع؛ إذ يعمد أنصار "الموروث" إلى التركيز على المضمون الديني الإسلامي للتطوع مع إعطائه تفسيراً ضيقاً لا يتسع في كثير من الحالات لغير المسلمين، وذلك كلما وجدوا أنصار "الوافد" يركزون بدورهم على المضمون المادي، "الدنيوي" للتطوع وينفون –أو يتجاهلون- أية أبعاد روحية أو دينية له، ولا يعود مثل هذا الانقسام إلاّ بآثار سلبية على ثقافة التطوع بصفة عامة.

وتسبب إشكالية "ازدواجية المرجعية" ضرراً آخر لثقافة التطوع في المجتمع العربي بإسهامها في إيجاد منافسة غير متكافئة بين المكون "الموروث" والمكون "الوافد"؛ حيث لا يجد أنصار "الوافد" مانعاً –حسب مرجعيتهم المعرفية- يمنعهم من قبول التمويل الأجنبي، أو العمل طبقاً لأجندة أولويات لا تخدم المجتمع العربي الذي يعملون فيه بالضرورة، فضلاً عن الآثار السلبية لتلك الأجندة الأجنبية على نظام القيم والأخلاقيات في مجتمعنا العربي ليس ذلك فحسب، وإنما يؤدي هذا "التمويل الأجنبي" إلى خلق حالة من التناقض في منظومة القيم والمبادئ التي تقوم على أساسها ثقافة التطوع؛ فبينما تؤكد الثقافة الموروثة على قيم الاعتماد على الذات، والتضحية، والبذل، والعطاء من ذات اليد، والإيثار، تأتي الثقافة التطوعية الوافدة –بقبولها التمويل الأجنبي- لتؤكد على قيم التواكل على الغير، أو التطوع بأموال الآخرين واستمرار الخضوع وذل المسألة (وليس غريباً في هذا السياق أن يتلقى طالبو التمويل الأجنبي دورات تدريبية في كيفية كتابة الطلب Application، الذي يتقدمون به للجهات الأجنبية للحصول على التمويل، وهذا الطلب هو صيغة حديثة لتكريس ذل المسألة).

ثمة مبشرات

برغم كل الصعوبات والتعقيدات التي تكتنف ثقافة العمل التطوعي –على النحو الذي تشير إليه الإشكاليات الأربع السابق تناولها- فإن ثمة ما يشجع على التصدي لها، ويبشر بإمكانية التغلب عليها، ويبدو ذلك من جملة التغيرات الاجتماعية، والتحولات السياسية والاقتصادية، التي تجري على مستوى المجتمع العربي كله -وإن بدرجات متفاوتة من منطقة إلى أخرى، منذ ما يقرب من عقدين على الأقل- إذ إن خلاصة هذه التغيرات وتلك التحولات تصبّ باتجاه تغيير المناخ الشمولي السلطوي الذي تولدت فيه أزمة ثقافة العمل التطوعي من ناحية، وتسهم في تشكيل مناخ جديد أكثر انفتاحًا ومرونة من قبل الدولة في علاقتها بالمجتمع من ناحية أخرى.

إلى جانب ذلك ثمة ضرورات محلية قطرية، وإقليمية عربية، ودولية عالمية تتطلب بذل مزيد من الجهود المنظمة من أجل تفعيل ثقافة العمل التطوعي.

... وضرورات

فعلى المستوى المحلي (القطري) لكل بلد عربي، بات من الضروري إبلاء ثقافة التطوع الاهتمام الكفيل بإخراجها من حالة الركود إلى حالة الفاعلية؛ لأن في ذلك مصلحة مزدوجة: للدولة والمجتمع معا؛ فالدولة من جهتها تسعى لتخفف من عبء إرث السلطة الأبوية، والانتقال من فلسفة "الرعاية الكاملة" إلى الرعاية النوعية؛ بعد أن عرفت من تجارب المراحل السابقة أن خدماتها الرديئة تضر المجتمع ولا تنفعها بشيء، ومن هنا فإن تفعيل ثقافة العمل التطوعي يأتي في خدمة هذا التوجه، أما من جهة المجتمع فقد عانى بما فيه الكفاية من الإقصاء والتهميش في ظل الدولة الشمولية أو السلطوية، وهو يتطلع –كذلك- لترميم شبكة العلاقات التعاونية والتراحمية التي تهتكت من جراء هذا الاستبداد، وخلّفت وراءها فجوات نفسية عميقة بين فئات المجتمع.

وعلى المستوى الإقليمي للمجتمع العربي كله، تتجلى ضرورة التفعيل في ثلاثة دواع أساسية:

أولها أن جميع أبناء هذا المجتمع من المحيط إلى الخليج تجمعهم ثقافة واحدة هي الثقافة العربية الإسلامية، ولا تعدو ثقافة التطوع كونها نسقاً فرعياً داخل هذه الثقافة الواحدة، ومن ثم فإن تفعيلها يسهم في تفعيل وتقوية الثقافة الأم، ويُدِّعم من أواصر الأخوة والتضامن على أساس من القيم المشتركة.

وثانيها أن ثمة حاجة فعلية لنقل بعض ثمرات العمل التطوعي من بعض البلدان العربية التي أصبح فيها التطوع يشكل مجالاً حيوياً نشطاً (مثل بعض بلدان الخليج) إلى بلدان عربية أخرى تواجه مشكلات طاحنة، وهي أولى بالرعاية وأحق بتلقي إسهامات الأشقاء، وكلما كانت ثقافة التطوع أكثر فاعلية على الصعيد العربي، زادت إمكانية تحقيق هذا التكامل.

وثالثها أن دعم ثقافة التطوع، وتيسير انتقال آثاره الفكرية والعملية عبر الأقطار العربية من شأنه المساعدة في الأخذ بيد البعض منها للخروج من حالة الانغلاق على الذات والتحرر من الاستبداد الداخلي -الذي تبرر الدولة جانباً منه بحجة توفير كافة الخدمات والمعونات- وقد يساعد أيضًا في تجنيبها من الوقوع تحت تأثير المنظمات الأجنبية العاملة في مجال التطوع.

حتى لا نكتفي بقول الخواجات

أما على المستوى العالمي فإن تفعيل ثقافة التطوع في المجتمع العربي يعتبر ضرورة حضارية؛ ذلك لكي تتمكن الأمة العربية من الإسهام بفاعلية في بناء وصوغ الخطاب العالمي حول ثقافة التطوع؛ إذ من غير اللائق –حضارياً- ألاّ يكون لهذه الأمة إسهام بارز في هذا المجال، وهي تمتلك تراثاً غنياً بالقيم والمبادئ والمعايير والأخلاقيات التي يمكن أن تستفيد منها البشرية، وهي في حاجة فعلية إلى مثلها.

ومن غير اللائق –حضارياً أيضاً- أن تكون المشاركات العربية شكلية وغير مؤثرة في المنتديات العالمية المعنية بشئون التطوع وقضاياه، أو أن يكتفي المشاركون العرب بترديد ما يقوله الآخرون (الخواجات)، ولا يظهر لهم دور واضح يقدمون من خلاله المضمون الإسلامي لثقافة التطوع وينعكس فيما يصدر عن تلك المنتديات من بيانات ومواثيق أخلاقية.

وحتى يتحقق شيء من ذلك فإن ثمة ضرورة لتفعيل ثقافة التطوع على المستويين النظري التأصيلي والعملي التطبيقي في المجتمع العربي، وإلاّ فلن يكون لأمتنا دور في هذا المجال على المستوى العالمي، وستبقى التبعية لخطاب ثقافة التطوع الأجنبية ما بقيت ثقافة التطوع في المجتمع العربي راكدة وغير فاعلة.

 

العمل الخيري