اطبع هذه الصفحة


الأعمال التطوعية في الإسلام

د. محمد بن صالح بن علي القاضي


الحمد لله الذي جعلنا خير أمة أخرجت للناس - وجعل خيرنا أنفعنا لخلقه في دنياهم وأخراهم - وجعل خير نجوانا - من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس والصلاة والسلام على خير البرية وأزكى البشرية المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين نجوم الدجى ومنارات الهدى وأوعية الخير أما بعد

فموضوع ورقة العمل هذه هو:

[ الأعمال التطوعية في الإسلام ]


[ المحور الأول ]
وأول ما نحتاج إليه: أن نحدد مفهوم الأعمال التطوعية:


والمفهوم نقصد به هنا التعريف  أو قل الحد
ويمكن أن يطلق على المفهوم: تحرير محل البحث أو تحرير محل النزاع كما يقرره أهل أصول الفقه.
وشرط الحد والتعريف  والمفهوم الطرد والعكس
بمعنى أن يكون جامعاً لجميع أجزاء المعرف مانعاً لغيره من الدخول فيه.

والحد ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
حقيقي، ورسمي، ولفظي .
حقيقي: وهو القول الدال على ما هية الشيء.
والماهية: ما يصلح جواباً للسؤال بصيغة ما هو.
مثال: ما هو الإيمان ج: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
والرسمي: وهو اللفظ الشارح للشيء بتعديد أوصافه الذاتية واللازمة بحيث يطرد وينعكس كقولهم في حد الخمر ( أي تعريفها )
اللفظي:بالزبد يستحيل ( أي يتغير ) إلى الحموضة ويحفظ في الدن.
اللفظي : شرح اللفظ بلفظ أشهر منه .
مثال: تقول الهزبر ثم تعرفه وتقول هو الأسد.

أفاطم لو شهدت ببطن خبت *** وإذ لاقى الهزبر أخاك بشرا
إذاً لرأيت ليثاً أمّ ليثا *** هزبراً أغلباً لاقى هزبرا

فنقول في تحديد مفهوم العمل التطوعي وتعريفه:

(1) كلمة عمل: إننا لا نقصد بالعمل التطوعي تقديم المال أي العمل المالي المحض أو ما كان مشتركاً بين العبادة المالية والبدنية وإنما نقصد تقديم الفعل  والقول، والفعل أحياناً يكون بالترك.

(2) كلمةك تقديم المال في العمل الخيري سواء كان زكاة أو صدقة أو هبة أو عطية أو قرضاً.

(2) كلمة تطوع : ولا يدخل في العمل التطوعي الفروض والواجبات سواء كانت عينية أو كفائية، معينة أو مبهمة مضيقة أو موسعة، أداء أو قضاء أو نذراً.
وإنما ما ترد تسميته بالمستحب، والمندوب، والأدب، والفضيلة والنفل والتطوع.

والمستحب في الشريعة: ما طلب الشرع فعله لا على سبيل ألإلزام وهو ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه.
فهو مستحب: من حيث أن المشرع يحبه ويؤثره.
ومندوب: من حيث أنه بين ثوابه وندب ورغب فيه.
وفضيلة ونفلاً: من حيث أنه زائد على الفرض والواجب.
وتطوعاً: من حيث أن فاعله يفعله من غير أن يؤمر به حتماً.

فيمكن بعد هذه الإخراجات أن نصور العمل التطوعي بأنه:
كل جهد بدني أو فكري أو عقلي أو قلبي يأتي به الإنسان أو يتركه تطوعاً دون أن يكون ملزماً به لا من جهة المشرع ولا من غيره.

مثال ذلك: كتابة العقود، وتغسيل الموتى، إماطة الأذى عن الطريق، إعانة الرجل على دابته ورفع متاعه عليها، أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، أن تعين ضائعاً، إنقاذ الغرقى والهدمى والحرقى، إعانة في مهم كموت وعرس وسفر، كف أذاك عن الناس.

[ المحور الثاني ]
مشروعية الأعمال التطوعية ومكانتها في الإسلام


أولاً: العمل التطوعي في القرآن:
( أ ) قال الله تعالى:
" لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً " سورة النساء آية 114

فالأمر هنا: عمل تطوعي بدني سواء كان أمراً بصدقة أو أمراً بمعروف والسعي بالإصلاح بين الناس: عمل تطوعي بدني.

تفسير الآية:
يقول تعالى:
" لا خير في كثير من نجواهم " يعني لا خير في كثير من كلام الناس وأحاديثهم ومحاوراتهم.
" إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس "

تفسير للآية بالسنة ( الحديث )
عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: } ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين }
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح

وبلا شك أن منزلة الصيام والصلاة عظيمة فهما ركنان من أركان الإسلام والمراد هنا بالصلاة التي إصلاح ذات البين خير منها صلاة النوافل وليس الفرائض ولكنهما عمل محصور أجره وثوابه على صاحبه بينما إصلاح ذات البين: نفع متعدي إلى الآخرين وقاعدة الشريعة: أن النفع المتعدي أولى من النفع القاصر.

بمعنى أن من يقضي وقته بإصلاح ذات البين أفضل ممن يشغل وقته بنوافل الصيام والصلاة.
" ابتغاء مرضات الله " أي مخلصاً في ذلك محتسباً مريداً وطالباً رضوان الله.
" فسوف نؤتيه أجراً عظيما" أي ثواباً جزيلاً كثيراً واسعاً.

(ب) قال تعالى:
" ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " سورة البقرة آية 282

فهنا ترغيب للكاتب أن يتطوع بكتابته ولا يمتنع إذا طلب منه، فالكتابة من نعم الله على العباد التي لا تستقيم أمورهم الدينية ولا الدنيوية إلا بها وأن من علمه الله الكتابة فقد تفضل الله عليه بفضل عظيم، فمن تمام شكره لنعمة الله تعالى أن يقضى بكتابته حاجات العباد ولا يمتنع من الكتابة.

(ج) تطوع ذو القرنين ببناء السد
" حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولا. قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سدا. قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما. آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا. فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا. قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً " سورة الكهف

تفسير الآيات:
يأجوج ومأجوج: من ذرية آدم خلق من خلق الله أهل شر وفساد وهم أكثر أهل النار وقد حال الله بينهم وبين الإفساد في الأرض والإفساد على الخلق بسد ذي القرنين فإذا جاء وعد الله جعل هذا السد الذي عجزوا عن نقبه والصعود عليه دكاً فيخرجون من كل حدب ينسلون ويعيثون في الأرض فساداً ويمرون على بحيرة طبرية فيشربون ماءها ويمر بها آخرهم فيقول كان بهذه ماء فيقتلون ويسلبون وينهبون ويظلمون ويحصر عيسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين في الطور بعد أن يوحي الله إليه إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ويؤمر عموم الناس بالهرب منهم وعدم مواجهتهم فمن طغيانهم وبغيهم وفسادهم أنه بعد أن يعيثوا في الأرض قتلاً وتدميراً وإهلاكاً للحرث والنسل يقولون قتلنا أهل الأرض فلنقتل أهل السماء فيرمون بنشبهم إلى السماء فيرجعها الله فتنة لهم مخضبة بالدماء فيقولون قتلنا أهل الأرض وقتلنا أهل السماء وتكون نهايتهم أن يجأر من بقي من أهل الأرض وعلى رأسهم عيسى عليه الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين بالشكوى إلى الله أن يرفع عنهم البأساء والضراء فيرسل الله على يأجوج ومأجوج دود النَغف في رقابهم فيصبحون موتى جميعاً في ليلة واحده في كل أصقاع الأرض كموت نفس واحدة.

فكان بناء السد نعمة عظمى للبشرية وسبباً من أسباب هناء العيش على الأرض
" قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا "

قال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: " خرجاً ": أي أجراً عظيماً يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالاً يعطونه إياه حتى يجعل بينه وبينهم سدا.
فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير:
" ما مكّني فيه ربي خير " أي إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه كما قال سليمان عليه السلام: " أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم "
وهكذا قال ذو القرنين الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه ولكن ساعدوني بقوة أي بعملكم وآلات البناء " أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد " والزبر: جمع زبرة وهي القطعة منه.

(د) قال تعالي:
" ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير. فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير " القصص آية 24

التفسير:
" ولما ورد ماء مدين " أي وصل إليه، وهو الماء الذي يستقون منه
" وجد عليه أمة من الناس يسقون " أي وجد على الماء جماعة كثيرة من الناس يسقون مواشيهم، ومدين اسم للقبيلة لا للقرية
" ووجد من دونهم " أي من دون الناس الذين يسقون مابينهم وبين الجهة التي جاء منها
" امرأتين تذودان " أي تحبسان أغنامهما عن الماء حتى يفرغ الناس ويخلو بينهما وبين الماء.
" قال ما خطبكما " أي قال موسى للمرأتين: ما شأنكما لا تسقيان غنمكما مع الناس ؟
" قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء " أي أن عادتنا التأني حتى يصدر الناس عن الماء وينصرفوا منه حذراً من مخالطتهم، أو عجزاً

عن السقي معهم والرعاء: جمع راعٍ
" وأبونا شيخ كبير " عالي السن لا يقدر أن يسقى ماشيته من الكبر فلذلك احتجنا ونحن امرأتان ضعيفتان أن نسقي الغنم لعدم وجود رجل يقوم لنا بذلك.

فلما سمع موسى كلامها رحمهما وسقى لهما أغنامهما، فلما فرغ من السقي لهما تولى إلى الظل أي انصرف إليه فجلس فيه ونادى ربه " قال رب إني لما أنزلت إلى من خير " أي خير كان " فقير " أي محتاج إلى ذلك، قيل أراد بذلك الطعام.
( فتح القدير  الشوكاني ج4 ص168)

ولما قدم إلى موسى الطعام قال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملأ الأرض ذهبا

وذهب أكثر المفسرين: إلى أن المرأتين ابنتا شعيب عليه السلام فحصل له سكينة وطمأنينة إلى رسول من رسل الله، وزوجته هي ابنة رسول، وطعام حلال بإجارة شريفة.

فكان هذا العمل التطوعي الصالح سبباً وباب خير له عليه الصلاة والسلام

( ه ) قال تعالى:
" وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا " سورة الكهف

وهذا الأب كان الأب السابع لهذين الغلامين اليتيمين وفيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى درجة الصالحين في الجنة لتقر عينه بهم قال ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر لهما صلاح.

قال الحسن البصري: " وكان تحته كنزهما " قال: لوح من الذهب مكتوب فيه باسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله.

( و ) ولا شك أن العمل التطوعي الذي فيه نفع الناس والإحسان إليهم بما هو جائز في شرعنا من العمل الصالح ويدخل في عموم العمل الصالح المثاب عليه والممدوح في مثل قول الله تعالى:

" والتين والزيتون. وطور سنين. وهذا البلد الأمين. لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون. فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين "

وفي مثل قوله تعالى: " والعصر. إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر "
ومهما دق ذلك العمل فإنه مثاب عليه إذا كان خالصاً صوابا

قال تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره "
وقال تعالى: " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤتِ من لدنه أجراً عظيما "
ويجمع ذلك كله قوله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان "

ثانياً: العمل التطوعي في السنة النبوية:
( أ ) عدد مفاصل الإنسان ثلاثمائة وستون مفصلاً ويستحب له أن يؤدي شكر نعمة كل مفصل من هذه المفاصل كل يوم بصوره من صور العمل المبارك التالية ( والتي أكثرها أعمال تطوعية )

في صحيح البخاري  كتاب الصلح
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: } كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس ]1[ تعدل بين الناس صدقة {

وفي صحيح مسلم:
} كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس قال تعدل بين الاثنين صدقة ، ]2[ وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها ، ]3[ أو ترفع عليها متاعه صدقة ، قال ]4[ والكلمة الطيبة صدقة ، وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة ، ]5[ وتميط الأذى عن الطريق صدقة {

وفي مسند الإمام أحمد:
} ]6[ إن سلامك على عباد الله صدقة ، وإماطتك الأذى عن الطريق صدقة ، ]7[ وإن أمرك بالمعروف ]8[ ونهيك عن المنكر صدقة {

وفي صحيح مسلم: من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: كتاب الزكاة
} إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل فمن كبر وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله ]9[ وعزل حجراً عن طريق الناس ، ]10[ أو شوكة ، ]11[ أو عظماً عن طريق الناس وأمر بمعروف ونهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامى فإنه يمشى يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار {

والسُّلامى: بضم المهملة وتخفيف اللام مع القصر أي مفصل، أصله عظام الأصابع وسائر الكف ثم استعمل في جميع عظام البدن

الفتح: كتاب الجهاد: والمعنى: أن على كل مسلم مكلف بعدد كل مفصل صدقة لله تعالى على سبيل الشكر له بأن جعل عظامه مفاصل يتمكن بها من القبض والبسط وخصت بالذكر لما في التصرف بها من دقائق الصنائع التي اختص الآدمي بها.

عليه صدقة: أي صدقة ندب وترغيب لا إيجاب وإلزام.

(ب) الأمر بالعمل التطوعي مع الأمر بالتوحيد / وهو شعبة من شعب الإيمان، فحق الخالق توحيده وصرف جميع العبادة له، وحق الخلق حسن الخلق وبذل الخير.
روى الإمام أحمد في المسند باقي مسند الأنصار :
عن أبي تميمة عن رجل من قومه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال : شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل فقال : أنت رسول الله ؟ أو قال : أنت محمد ؟
قال : نعم .
قال : فإلام تدعوا .
قال :  أدعوا إلى الله وحده من إذا كان بك ضر فدعوته كشفه عنك .
 ومن إذا أصابك عام سنة فدعوته انبت لك .
 ومن إذا كنت في أرض قفر فأضللت فدعوته رد عليك .
قال : فاسلم الرجل ، ثم قال : أوصني يا رسول الله .
فقال له : لا تسبن شيئاً أو قال أحداً شك الحاكم ، قال : فما سببت شيئاً بعيراً ولا شاة منذ أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم .
 ولا تزهد في المعروف ولو ببسط وجهك إلى أخيك وأنت تكلمه .
 وأفرغ من دلوك في إناء المستسقي . وقال صلى الله عليه وسلم : } الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق {

( ج ) سلامة االصدر والصفح عمل جليل من الأعمال التطوعية ففي سنن أبي داود
كتاب الأدب :
عن عبدالرحمن بن عجلان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : } أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم قال : ومن أبو ضمضم قال : رجل فيمن كان قبلكم بمعناه : قال : عرضي لمن شتمني {

( د ) محبة النبي صلى الله عليه وسلم البالغة لأهل الأعمال التطوعية وعنايته بهم ، وتفقده لهم .
روى البخاري ومسلم وابن ماجه بإسناد صحيح واللفظ له :
عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها بعد أيام فقيل له : إنها ماتت فقال : " فهلا أذنتموني فأتي قبرها فصلى عليها "

( ه ) وأعمال القربات كلها أعمال تطوعية لا يجوز أخذ الأجرة عليها ، وإنما يعطي ولي أمر المسلمين للقائم عليها رزقاً من بيت المال :
قال صلى الله عليه وسلم : } من أذن سبع سنين محتسباً ( أي متطوعاً ) كتب له براءة من النار {
قال الفقهاء : ولا يجوز أن يرزق مؤذناً وهو يجد متبرعاً عدلاً

قال القرا في في أنوار البروق المجلد الثالث :
] الفرق بين قاعدة الأرزاق وقاعدة الإجارات [

القضاة يجوز أن يكون لهم أرزاق من بيت المال عن القضاء ، ولا يجوز أن يستأجروا على القضاء إجماعاً ، بسبب أن الأرزاق إعانة من الإمام لهم على القيام بالمصالح لا أنه عوض .

( و ) وأنه من أسباب إعانة الله للعبد أن يكون في عون أخيه والجزاء من جنس العمل
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : } من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلماً ستر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه {
رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد

( ز ) إعانة ذوي الاحتياجات الخاصة من أفضل الأعمال  وكف الشر عن الناس درجة عليا من درجات العمل التطوعي .
عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل ؟ قال : الإيمان بالله والجهاد في سبيله . قلت : أي الرقاب أفضل ؟ قال أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمناً . قال قلت : فإن لم أفعل ؟ قال : تعين صانعاً أو تصنع لأخرق قال : قلت يا رسول الله إن ضعفت عن بعض العمل ؟ قال : تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك " رواه مسلم  كتاب الإيمان

وعند البخاري " تعين ضائعاً أو تصنع لأخرق "

قال ابن حجر في الفتح :
" تعين ضائعاً ، بالضاد المعجمة وبعد الألف تحتانية لجميع الرواة في البخاري كما جزم به عياض وغيره وكذا هو في مسلم إلا في رواية السمرقندي .
والضائع : ذو الضَّياع من فقر أو عيال كثير .
وقال أهل اللغة : رجل أخرق : لا صنعة له : أي غير صانع .
] تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك [
وسنضرب مثلاً واضحاً وصريحاً في أن كف الشر درجة عليا من درجات العمل التطوعي لنفس الإنسان ولغيره .
قال صلى الله عليه وسلم } العين حق { رواه البخاري } ويحضرها الشيطان وحسد ابن آدم{ رواه أحمد في المسند قال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح
وقال صلى الله عليه وسلم : } أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين {
حسنه الحافظ ابن حجر في الفتح وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة

والمراد بالعين حق :
أي الوصف دون ذكر الله وهو سم اللسان ، فإنه عند الوصف دون ذكر الله باللسان تنطلق الشياطين الحاضرة فتعمد إلى إيذاء الموصوف .
قال شيخ الإسلام في كتابه السلوك : الحسد مرض من أمراض النفس ، وهو مرض غالب فلا يخلص منه إلا القليل من الناس ، ولهذا يقال : ما خلا جسد من حسد لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه .
ومعنى اللئيم يبديه : أي بوصف أخيه المسلم دون ذكر الله .
وقد قيل للحسن البصري : أيحسد المؤمن فقال : ما أنساك إخوة يوسف لا أبالك ، ولكن غمه في صدرك ، فإنه لا يضرك ما لم تعد به يد ولا لسان .

ثالثاً : مكانة الأعمال التطوعية في الإسلام :
من خلال فقه الأمة
لقد جاءت الشريعة الإسلامية ببيان صور كثيرة من صور العمل التطوعي ففرق علماء الإسلام وفقهاؤه :
بين عقود المعاوضات : كالبيع والشراء والإجارة والمساقاة والمزارعة والشركات
وبين عقود الإرفاقات : كالهبة والعطية والوصية والحوالة وغير ذلك

كما أن علماء الإسلام الأفذاذ من محدثين وفقهاء أفردوا أبواباً في كتب الحديث والفقه لبيان الأحكام التفصيلية لكثير من الأعمال التطوعية :
(1) فأفردوا باباً في بيان أحكام الكفالة : وهي عمل تطوعي
يتضمن : التزام رشيد إحضار من عليه حق إلى صاحبه .
(2) وأفردوا باباً في بيان أحكام الوكالة : وهي استنابة جائز التصرف مثله فيما تدخله النيابة . وهي صورة من صور العمل التطوعي حينما تكون وكالة بغير جعل وأجر .
(3) وأفردوا باباً في بيان أحكام الوديعة : وهي المال المدفوع إلى من يحفظه بلا عوض .
(4) وأفردوا باباً في بيان أحكام اللقطة واللقيط : وهو الطفل المنبوذ الذي يوجد ملقياً على قارعة الطريق فيتطوع مسلم بأخذه ورعايته والعناية به .

وكل فروض الكفايات في الشريعة في الأعمال البدنية هي عمل تطوعي مادام أن هنالك أناس كثير يعرضون قيامهم بها .

حيث أن تعريف فرض الكفاية عند أهل الأصول : هو العمل الشرعي المطلوب إقامته فإذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين .

فتنافس أهل الإسلام على القيام بفرض الكفاية في المنافع المتعددة صورة من صور العمل التطوعي مثل : العناية باللقيط ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغسيل الموتى ودفنهم والصلاة عليهم وإنقاذ الغرقى والحرقى وأصحاب الهدم ، وإرشاد الضال وغير ذلك .

] المحور الثالث [ :
] الحافز على العمل التطوعي في الإسلام [
من خلال سردنا لمشروعية الأعمال التطوعية ومكانتها في الإسلام
في القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، وفقه الأمة
يمكن أن نستخلص الحوافز والمثيرات ونلخصها في المعددات التالية :

أولاً : وعد الله تبارك وتعالى أهل الإيمان المتطوعين بأعمال الإحسان المسارعين بجنة عرضها السموات والأرض
حيث قال الإله الحق المبين : " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين . الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " .

ثانياً : وصفهم الله من خلال النص السابق بأنهم أهل الإحسان والتقوى .

ثالثاً : وبشرهم تعالى من خلال النص السابق أنه يحبهم " والله يحب المحسنين "

رابعاً : جاءت الشريعة الإسلامية أن كلام الناس وأحاديثهم ومحاوراتهم في مجالسهم ومنتدياتهم ومنابرهم لا خير في كثير منه إلا ما كان مداره على الحديث في نفع الناس وإصلاح ذات بينهم . قال تعالى : " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس " .

خامساً : وعد الله من تطوع بذلك مبتغياً به وجه الله وطالباً رضاه بالأجر العظيم والعطاء الكثير الجزيل الواسع والجزاء المضاعف أضعافاً كثيرة . قال تعالى: " ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيما "

سادساً : أن العمل التطوعي عبادة عظمى اسمها الشكر لنعم الله على عبده من صحة وعافية وحواس سليمة وبدن معافى والإيمان نصفان نصف شكر ونصف صبر ، والشكر الحقيقي هو ما اجتمع فيه قول اللسان وعمل الجوارح بكفها عن معصية الله وبذلها في طاعته قال تعالى : " اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور "
وقال تعالى : " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله " وقال صلى الله عليه وسلم : } كل سلامى من الناس عليه صدقة {

سابعاً : اعتناء النبي صلى الله عليه وسلم بالأعمال التطوعية حتى أنه عليه الصلاة والسلام أعطاها من نفسه وقلبه ولفظه وعدد منها وهو الذي أوتي جوامع الكلم وفواتحه وخواتمه إحدى عشرة صوره من صور العمل التطوعي في حديث واحد ترغيباً إليها وحثاً عليها ورفعاً لشأنها وشاوها الذي ربما كان في عيون الناس حقيراً :

فقال عليه الصلاة والسلام : } كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس :
(1) تعدل بين الناس صدقة ( العدل بين الناس )
(2) تعين الرجل على دابته فتحمله عليها صدقة .
(3) ترفع المتاع للرجل على دابته صدقة .
(4) تتكلم مع الناس بكلام طيب صدقة .
(5) إماطة الأذى عن الطريق صدقة .
(6) سلامك على عباد الله صدقة .
(7) أمرك بالمعروف صدقة .
(8) نهيك عن المنكر صدقة .
(9) تعزل حجراً عن طريق الناس صدقة .
(10) تعزل شوكة عن طريق الناس صدقة .
(11) تعزل عظماً عن طريق الناس صدقة .
(12) تعين ضائعاً صدقة .
(13) تعين صانعاً صدقة .
(14) تصنع لأخرق صدقة .

ثامناً : إعلام النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أن هذا العمل التطوعي المندوب إليه شكراً على نعمة المفاصل في ثلاثمائة وستين صورة على عدد المفاصل ليس لمرة واحدة في العمر وإنما هو عمل يتجدد طلب فعله مع كل طلوع شمس لكل يوم .
فقال صلى الله عليه وسلم } كل يوم تطلع فيه الشمس {.

تاسعاً : بشارته صلى الله عليه وسلم لكل رجل من أمته تصدق عن مفاصله كل يوم بما أرشده إليه بأنه يسير حينئذ على الأرض وقد باعد نفسه عن نار جهنم وكان مهيئاً لدخول الجنة .
فقال صلى الله عليه وسلم:}فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار {

عاشراً : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعمل التطوعي مع أمره بالتوحيد حيث قال للأعرابي في الحديث الذي مر ذكره ورواه الإمام أحمد :

إني أدعوا إلى الله وحده وبين وجه استحقاق الله للعبودية بثبوت ربوبيته فلما أسلم الأعرابي : أوصاه بأن لا يسب شيئاً وأن يبسط وجهه إلى أخيه وأن يفرغ من دلوه في إناء المستسقي .

الحادي عشر: العمل التطوعي  إيمان صادق
حيث عده النبي صلى الله عليه وسلم من شعب الإيمان التي أعلاها
شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق .

الثاني عشر : محبة النبي صلى الله عليه وسلم البالغة لأهل الأعمال التطوعية وعنايته بهم وتفقده لهم . كما فعل مع المرأة السوداء التي كانت تقمّ المسجد .

الثالث عشر : أن الله تعالى تفضلاً وتكرماً منه يكون معيناً لعبده المتطوع الذي يكون في عون أخيه .

الرابع عشر : سعة مفهوم الشريعة للعمل التطوعي حتى أنها حين لا يجد المسلم أي عمل خير يمكن أن يقدمه إلى مجتمعه وأمته بالفعل فإنه يمكن لكل أحد أن يقدم عملاً صالحاً لمجتمعه وأمته ولنفسه بالترك بحيث إذا عجز عن ذلك أجمع فإنه يكف شره عن الناس فإنها صدقة منه على نفسه وعلى الناس .

ولا يعجز ولو أن يكون كأبي ضمضم فيتصدق بعرضه على من شتمه .

الخامس عشر: أن العمل التطوعي ولو كان في حجم الذرة فإن الله تبارك وتعالى يباركه وينميه ولا يضيع أجر من أحسن عملا ولا يظلم مثقال ذرة .
قال تعالى : " فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره "

السادس عشر: إن العمل التطوعي المحمود لا يقتصر على المقدم للإنسان وإنما يشمل حتى الحيوان والطير وغيرها ، كما أن العمل التطوعي ربما كان سبباً رئيساً من أسباب المغفرة ولو مع وجود كبائر الذنوب كما غفر الله للبغي الزانية من بني إسرائيل لأنها رحمت الكلب الذي رأته عطشاناً فملأت حذاءها ماءً من البئر وسقت الكلب .

السابع عشر : أن العمل التطوعي سيما أحباب الله وأخلائه والمقربين إليه من خلقه من رسل الله عليهم الصلاة والسلام وعباد الله الصالحين كمحمد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم صلى الله عليه وسلم وهما الخليلان وموسى عليه السلام حين سقى للمرأتين وتولى إلى الظل وهو من أولي العزم من الرسل وكفعل الخضر مع الغلامين صاحبي الجدار وكعمل ذي القرنين مع البشرية جمعاء .

الثامن عشر : لما كان عمل ذي القرنين جليلاً أثنى الله عليه في القرآن وذكر لنا في القرآن خبره وبلوغه مغرب الشمس ومطلعها وبين السدين وذكر لنا قصة بناء السد ، كما ذكر الله عز وجل النملة في القرآن حين اعتذرت عن نبي من أنبيائه ، وذكر كلب أصحاب الكهف حين رافق الصالحين ، وذكر الإبل في إتيانها ضامرة من كل فج عميق قاصدة بيته العتيق لما رافقت الحجاج من عباده ، وأقسم بالخيل وهي المشاركة لعباده في الجهاد .

التاسع عشر : أن العمل التطوعي صورة عظمى من صور التعاون على البر والتقوى التي هي سيما أهل الإسلام .

] المحور الرابع[ :
أمثلة وقدوات في العمل التطوعي في صدر الإسلام

زيادة على ما مضى التنبيه عليه من الأمثلة المشرقة من سير الرسل عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم والصالحين عليهم رحمة الله من القرون الخالية .

نذكر نفحات معطرة من شذى السيرة العطرة لخير البرية وأزكى البشرية نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم :
والمراد الإشارة لا الإحصاء

المثال الأول :
مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في بناء الكعبة :
من حديث أبي الطفيل رضي الله عنه قال : كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ( الصخور ) وكانت غير مسقوفة إنما توضع ثيابها عليها ثم تسدل سدلاً ، وكان الركن الأسود موضوعاً على سورها تأدباً ، وكانت ذات ركنين كهيئة الحلقة .. .. إلى أن قال : فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي تحملها قريش على رقابها ، فرفعوها في السماء عشرين ذراعاً ، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة ، فضاقت عليه النمرة ، فذهب يضع النمرة على عاتقه فترى عورته من صغر النمرة ، فنودي يا محمد خمر عورتك فلم ير عرياناً ، وكان يرى بين الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين ، وبين مخرجه وبنيانها خمس عشرة سنة .

أخرجه الطبراني في الكبير وأحمد طرفاً منه ورجالهما رجال الصحيح كما قال الهيثمي في مجمع الزوائد .

المثال الثاني :
وضع النبي صلى الله عليه وسلم الحجر الأسود في مكانه :
فقد روى علي رضي الله عنه (( أنه لما أرادوا أن يرفعوا الحجر (( يعني قريشاً )) اختصموا فيه ، فقالوا : يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج عليهم ، فجعلوه ( أي الحجر ) في مرط ثم رفعه جميع القبائل كلها ، ورسول الله يومئذ رجل شاب يعني قبل البعثة وفي رواية (( لما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : قد جاء الأمين )) .
قال الهيثمي :  رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح . ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي .


المثال الثالث :
شهادة أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم بصور كثيرة من صور العمل التطوعي :
وذلك أنه لما رأى جبريل عليه السلام ونزل عليه بقول الله تعالى : " اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . إقرأ وربك الأكرم " رجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد فقال : زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة ، وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسي .
فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق .. الحديث (متفق عليه)

المثال الرابع :
مشاركته عليه الصلاة والسلام وهو غلام مع عمومته حلف الفضول :
وحلف الفضول كما قال محمد بن إسحاق : أن قبائل من قريش تداعت إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبدالله بن جدعان لشرفه وسنه .
وكان حلفهم عنده بنو هاشم وبنو عبدالمطلب وبنو أسد بن عبدالعزى ، وزهرة بن كلاب وتيم بن مرة .
فتعاهدوا وتعاقدوا على أن لا يجدوا مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا كانوا معه ، وكانوا على من ظلمه حتى يردوا عليه مظلمته فسمت قريشاً ذلك الحلف حلف الفضول .
قال صلى الله عليه وسلم : } شهدت حلف المطيبين مع عمومتي وأنا غلام فما أحب أن لي حمر النعم ، وأني أنكثه {
أخرجه الإمام أحمد وأبو يعلى والبزار وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح وقال الساعاتي في الفتح الرباني : الحديث إسناده صحيح .

المثال الخامس :
مشاركته صلى الله عليه وسلم في بناء المسجد النبوي :
لما بنى النبي صلى الله عليه وسلم المسجد جاء أبوبكر بالحجارة وجاء عمر وجاء عثمان وكان الصحابة يحملون لبنة لبنه وعمار يحمل لبنتين لبنتين والنبي صلى الله عليه وسلم ينفض التراب عنه والصحابة رضي الله عنهم أجمعين يرتجزون وهم يشاركون في البناء ويقولون :

لئن جلسنا والرسول يعمل لذاك من العمل المضلل

ويقولون :
لا يستوى من يعمر المساجدا يذاب فيها قائماً وقاعدا
ومن يرى عن الغبار حائرا
وبني المسجد باللبن ، وسقفه بالجريد ، وعمده خشب النخل .

المثال السادس :
نزول النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه في قبر ذي البجادين ومشاركة في دفنه :
من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يحدث قال : (( قمت من جوف الليل ، وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر ، فاتبعتها أنظر قال : فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوبكر وعمر ، وإذا عبدالله ذو البجادين قد مات ، وإذا هم قد حفروا له ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته ، وأبوبكر وعمر يدليانه وإذا هو يقول : (( أدنيا إليَ أخاكما )) فدلياه إليه ، فلما هيأه لشقه ، قال : (( اللهم إني قد أمسيت راضياً عنه فأرضى عنه )) قال : يقول ابن مسعود : يا ليتني كنت صاحب الحفرة .
أخرجه ابن منده ، والبغوي وأخرجه بن إسحاق في السيرة

المثال السابع :
حلب الخليفة الراشد أبي بكر الصديق لجواري الحي منائحهم :

أخرج ابن سعد عن ابن عمر وعائشة وابن المسيب وغيرهم رضي الله عنهم دخل حديث بعضهم في حديث بعض وكان مما جاء في الحديث :
(( وكان يحلب للحي أغنامهم ، فلما بويع بالخلافة قالت جارية من الحي : الآن لا تحلب لنا منائح دارنا ، فسمعها أبوبكر رضي الله عنه فقال : بلى والله لأحلبنها لكم ، وإني لأرجوا أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه ، فكان يحلب لهم فربما قال للجارية من الحي : يا جارية أتحبين أن أرغي لك ( من الإرغاء : الحلب بحيث يأتي عليه الزبد ) أو أصرّح ( من التصريح : الحلب بدون الزبد ) فربما قالت : أرغ وربما قالت : صرح فأي ذلك قالت فعل .

قال ابن كثير هذا سياق حسن ، وله شواهد من وجوه أخر ومثل هذا تقبله النفوس وتلقاه بالقبول .

المثال الثامن :
عمل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وزوجته أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهم أجمعين في مساعدة امرأة في المخاض :
كان عمر رضي الله عنه على عادته يتفقد الناس ليلاً ونهاراً فإذا ببيت شعر ينبعث منه أنين امرأة وعلى بابه رجل قاعد فسلم عليه عمر وسأله من هو ، فأجابه بأنه رجل من البادية جاء يصيب من فضل الله : فقال عمر ما هذا الصوت الذي أسمعه في البيت ، قال الرجل : انطلق رحمك الله لحاجتك ولا تسأل عما لا يعنيك فألح عليه عمر يريد معرفة الأمر فأجابه : امرأة تمخَض  أي على وشك الولادة  وليس عندها أحد فعاد عمر رضي الله عنه إلى منزله وقال لامرأته أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهما : هل لك في أجر ساقه الله إليك ؟ قالت : وما هو ؟ فأخبرها الخبر وأمرها أن تأخذ معها ما يحتاج إليه الوليد الجديد من ثياب وما تحتاج إليه المرأة وقدراً وحبوباً وسمناً . فجاءت به فحمل القدر ومشت خلفه حتى انتهى إلى البيت وقال لامرأته ادخلي إلى المرأة وجلس هو مع الرجل وأوقد النار وطبخ ما جاء به والرجل جالس لا يعلم من هو . وولدت المرأة فقالت أم كلثوم من داخل البيت : بشر يا أمير المؤمنين صاحبك بغلام ، فتهيب الأعرابي ، وأطعم عمر الرجل من الطعام الذي أعده وأعطى زوجته أم كلثوم فأطعمت المرأة النفساء وقال للرجل : إذا كان غداً فأتنا نأمر لك بما يصلحك فلما أصبح أتاه ففرض لابنه في الذرية وأعطاه .

المثال التاسع :
الرجل الذي تستحي منه الملائكة ذو النورين وزوج البنتين عثمان بن عفان رضي الله عنه الخليفة الراشد الذي أحبه الله ورسوله والمؤمنون وقريش حال جاهليتها لبذله في كل وجوه العمل الخيري التطوعي .

حيث كانت المرأة القرشية ترقص طفلها الصغير وتناغيه بقولها :
أحبك والرحمن حب قريش عثمان

وقال فيه صلى الله عليه وسلم بعد أن أعطى وأنفق في جيش العسرة وكان يأتي بالمال يحمله بنفسه ويضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أصفراً وأحمراً وسلاحاً ونوقاً قال فيه عليه السلام : }ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم ، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم{ .

المثال العاشر :
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه رابع الخلفاء الراشدين المهديين ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة سيدة نساء العالمين ووالد سيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين

يكنس بيت المال بنفسه بعد أن يفرغه من كل صفراء وبيضاء

أخرج أبو نعيم في الحلية عن علي بن ربيعة الوالبي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال : جاءه ابن النبّاج فقال يا أمير المؤمنين امتلأ بيت مال المسلمين من كل صفراء وبيضاء ، فقال : الله أكبر وقام متوكئاً على ابن النبّاج حتى قام على بيت مال المسلمين فنودي في الناس فأعطى جميع ما في بيت مال المسلمين حتى ما بقى منه دينار ولا درهم ثم أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين .

وعن مجمع التيمي قال : كان علي رضي الله عنه يكنس بيت المال ويصلي فيه يتخذه مسجداً رجاء أن يشهد له يوم القيامة . وأخرجه ابن عبدالبر في الاستيعاب

وهكذا كان السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وعلماء الإسلام وقد أثر عن الإمام المزني وهو من كبار علماء الشافعية ومن كبار العلماء الذين أخذوا عن الإمام الشافعي أنه كان محتسباً في تغسيل الموتى .

وإذا أردت أن تستقرأ تلك الأعمال التطوعية الجليلة فاقرأ في كتب سير هؤلاء الرجال العظماء ولا يزال هذا الموكب الإيماني والركب النوراني يتهادى في دروب الأعمال التطوعية الصالحة وهاأنت ترى بعد أكثر من ألف وأربعمائة عام على وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أمته تقتفى سنته وتتبع أثره وتعتصم بحبل الله المتين القرآن الكريم وتستن بسنة خير المرسلين .

 فتجد من يتطوع في تعليم الناس أمور دينهم من إلقاء الدروس والمحاضرات والندوات ابتغاء ما عند الله لا ما عند الخلق ( مكاتب الدعوة التعاونية )
 وتجد من ينتدب نفسه لمعالجة الفقراء والمعوزين ( كمؤسسة البصر العالمية )
 وتجد من ينتدب نفسه لدلالة التائهين من الحجاج ومساعدة العجزة وسقيا الماء ............ ( كفرق الكشافة )
 وتجد من يدافع عن حقوق المظلومين والمأسورين والمقهورين والضعفاء ( كهيئة المدافعة عن الأسرى )
 وتجد من النساء من تعد أنواع المطبوخات لتصرفها في الأسواق الخيرية لدعم مشاريع تحفيظ القرآن ( ومثال ذلك مدرسة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد بالخبر تتسع 2700 طالبه كلفت أربعة عشر مليوناً جمعها النساء من أموالهن ومن جهودهن في إعداد الأطباق الخيرية ) .
 وتجد من احتسب نفسه ووقته وجهده في نفع إخوانه المسلمين في باب الرقية الشرعية .
 وتجد من احتسب من النساء في تجهيز بنات الفقراء لأزواجهن بالخضاب والطيب وترتيب الشعر ، وإعارة الحلي والملابس .
 وتجد من احتسب في إيناس المرضى بزيارتهم وتفريحهم وإدخال السرور عليهم .

وقامت الدولة أيدها الله ورعاها متمثلة في الملك ونائبه والوزراء والأمراء وفقهم الله أجمعين برعاية العمل التطوعي الخيري بكل وجوهه وصوره ومتابعة ذلك متابعة مباشرة من قبلهم بل وتجدهم الداعم الأساس في أغلب مشاريعه فلا تكاد تخلو مدينة من جمعيات البر ، ولا تكاد تخلو قرية أو هجرة من جمعية تعاونية .

وخرجت إلى النور
 رابطة العالم الإسلامي .
 وهيئة الإغاثة الإسلامية العالمية .
 والبنك الإسلامي للتنمية .
 والندوة العالمية للشباب الإسلامي .
 ومؤسسة الحرمين الخيرية ومثيلاتها .
 ومدينة الأمير سلطان بن عبدالعزيز .......
 وجائزة الملك فيصل العالمية .
 وجوائز أعمال البر ومنها جائزة الأمير محمد بن فهد بن عبدالعزيز لأعمال البر التي نحن اليوم نتفيأ ظلالها .

وصور كثيرة مشرقة تشهد بجلاء وصدق على نوازع العمل التطوعي الخيري المتجذرة إيماناً ويقيناً واحتساباً في قلوب هذه الثلة المؤمنة من رجال هذا البلد المبارك .

إن أمة الإسلام أمة مباركة من الله عليها بالكتاب والإيمان قال تعالى : " قل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون " وفضل الله ورحمته هو الإيمان والقرآن ومحمد صلى الله عليه وسلم .

اللهم تقبلنا وتقبلهم عندك في الصادقين المهديين ورثة جنة النعيم واجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم وصلى الله وسلم على خاتم الأنبياء وإمام الأتقياء وخير من مشى تحت أديم السماء نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .


المصدر : اللقاء السنوي الرابع للجهات الخيرية

 

العمل الخيري