الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
إن موضوع رزية الخميس التي يتشبث بها الرافضة لإثبات أحقية علي رضي الله عنه
بالخلافة .. موضوع مهم و مبهم لدى البعض .. و قد أحببت أن أشارك فيه ببعض ما
أستطيع لعل الله أن يشرح به الصدور و ينير به العقول و يصحح بعض المفاهيم ..
أخرج البخاري في صحيحه (4/4168) عن ابن عباس قال : يوم الخميس وما يوم الخميس ،
اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال : ائتوني اكتب لكم كتاباً لن
تضلوا بعده أبداً ، فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبي نزاع ، فقالوا ما شأنه ؟ أهجر
، استفهموه ، فذهبوا يردون عليه فقال : دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني
إليه ، وأوصاهم بثلاث قال : أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد
بنحو ما كنت أجيزهم و سكت عن الثالثة أو قال فنسيتها .
وقد وردت عدد من الأحاديث بخصوص رزية
الخميس ، لكن هل صحت أي رواية في قول الصحابي ( هجر رسول الله ) أم الصحيح فقط
ما ثبت في البخاري ومسلم فقط ؟ .
الجواب :
الصحيح هو ما ثبت في الصحيحين ، أما غير ذلك فأغلبه ضعيف من طريق الواقدي .
و هناك روايات كثيرة في طبقات ابن سعد عن هذا الموضوع ، لكن أغلبه ضعيف ، حيث
أورد روايتان تذكران الهجر و هما صحيحتان ، أما باقي الروايات التي في الطبقات
فأغلبها ضعيف من طريق محمد بن عمر الواقدي .
و معنى ( هَجَرَ ) في اللغة هو اختلاط الكلام بوجه غير مفهِم و هو على قسمين :
قسم لا نزاع لأحد في عروضه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام و هو عدم تبيين
الكلام لبحَّة الصوت وغلبة اليبس بالحرارة على اللسان كما في الحميات الحارة ،
و قد ثبت بإجماع أهل السير أن نبينا صلى الله عليه وسلم كانت بحة الصوت عارضة
له في مرض موته صلى الله عليه وسلم ، و القسم الآخر جريان الكلام غير المنتظم
أو المخالف للمقصود على اللسان بسبب الغشي العارض بسبب الحميات المحرقة في
الأكثر ، و هذا القسم وإن كان ناشئاً من العوارض البدنية و لكن قد اختلف
العلماء في جواز عروضه للأنبياء ، فجوزه بعضهم قياساً على النوم ، و منعه آخرون
. انظر : مختصر التحفة الاثنى عشرية لمحمود الألوسي ( ص 250 ) .
وقد يقول قائل كيف يقول الصحابي أن رسول
الله هجر ؟
الجواب :
لعل الصحابي الذي قال تلك الكلمة أراد بالمعنى القسم الأول من التعريف ، أي أنه
و باقي الصحابة يرون هذا الكلام خلاف عادته صلى الله عليه وسلم ، فلعلنا لم
نفهم كلامه بسبب وجود الضعف في ناطقته فلا إشكال .
و يمكن أن يقال أيضاً : أن الصحابي قال تلك الكلمة إنكاراً لم قال لا تكتبوا -
حيث أنه من المعروف أنه حدث خلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم عندما طلب منهم
أن يحضوا له كتاباً يكتب لهم .. الحديث - ، فقالوا : كيف نتوقف ، هل تظن أنه
كغيره يقول الهذيان في مرضه .
وإن فرض صدور هذا الكلام عن بعضهم فلعل أحدهم اشتبه عليه الأمر فشك في ذلك لأنه
ليس معصوماً أي الشخص الذي قال أهجر - والشك جائز عليه ، و لكن يستبعد لأنه
لابد أن ينكره الباقون ، أو لعل قائل هذا القول هو ممن دخل في الإسلام قريباً ،
أو أن أحدهم أصيب بالحيرة لدى مشاهدته النبي صلى الله عليه وسلم في حالته هذه
فقال ما قال .
وقد يقول قائل وما الذي أراد الرسول صلى
الله عليه وسلم قوله ؟
الجواب :
إن الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم قوله كما هو واضح من سياق الحديث (
ائتوني أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً .. ) والضلالة التي ذكرها النبي
صلى الله عليه وسلم تتضمن عدة معان ، قد تكون بأمر محدد كأن ينص على تعيين
خليفة أو كتابة كتاب في الأحكام ليرتفع النزاع في الأمة .
و الذي يظهر من الكلام السابق أن الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم قوله ليس
للوجوب ، فإنه من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكذب و من
تغير شيء من الأحكام الشرعية في حال صحته و حال مرضه ، و معصوم من ترك بيان ما
أمر ببيانه و تبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه ، فإذا عرفنا ذلك تبين لدينا أنه
لو كان أمر بتبليغ شيء حال مرضه و صحته فإنه يبلغه لا محالة فلو كان مراده صلى
الله عليه وسلم أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره ،
لقوله تعالى { بلغ ما أنزل إليك } كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه
و معاداة من عاداه ، فدل ذلك على أن ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم كتابته
يحمل على الندب لا على الوجوب ، و قد عاش صلوات الله وسلامه عليه أربعة أيام
بعد ذلك ، و لم يأمرهم بإعادة الكتابة ، و يدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم
أوصى في آخر الرواية بثلاث وصايا ، ( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا
الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ، و سكت الراوي عن الثالثة أو قال فنسيتها ) . فيدل
على أن الذي أراد أن يكتبه لم يكن أمراً محتّماً لأنه لو كان مما أمر بتبليغه
لم يكن يتركه لوقوع الاختلاف ، و لعاقب الله من حال بينه و بين تبليغه ، و
لبلغه لهم لفظاً كما أوصاهم بإخراج المشركين و غير ذلك . راجع : شرح صحيح مسلم
للنووي (11/131-132) كتاب الوصية ، و فتح الباري (7/741) كتاب المغازي .
وأيضاً قد يقول قائل : كيف يقول عمر بن
الخطاب بأن رسول الله غلبه الوجع ، هل كان خائفاً أن رسول الله سيقول شيء بلا
وعي ؟
الجواب :
يقول المازري رحمه الله كما نقله الحافظ في الفتح (7/740) عن هذه الحادثة :
إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك ، لأن الأوامر
قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب ، فكأنه ظهرت منه أي من كلام الرسول صلى الله
عليه وسلم قرينة دلت على أن الأمر ليس على التحتم ، بل على الاختيار ، فاختلف
اجتهادهم ، و صمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه صلى الله عليه
وسلم قال ذلك عن غير قصد جازم ، و عزمه صلى الله عليه وسلم كان إما بالوحي وإما
بالاجتهاد ، و كذلك تركه إن كان بالوحي فبالوحي وإلا فبالاجتهاد أيضاً ..
و يقول الإمام البيهقي في دلائل النبوة كما نقله عنه النووي في شرح مسلم
(11/132) : إنما قصد عمر التخفيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غلبه
الوجع ، ولو كان مراده صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه
لاختلافهم ولا لغيره لقوله تعالى { بلغ ما أنزل إليك } كما لم يترك تبليغ غير
ذلك لمخالفة من خالفه و معاداة من عاداه ، و كما أمر في ذلك الحال بإخراج
اليهود من جزيرة العرب و غير ذلك مما ذكره في الحديث ..
و يقول الإمام القرطبي كما نقله ابن حجر في الفتح (1/252) : ائتوني أمر ، و كان
حق المأمور أن يبادر للامتثال ، لكن ظهر لعمر رضي الله عنه مع طائفة أنه ليس
على الوجوب ، و أنه من باب الإرشاد للأصلح ، فكرهوا أن يكلفوه من ذلك ما يشق
عليه في تلك الحالة مع استحضارهم لقوله تعالى { ما فرطنا في الكتاب من شيء } و
قوله تعالى { تبياناً لكل شيء } و لهذا قال عمر : حسبنا كتاب الله ، و ظهر
لطائفة أخرى أن الأولى أن يكتب لما فيه من زيادة الإيضاح ، و دل أمره لهم
بالقيام على أن أمره الأول كان على الاختيار ، و لهذا عاش صلى الله عليه وسلم
بعد ذلك أياماً و لم يعاود أمرهم بذلك ، و لو كان واجباً لم يتركه لاختلافهم ،
لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف ، و قد كان الصحابة يراجعونه في بعض
الأمور ما لم يجزم بالأمر فإذا عزم امتثلوا .
و قال الخطابي كما نقله الحافظ في الفتح (7/740) : لم يتوهم عمر الغلط فيما كان
النبي صلى الله عليه وسلم يريد كتابته ، بل امتناعه محمول على أنه لما رأى ما
هو فيه من الكرب و حضور الموت خشي أن يجد المنافقون سبيلاً إلى الطعن فيما
يكتبه وإلى حمله على تلك الحالة التي جرت العادة فيها بوقوع بعض ما يخالف
الاتفاق ، فكان ذلك سبب توقف عمر ، لا أنه تعمد مخالفة النبي صلى الله عليه
وسلم ، ولا جواز الغلط عليه حاشا و كلا ..
و يقول النووي في شرح مسلم ( 11/132) : أما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق
العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر و فضائله و دقيق
نظره ، لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وسلم أموراً ربما عجزوا عنها واستحقوا
العقوبة عليها لأنها منصوصة لا محالة للاجتهاد فيها ، فقال عمر : حسبنا كتاب
الله لقوله تعالى { ما فرطنا في الكتاب من شيء } وقوله تعالى { اليوم أكملت لكم
دينكم } فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأمن الضلالة على الأمة وأراد الترفيه
على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان عمر أفقه من ابن عباس و موافقيه .
وإذا قلنا بأن ما كان سيوصي به الرسول
كان أمراً عاديا للتذكير به ، فلماذا عدّ ابن عباس عدم كتابة الوصية كونها رزية
؟ وماذا يقصد ابن عباس من وراء هذا ؟ وهل يمكن كما قال الرافضة أنها كانت وصية
لعلي بالخلافة ؟
الجواب :
إن تسمية ذلك اليوم بالرزية لست أدري والله ما الحجة التي فيه على أهل السنة ؛
فابن عباس رضي الله عنه كان يقول ذلك عندما يروي الحديث و ليس عندما حدثت
الحادثة ، والروايات كلها تدل على ذلك ، و يحتمل أيضاً أنه تذكر وفاة النبي صلى
الله عليه وسلم فزاد في حزنه رضي الله عنه ، بالإضافة إلى أن عدم كتابة الكتاب
كان هذا رزية في حق من شك في خلافة أبي بكر ، فلو كتب الكتاب لزال الشك .
و قد يقال : هل خلافة أبو بكر تعد في حد
ذاتها عصمة من الضلال؟ و هل هذا يعني أنه إذا أخذها علي أو عمر أو غيرهم لا
تكون عصمة ؟
الجواب :
لاشك أن خلافة أبي بكر الصديق عصمة من الضلال ، فهي ثابتة عن أهل السنة إما
بالنص وإما بالقياس ، وكما قال الصديق حسن خان في قطف الثمر في بيان عقيدة أهل
الأثر ( ص 99 ) : وأحقهم بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر لفضله
و سابقيه وتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الصلوات على جميع أصحابه
وإجماع الصحابة على تقديمه و متابعته ، و لم يكن الله ليجمعهم على ضلالة .
وقال عمر بن علي بن سمرة الجعدي كما في طبقات فقهاء اليمن ( ص 34 35 ) : ثم
استخلف أفضل الصحابة وأولاهم بالخلافة .. معدن الوقار .. و شيخ الافتخار ..
صاحب المصطفى بالغار .. سيد المهاجرين والأنصار .. الصديق أبو بكر التيمي .. ..
قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يصلي بالناس أيام مرضه ، و بذلك
احتج عمر رضي الله عنه على الأنصار يوم السقيفة فقال : رضيه رسول الله صلى الله
عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا ، و أيكم تطيب نفسه أن يزيله عن مقام
أقامه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فانقادوا له و بايعوه .