الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
إن الإسلام لا يقتصر في تربيته لأتباعه على أساليب معينة وجوانب محددة .. ومن
خلال اطلاعي على عدد من الكتب التي تتناول أساليب وطرق التربية و الدعوة إلى
الله ، استوقفني شيء مهم ، وهو أن أغلب هذه الكتب ركز أصحابها على عدد من
الجوانب ، وفي المقابل أهملوا جوانب أخرى لاتقل أهمية عن تلك التي تناولوها
بالدراسة والبحث ؛ فعلى سبيل المثال : فإن بعض الكتب تناولت جانب التربية
بالقدوة – وهي ما نفتقد إليه اليوم إلا من رحم الله حتى بين المربين - ، أو
التربية بضرب الأمثال ، أو التربية عن طريق القصة – وهي المنتشرة والمشهورة
لدى أغلب المربين ، وقد يبلغ الأمر في بعض الأحيان إلى الكذب وتأليف القصص
الخيالية ، والغاية – كما يزعمون – كسب قلوب الشباب - ، أو التربية عن طريق
الترغيب والترهيب – وهي من الطرق التي تتشبث بها بعض الجماعات الدعوية على
الساحة الإسلامية ، وهي مهمة في ذاتها ؛ لكن أن يتعدى الأمر بالاعتماد على
الأحاديث الموضوعة والضعيفة ، فإن هذا لن يؤتي ثمرته المرجوة إذ البناء إذا
لم يكن على أسس متينة سرعان ما ينهار على صاحبه - ، أو أن تكون التربية عن
طريق الأحداث ، أي ما يقع في المجتمع وربطه بحدث معين من سيرة الرسول صلى
الله عليه وسلم أو سير الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان ، مع استخلاص
العبر والدروس منها بما يخدم المصلحة الدعوية – وهو ما نفتقده اليوم ، وما
أكثر الأحداث التي تحتاج منا إلى وقفة متأنية - ، أو أن تكون التربية عن طريق
المداعبة – وهذا الأسلوب وللإسف فُسِّرَ على غير مراده واتُخذ مطية تمتطيه
بعض الجماعات في الساحة الدعوية ، وقد بولغ فيه وتجاوز الحد ووصل الأمر في
بعض الأحيان إلى الإسفاف وقلة الذوق والأدب مع ما يصاحبه من مخالفات شرعية في
بعض الأحيان كالتشبه بالكفار في الملبس و الكلام ، أو التشبه بالمخنثين مع
تقليد حركاتهم وترديد بعض العبارات السوقية أو كلمات لبعض الأغنيات.. وهكذا ،
ولم يفهم المراد من هذا الأسلوب ولم يطلع على حال الرسول صلى الله عليه وسلم
وسيرته مع أصحابه حينما كان يمازحهم ، ولم يفهم المغزى من هذه المداعبة ، وهو
ما سأسعى إلى بيانه في هذا البحث بإذن الله تعالى - .
ولا يعني أن الأساليب التي ذكرت لآنفاً لا تؤدي الغرض والهدف المنشود ، بل
على العكس ، لكن إن أحسن المربي استخدامها .. وما كان تركيزي في هذا البحث
على جانب المزاح والمداعبة إلا لما وجدت من أنها من أنجح أساليب التربية
أحياناً ، إذ القصد من ورائه التحبيب إلى النفوس في جو من الأنس والسرور الذي
يبهج الصدور ، فيسهل على القلب استقبال التربية والتوجيه بانشراح كبير ..
ومن هذا المنطلق وبكوني أعمل في مجال التربية والتعليم ، وقفت على هذه الفجوة
وعايشتها ، وكنت أتسائل لماذا لا يقدم الشباب على الالتزام والسير في ركاب
الصالحين ، وقد كانت أغلب الإجابات الافتقاد إلى القدوة ، أو عدم مسايرة
الواقع – مع التنبيه على عدم التنازل عن أمور ومبادئ أساسية في الشرع - ، أو
عدم فهم نفسيات الشباب ، أو التجهم والعبوس من قبل بعض المربين ، أو التشدد
في بعض الأمور حتى المباح منها ، وقد كانت بعض الإجابات تنناول موضوع بحثنا
هذا وهي أن المربي أو هذا الداعية لايعرف للمداعبة سبيل ولا يعيرها أدنى
اهتمام .. الخ .
لهذا السبب كتبت في هذا الموضوع عله يسد ولو ثغرة بسيطة .. ويكون لبنة على
الطريق ..
وأثناء قراءتي لبعض الكتب التربوية والدعوية كنت أدون ما أقف عليه من أثار
ومواقف للرسول صلى الله عليه وسلم ولأصحابه وللسلف رضوان الله عليهم أجميعن ،
تتعلق بمبدأ التربية بالمداعبة ، وأنقل ما يتعلق بها من أمور وما اشتملت عليه
من فوائد وحكم ، حتى نصل في نهاية الأمر إلى الأسلوب الأمثل في التربية بهذا
الأسلوب ( التربية بالمداعبة ) ..
وإذا كانت المداعبة تحمل في طياتها كل ما ذكرت ، فإنه لابد من أن نقف في هذا
البحث على عدد من المحاور الأساسية ، منها على سبيل المثال : مفهوم المداعبة
، أقسامها ، منهج الإسلام في تقريرها ، أمثلة على مداعبة الرسول صلى الله
عليه وسلم لأهله ، و لأصحابه ، مداعبة الصحابة رضوان الله عليهم بعضهم لبعض ،
مداعبة السلف الصالح بعضهم لبعض ، الآثار المترتبة على التربية بالمداعبة ،
خاتمة البحث ..
والله أسأل التوفيق والسداد والعون الرشاد والحمد لله رب العالمين ..
والآن إلى المضوع ..
مفهوم المداعبة :-
ذكر ابن منظور في لسان العرب ( 1/ 375
– 376 ) في مادة دَعَبَ قوله : داعبه مداعبة : مازحه ، والاسم الدعابة ، و
المداعبة : الممازحة ، وقال : الدعابة : المزاح ، والدُّعْبُبُ : المَّزّاح ،
وأدْعَبَ الرجل : أي قال كلمة مليحة ، .. وقال الليث : فأما المداعبة فعلى
الاشتراك كالممازحة ، اشترك فيه اثنان فأكثر .
وأما في الاصطلاح فالمداعبة كما عرفها ابن حجر في الفتح (10/526 ) : هي
الملاطفة في القول بالمزاح وغيره .
والمداعبة والمزاح شيء واحد ، فهو كلام يراد به المباسطة بحيث لا يفضي إلى
أذى ، فإن بلغ به الأذى فهوسخرية ..
وخلاصة القول في مفهوم المداعبة : هي استغلال بعض المواقف بقول أو فعل يدخل
السرور على الآخرين ، دون جرح للمشاعر أو إهدار للكرامات ، وإذا اشتملت على
مواقف تربوية كانت أكثر فائدة ، وأعظم أثرا .
أقسام المداعبة
يرى بعض
الباحثين أن المداعبة تنقسم – من حيث الجواز وعدمه – إلى قسمين :-
الأول :
ماكان مباحاً لا يوقع في معصية ، ولا يشغل عن طاعة ، على ألا يكثر منه المسلم
، فيطغى على الجدية التي هي الأصل في حياته ، وقد يكون المازح مأجور على
مزاحه إذا أحسن النية ، وكان مقصده من مزاحه مصلحة شرعية .
يقول ابن حجر في الفتح (10/527 ) : فإذا صادف مصلحة مثل تطييب نفس المخاطب ،
ومؤانسته ، فهو مستحب .
ومن هذا الباب كان مزاحه صلى الله عليه وسلم ، وكان مزاح صحابته من بعده ،
وإن كان الصحابة رضوان الله عليهم قد تجاوزوا المزاح بالقول إلى الفعل ، فقد
علل الأستاذ العودة في كتابه الترويح التربوي ( ص 91 ) بقوله : ويستفاد من
ذلك أن المربي القائد يُلزَم بما لايُلزَم به سائر الأفراد حفاظاً على مكانته
أن تبتذل بمزاح مضاد ، وحفاظاً على أفراده في أن يتسبب في إحراجهم بأفعال
يصعب الاعتذار منها .
الثاني :
ما كان منه محرماً ، يخدش الحياء ويجرح الكرامة ويثير الحفيظة – وما أكثره
اليوم - ، وهو المعني بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه : (
لايأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً ) صحيح سنن أبي داود (3/944) .
يقول ابن حجر في الفتح (10/526 ) كلاماً ما معناه : المنهي عنه في المزاح ما
كان فيه إفراط أو مداومة ؛ لأنه يشغل عن ذكر الله ، وعن التفكر في مهمات
الدين ويقسي القلب ويزرع الحقد ويسقط المهابة والوقار ، ثم نقل عن الغزالي
قوله : من الغلط أن يتخذ المزاح حرفة ، وكان هذا رده على من يتخذ مزاحه صلى
الله عليه وسلم دليلاً ، ثم يقول معلقاً على ذلك : حال هذا كحال من يدور مع
الريح حيث دار .
منهج الإسلام في تقرير مبدأ التربية
بالمداعبة :-
لقد اختصت
السنة النبوية بتقرير هذا المبدأ ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
الذي لا ينطق عن الهوى ، ولايقول إلا حقاً ، يداعب أصحابه ويمازحهم ويدخل
السرور على أنفسهم ، ولقد حفلت السنة النبوية المطهرة بكثير من الحوادث التي
تقر هذا الأسلوب المحبب إلى النفوس – وسيأتي ضرب الأمثلة على ذلك في الحلقة
القادمة – ، والذي لا يكاد يخلو من تأديب وتهذيب ، وتلطيف وتلميح ، يزيل
الملل ، ويذهب السآمة ، ويعين على الطاعة ويدخل السرور إلى النفس .
على أن هذا المزاح لم يكن به ما يخدش الحياء ، أو يجرح الكرامة ، وإنما كان
خالياً من الإثم والتهتك ، بعيداً عن الشتائم والسباب ، لأن الإسلام يهذب من
سلوك المسلم حتى في مواطن المزاح .
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يداعب أصحابه مابين الفينة والأخرى ،
ولعل من أبرز المواقف في ذلك ، ولربما هذا الموقف من أول المواقف التي داعب
فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ، ما رواه الإمام أحمد في مسنده ( 2/
360 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قالوا : يارسول الله إنك تداعبنا
! فقال صلى الله عليه وسلم : إني لا اقول إلا حقاً .
لقد تعجب الصحابة رضوان الله عليهم من هذه الممازحة ، وثار في أنفسهم هذا
السؤال ، بعد أن عادوا بأذهانهم إلى الجدية التامة في حياته صلى الله عليه
وسلم ، ثم عايشوا ممازحته ، فانبعث من نفوسهم هذا السؤال ، فكان جوابه صلى
الله عليه وسلم فيه جانب تربوي كبير ، إذ لم يقل صلى الله عليه وسلم : نعم ،
وإنما كان جوابه متضمناً الإقرار بجواز الممازحة ، وزاد على ذلك بقوله : إني
لا أقول إلا حقاً ، ومعنى هذا أن المزاح بالباطل لا يجوز ؛ لأنه يناقض حينئذ
التربية الصحيحة التي هي هدف الإسلام .
على أن مزاحه صلى الله عليه وسلم لم يتعد القول إلى الفعل ، لأنه حينئذ يصل
بصاحبه إلى المزاح المذموم الذي نهى عنه الشارع الحكيم ، يقول الأستاذ العودة
في كتابه الترويح التربوي ( ص 91 ) : من الملاحظ أن مزاح الرسول صلى الله
عليه وسلم كان لا يتعدى القول إلى الفعل كما كان لا يتعدى الصدق إلى غيره .
وإلى لقاء آخر في الحلقة القادمة مع جملة من القصص الطريفة التي مازح فيها
رسول الله صلى الله عليه وسلم أهله وأصحابه وبعض القصص التي مازح السلف فيها
بعضهم بعضاً ، وكان لذلك كله أبلغ الأثر في نفوسهم .. وليكن هذا زاداً
للمربين في استخدام هذا الأسلوب التربوي المؤثر في دعوتهم بشرط مراعات
الضوابط الشرعية في ذلك . والله أعلم ..
مداعبة النبي صلى الله عليه وسلم لأهله ..
لقد كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الأزواج في معاملة أهله ، كيف لا وهو الذي
يقول لأصحابه كما في الحديث الصحيح الذي أورده ابن ماجة في سننه ( 2 / 158 )
من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
خيركم ، خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي .
ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يعمل مع أهله في مهنة البيت حتى تحضر الصلاة ،
فإذا حضرت الصلاة لم يُقدّم عليها شيئاً ، روى البخاري في صحيحه ( 8 / 17 )
من حديث الأسود قال : سألت عائشة رضي الله عنها ما كان النبي صلى الله عليه
وسلم يصنع في أهله ؟ قالت : كان في مهنة أهله ، فإذا حضرت الصلاة قام إلى
الصلاة .
وأيضاً فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمارس هذا النوع من المداعبة في
بيته ومع أهله وخاصته ، والقصص في ذلك كثيرة وهي أيضاً ذات جانب تربوي واضح ،
كما وأن فيها بث لروح جديدة داخل الأسرة ، والتي تساعد بدورها على استمرار
الحياة الزوجية وتدفقها .
بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر اصحابه بزواج البكر ويعلل ذلك بقوله :
تلاعبها وتلاعبك ، وتضاحكها وتضاحكك . الإرواء برقم ( 1785 ) .
ومن الأمثلة على حسن معاشرته صلى الله عليه وسلم لأهله ما كان يداعب به
زوجاته ، مدخلاً بذلك السرور على أنفسهم .
1-
ما أخرج الإمام أحمد في مسنده (6/ 39 ) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت :
خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، وأنا جارية لم أحمل اللحم
ولم أبدن – أي لم تسمن - ، فقال للناس : تقدموا فتقدموا ثم قال لي : تعالى
حتى أسابقك ، فسابقته فسبقته ، فسكت عن حتى إذا حملت اللحم وبدنت ونسيت ،
خرجت معه في بعض أسفاره فقال للناس : تقدموا ، ثم قال : تعالي حتى أسابقك ،
فسابقته فسبقني ، فجعل يضحك ويقول : هذه بتلك .
سبحان الله !! إن السفر مجهد مضني ، والنفوس فيه متعبة ، وإدخال السرور على
الناس وخاصة الزوجة في مثل هذا الموطن من العشرة الحسنة ، بل هي من كريم
الطبع وحسن الخلق .
ونظرة متفحصة إلى واقعنا اليوم و إلى حال الأزواج مع زوجاتهم وخاصة في السفر
تجد العجب العجاب ، تجهم و تكشير وعبوس وكأنه أمر بأن يحمل زوجته على رأسه
وأن يسافر بها ، ما كأن الطائرة أو السيارة هي التي تحمل وتنقل .. أين
التطبيق العملي والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟! لا نطلب منك أن تسابق
زوجتك ، ولكن الانبساط في الحديث وأن ينفتر الوجه عن ابتسامة حنان كفيلة بأن
تدخل السرور على الزوجة والأهل .. وهي بدورها – أي الابتسامة – تريح الأعصاب
وتبدل من حال إلى حال .
2 –
روى ابن ماجة في سننه ( 2/ 158 ) من حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه قال :
قالت عائشة : ما علمت حتى دخلت عليّ زينب بغير إذن ، وهي غضبى – أي أنها
فوجئت بدخول زينب عليها رضي الله عنها – ، ثم قالت : يا رسول الله ! أحسبُكَ
إذا قَلَبَت لك بُنَيَّةُ أبي بكر ذُرَيْعَتَيْها – تصغير الذراع والمقصود
ساعِدَيها – ؟ ثم أقْبَلَتْ عليّ فأعْرَضْتُ عنها ، حتى قال النبي صلى الله
عليه وسلم : دونك فانتصري ، فأقْبَلْتُ عليها ، حتى رأيتها وقد يبس ريقها في
فيها ، ما تَرُدُّ عليّ شيئاً ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه .
الذي نفهمه من هذا الموقف العظيم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعنف زينب
لكونها دخلت عليهما دون إذن ، وخاصة لمن كانت له أكثر من زوجة ، وفي المقابل
طلب من عائشة أن تتصرف في هذا الموقف لترد على زينب هذا التصرف بأسلوب فيه
تربية وإرشاد ، فحصل المطلوب ..
3 –
أخرج الإمام أحمد في مسنده ( 4 / 272 ) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه
قال : جاء أبوبكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسمع عائشة وهي
رافعة صوتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاذن له ودخل فقال : يا ابنة
أم رومان ! وتناولها ، أترفعين صوتك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال
: فحال النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينها ، قال : فلما خرج أبو بكر جعل
النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها يترضاها : ألا ترين أني قد حلت بين الرجل
وبينك ؟ قال : ثم جاء أبو بكر فاستأذن عليه فوجده يضاحكها ، قال : فأذن له ،
فدخل فقال له أبو بكر : يا رسول الله أشركاني في سلمكما كما أشركتماني في
حربكما .
موقف عظيم من رجل عظيم ، ألا وهو موقف أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فهو لم
يتمالك نفسه أن يرى أحداً يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى
ولو كان هذا الشخص ابنته ، فكان تصرفه من دافع المحبة للرسول صلى الله عليه
وسلم ، وفي المقابل كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم موقف الصابر الذي
يتفهم الأمر ولا يعطيه أكثر من حقه ودن تضخيم لهذا الموقف .. فبمجرد أن تم فض
الاشتباك وانصرف الصديق رضي الله عنه عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى
مداعبة عائشة و الحديث معها وكأن شيئاً لم يكن ..
4 –
روى أبو يعلى في مسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت : أتيت النبي صلى الله
عليه وسلم بحريرة قد طبختها له – أي أنها أتته بنوع من الطعام - ، فقالت
لسودة والنبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينهما : كلي ، فأبت ، فقلت : لتأكلين
أو لألطخن وجهك ، فأبت ، فوضعت يدي في الحريرة ، فطليت وجهها ، فضحك النبي
صلى الله عليه وسلم ، فوضع بيده لها ، وقال لها : إلطخي وجهها - أي أنه وضع
من تلك الحريرة في يده لسودة لتلطخ وجه عائشة رضي الله عنها - ، فلطخت وجهي
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم لها .
وهذا الموقف من النبي صلى الله عليه وسلم يدل على مدى عدله بين زوجاته رضوان
الله عليهن أجمعين ، فكما أن عائشة قامت بتلطيخ وجه أم المؤمنين سودة بنت
زمعة ، أعان الرسول صلى الله عليه وسلم سودة على تلطيخ وجه عائشة ، بأسلوب
لطيف ، وكأنه يقول لها هذه بتلك .. ودون أن يترك هذا التصرف منه صلى الله
عليه وسلم في النفوس شيء بين زوجاته ..
5 –
أخرج أبو داود في سننه ( 3/ 209 ) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قَدِمَ
رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر ، وفي سَهْوَتِها سِتْرٌ
، فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لي – لُعَبٍ – فقال : ما هذا يا عائشة
؟ قالت : بناتي ! ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاع ، فقال : ما هذا الذي
أرى وسطهن ؟ قالت : فرس ! قال : وما هذا الذي عليه ؟ قالت : جناحان ، قال :
فرس له جناحان ؟! قالت : أما سمعت أن لسليمان خيلاً لها أجنحة ؟! قالت : فضحك
، حتى رأيت نواجذه .
موقف عظيم .. وتبسط في الحديث .. فهو صلى الله عليه وسلم يرى ويعلم ما في هذا
الستر ، لكنه أحب أن يداعب عائشة و يلاطفها .. فسألها سؤال متحبب ..
6 –
أخرج البخاري في صحيحه برقم ( 6078 ) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لأعرف غَضَبكِ من رضاكِ ، قالت : قلت
وكيف تعرف ذاك يا رسول الله ؟ قال : إنك إذا كنت راضية قلتِ بلى ورب محمد ،
وإذا كنت ساخطة قلت : لا ورب إبراهيم ، قالت : أجل ، لا أهجر إلا اسمك .
هنا النبي صلى الله عليه وسلم أحب أن يداعب عائشة رضي الله عنها .. واحب أن
يطلعها على شيء قد تكون هي غير منتبه له .. وهو قسمها أثناء غضبها .. فمن
خلال هذا القسم كان صلى الله عليه وسلم يعرف ما إذا كانت غاضبة أم راضية ..
وكان جوابها رضوان الله عليها : بأنها لا تهجر إلا اسم النبي صلى الله عليه
وسلم وليس شخصه .. وهذا من شدة حبها له رضوان الله عليها ..
7 –
وأخرج البخاري في صحيحة برقم ( 5211 ) عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى
الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه ، فطارت القرعة لعائشة وحفصة ،
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث ، فقالت
حفصة : ألا تركبين الليلة بعيري وأركب بعيرك تنظرين وأنظر ، فقالت : بلى ،
فركبت فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة فسلم عليها ثم
سار حتى نزلوا وافتقدته عائشة ، فلما نزلوا جعلت رجليها بين الإذخر وتقول :
رب سلط عليّ عقرباً أو حية تلدغني ولا أستطيع أن أقول له شيئاً .
إلى غيرها من المواقف العظيمة في التربية النبوية بالمداعبة ..
مداعبته صلى الله عليه وسلم لأصحابه ..
الحمد لله
والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
انتهينا في الحلقة الماضية من الحديث عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع
أهله و تقرير مبدأ التربية بالمداعبة .. واليوم نتناول مداعبة النبي صلى الله
عليه وسلم لأصحابه .. يحدونا قوله عليه الصلاة والسلام كما أخرجه ابن أبي
الدنيا في قضاء الحوائج وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع ( 1 / 247 )
: إن من أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن سرورا أو تقضي عنه دينا ، أو
تطعمه خبزا .
والآن إلى تلك المواقف التربوية ..
1-
كان صهيب الرومي رضي الله عنه كثير المزاح ، فأراد رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يلاطفه ويدخل السرور على نفسه ، وكان وقتها – أي صهيب - يأكل تمراً
وبه رمد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له كما روى ذلك ابن ماجة في سننه
(2/253 ) : أتأكل التمر وبك رمد ؟! فقال يا رسول الله : إنما أمضغ على
الناحية الأخرى !! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لقد راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحالة التي كان عليها صهيب رضي الله
عنه ، فقد كان مصاباً في عينيه بالرمد ، وهو في حاجة إلى المواساة والملاطفة
التي تدخل السرور على نفسه ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يأكل
التمر : أتأكل التمر وبك رمد ؟! سبحان الله وما دخل أكل التمر بالرمد ؟! وهل
الإنسان يأكل بفمه أم بعينه ؟ وليس في سؤاله صلى الله عليه وسلم إلا الحق ،
فإنه مجرد استفهام لا يغير الحقيقة ، فكان جواب صهيب وقد كان مزاحاً يحمل
دعابة جميلة ، فقال : يا رسول الله إنما أمضغ على الناحية الأخرى !! سبحان
الله ، ومادخل المضغ على أحد الجانبين بالرمد في العين ؟! ولكنها سرعة
البديهة التي أجابت على قدر السؤال ، فإذا حق لنا أن نقول : ما العلاقة بين
أكل التمر وبين الرمد في السؤال ؟ جاز لنا أن نقول : وما العلاقة بين الرمد
وبين الأكل على أحد الجانبين من الفم ، على أن صهيباً رضي الله عنه حين قال
ما قال ، فإنه لم يقل إلا حقاً فإنه عند الأكل إنما كان يمضغ على أحد جانبيه
.
2-
كان من بين الصحابة الذين اشتهروا بكثرة المزاح نعيمان البدري رضي الله عنه ،
فقد ذكر ابن حجر في الإصابة ( 6 / 367 ) : أن أعرابياً دخل على النبي صلى
الله عليه وسلم وأناخ ناقته بفنائه ، فقال بعض الصحابة لنعيمان : لو عقرتها
فأكلناها ، فإنا قد قرمنا من اللحم ، فخرج الأعرابي وصاح : واعقراه يا محمد !
فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : من فعل هذا ؟ قالوا : نعيمان ، فأتبعه
يسأل عنه حتى وجده قد دخل دار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ، واستخفى تحت
سرب لها فوقه جريد ، فأشار رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث هو ، فقال :
ما حملك على ما صنعت ؟ قال : الذين دلوك لي يا رسول الله هم الذين أمروني
بذلك ، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويضحك ثم غرمها للأعرابي .
هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم يشيرون على نعيمان رضي الله عنه بعقر الناقة
ليأكلوا منها ، فلما كُشف أمره دلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ،
فاستخرجه صلى الله عليه وسلم من بين الأعواد ومسح التراب عن وجهه وهو يضحك
متعجباً من فعله رضي الله عنه ، وجرأته على ناقة الأعرابي ، وقد عالج صلى
الله عليه وسلم الموقف بغرم ناقة الأعرابي من ماله .
3-
ذكر ابن حجر في الإصابة (6 /366 ) مزاح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه ،
فقال : قال الزبير : وكان نعيمان لا يدخل المدينة طرفة – أي طعاماً – إلا
اشترى منها ثم جاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقول ها أهديته لك ،
فإذا جاء صاحبها يطلب نعيمان بثمنها ، أحضره إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وقال : أعط هذا ثمن متاعه ، فيقول : أولم تهده لي ، فيقول إني والله لم يكن
عندي ثمنه ، ولقد أحببت أن تأكله ، فيضحك – أي النبي صلى الله عليه وسلم من
هذا الفعل - ، ويأمر لصاحبه بثمنه .
ووقفة متأنية مع نعيمان رضي الله عنه تجعلنا نجل له كل تلك الموقف .. فهو على
الرغم من كثرة مزاحة واشتهاره بين الصحابة بذلك .. فقد كان يضفي على جو
المدينة شيئاً من الدعابة والمرح يتقبلها الرسول صلى الله عليه وسلم بصدر رحب
رغم ما قد تسببه هذه المداعبات من حرج له صلى الله عليه وسلم كما في حادثة
ناقة الأعرابي .. ومع هذا نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم يتقبل هذه
المداعبات منه رضي الله عنه ، ولا يغضب منها بل تدخل البسمة عليه صلى الله
عليه وسلم ويتعجب منها .. و على الرغم من كثرة ما روي عنه رضي الله عنه من
قصص طريفة ومزاحات طاهرة عفيفة إلا أنه كان فوق ذلك كله صاحب عبادة وجهاد وجد
وعمل ، ومن القلائل الذين يسارعون لكل غزوة ومعركة مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم .. فقد شهد بدراً وأحد والخندق وبقية المشاهد مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم وتوفي في خلافة معاوية رضي الله عنه انظر الإصابة ( 3 / 540 )
.
4 –
ومن المواقف العجيبة في حياته صلى الله عليه وسلم وهو يمازح أصحابه موقفه من
العجوز الصالحة الصوامة القوامة ، فقد روى الترمذي في الشمائل ( ص 128 ) أن
عجوزاً أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يارسول الله : ادع الله أن
يدخلني الجنة ، فقال : يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز ، فولت تبكي ،
فقال : أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز ، إن الله تعالى يقول { إنا أنشأناهن
إن شاء فجعلناهن أبكارا عرباً أترابا }[الواقعة/35-36] .
هنا الرسول صلى الله عليه وسلم يمازح هذه العجوز الصالحة قائلاً لها : يا أم
فلان ، وهذا من حسن أدبه صلى الله عليه وسلم في إدخال السرور على الناس ، فإن
تكنية الإنسان مما يدل على التقدير والاحترام الذي أمر به الإسلام .
ثم إنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يقرر حقيقة من حقائق الآخرة ، وهو النعيم
الخالد لأهل الجنة ، في إنشاء النساء إنشاء وجعلهن عرباً أترابا .
5-
ومن مزاحه عليه الصلاة والسلام أنه كان ينادي أحد الصحابة بـ ( ياذا الأذنين
) ورسول الله صلى الله عليه وسلم صادق في وصفه إياه بذلك .. فمن منا ليس له
أذنان ؟!
6-
وأتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعد للجهاد ، فقال له : احملني
يارسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا حاملوك على ولد الناقة ،
فقال الرجل : وما أصنع بولد الناقة ؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وهل
تلد الإبل إلا النوق ؟!
7 –
وعن أنس رضي الله عنه قال : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخالطنا
حتى يقول لأخ لي صغير : يا أبا عمير ! ما فعل النغير ؟ مختصر الشمائل
المحمدية (ص 200) .
ففعل النبي صلى الله عليه وسلم هنا إنما كان من باب التخفيف من حزن الصبي حيث
أنه كان له طائر فمات ، فأراد أن يمازحه فساله : يا أبا عمير ما فعل النغير ؟
ومما تقدم نلاحظ أن مزاح النبي صلى الله عليه وسلم كان فيه تعليم وتهذيب
وتربية .
8 –
وعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً .. وكان صلى
الله عليه وسلم يحبه وكان رجلاً دميماً ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم
يوماً وهو يبيع متاعه ، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره فقال : من هذا ؟ أرسلني
فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر
النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
من يشتري هذا العبد ؟ - وهو بلا شك عبد الله – فقال : يارسول الله إذن والله
تجدني كاسداً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ولكن عند الله لست بكاسد .
مختصر الشمائل ( ص 203 ) .
9 –
وعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم ، فسلمت فرد وقال ادخل ، فقلت : أكلّي
يارسول الله ؟ قال : كلك ، فدخلت . سنن أبي داوود ( 3 / 228 ) .
10-
أخرج البخاري في صحيحه برقم ( 6084 ) من حديث عائشة رضي الله عنها أن رفاعة
القرظي طلّق امرأته فبتّ طلاقها ، فتزوجها بعده عبد الرحمن بن الزبير ، فجاءت
النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إنها كانت عند رفاعة فطلقها
ثلاث تطليقات ، فتزوجها بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وإنه والله ما معه يا
رسول الله إلا مثل هذه الهدبة – لهدبة أخذتها من جلبابها – قال وأبو بكر جالس
عند النبي صلى الله عليه وسلم وابن سعيد بن العاص جالس بباب الحجرة ليؤذن له
، فطفق خالد ينادي أبا بكر ، يا أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول
الله صلى الله عليه وسلم ؟ وما يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم
، ثم قال : لعلك تريدين إن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا حتى تذوقي عُسيلته ويذوق
عُسيلتك .
11 –
وأخرج البخاري في صحيحه برقم ( 6085 ) من حديث محمد بن سعد عن أبيه قال :
استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده
نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته ، فلما استأذن عمر
تبادرن الحجاب ، فاذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل والنبي يضحك ..
الحديث .
12 –
وأخرج البخاري في صحيحه برقم ( 6086 ) من حديث عبد الله بن عمر قال : لما كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطائف قال : إنا قافلون غداً إن شاء الله ،
فقال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نبرح أو نفتحها ، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم فاغدوا على القتال ، قال : فغدوا فقاتلوهم قتالاً
شديداً وكثر فيهم الجراحات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا قافلون
غداً إن شاء الله ، قال : فسكتوا فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
للمزيد من هذه المواقف انظر صحيح البخاري كتاب الأدب باب التبسم والضحك .
وقبل أن أختم أذكر هذه القصة وهذا الموقف التربوي العظيم .. وهي قصة خوات بن
حبير مع الرسول صلى الله عليه وسلم والتي يرويها فيقول : نزلت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم مر الظهران ، فخرجت من خبائي فإذا نسوة يتحدثن فأعجنبي ،
فرجعت فأخذت حلة لي من حبرة فلبستها ، ثم جلست إليهن .. وخرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم من قبته فقال : يا أبا عبد الله ما يجلسك إليهن ؟ فهبت رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يارسول الله جمل لي شرود أبتغي له قيداً ..!
قال خوات فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فالقى رداءه ، ودخل الأراك فقضى
حاجته وتوضأ ثم جاء فقال : يا أبا عبد الله ما فعل شراد جملك ؟ ثم ارتحلنا
فجعل لا يلحقني في منزل إلا قال لي : السلام عليك يا أبا عبد الله ما فعل
شراد جملك ؟ .. قال : فتعجلت المدينة ، فتجنبت المسجد ومجالسة رسول الله صلى
الله عليه وسلم فلما طال ذلك تحينت ساعة خلوة المسجد فجعلت أصلي فخرج رسول
الله صلى الله عليه وسلم من بعض حجره فجاء يصلي فصلى ركعتين خفيفتين ثم جاء
فجلس ، وطولت رجاء أن يذهب ويدعني ، فقال صلى الله عليه وسلم : طول يا أبا
عبد الله ماشئت فلست بقائم حتى تنصرف .. فقلت : والله لأعتذرن لرسول الله صلى
الله عليه وسلم ولأبردن صدره .. قال : فانصرفت فقال : السلام عليك يا أبا عبد
الله ما فعل شراد جملك ؟ فقلت : والذي بعثك بالحق ما شرد ذلك منذ أسلمت ..
فقال عليه الصلاة والسلام : رحمك الله ( مرتين أو ثلاثاً ) ثم أمسك عني فلم
يعد . مجمع الزوائد ( 9 / 401 ) وقال الهيثمي رجالها رجال الصحيح .
في هذه القصة جانب تربوي هام وهو المعاتبة بالمداعبة وتكرار ذلك إلى أن يؤتي
ثمرتها ، كما أن فيها جانب من الطرفة لا يخفى .
ومن هنا يخلص الداعية إلى أن أسلوب الممازحة والمداعبة من الأساليب التي
قررتها التربية الإسلامية ، وجعلت فيها من الدروس التربوية والتدابير
الوقائية ما هو كفيل بصياغة الشخصية الإسلامية صياغة متزنة في كل جانب من
جوانب حياتها .
مداعبة الصحابة بعضهم لبعض .. ومداعبة السلف
بعضهم لبعض ..
الحمد لله
والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
انتهينا في الحلقة الماضية من الحديث عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع
أصحابه و تقرير مبدأ التربية بالمداعبة .. واليوم نتناول مداعبة أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض .. كما نعرج على بعضاً من المواقف الطريفة
والتي مارسها السلف الصالح رحمة الله عليهم والهدف منها التربية الإسلامية
بالمداعبة ..
فقد كان الصحابة رضي الله عنهم أجمعين يرون في رسول الله صلى الله عليه وسلم
روح الدعابة والابتسامة والمرح ، فأخذوا هذا عنه صلى الله عليه وسلم ، فكان
بعضهم يلاطف بعضاً ويداعبه ..
*
ذكر الهيثمي في المجمع ( 8 / 89 ) وعزاه إلى الطبراني عن قرة قال : قلت لابن
سيرين : هل كانوا يتمازحون - يعين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – ؟ قال :
ما كانوا إلا كالناس .
*
وسئل النخعي : هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون ؟ قال : نعم
والإيمان في قلوبهم مثل الجبال الرواسي .
وهذه صور من مداعبة بعضهم لبعض ..
1-
ذكر ابن حجر رحمه الله في الإصابة ( 3/ 185 ) في ترجمة سُوَيبط بن حَرْملة ،
والإمام أحمد في مسنده (6/316 ) عن أم سلمة أن أبا بكر رضي الله عنه خرج
تاجراً إلى بصرى ومعه نعيمان و سويبط بن حرملة رضي الله عنهما وكلاهما بدري ،
وكان سويبط على الزاد ، فقال له نعيمان : أطعمني ، قال - يعني سويبط - : حتى
يجيء أبو بكر .
وكان نعيمان مِضحاكاً مَزّاحاً ، فذهب إلى ناس جلبوا ظَهراً ، فقال : ابتاعوا
مني غلاماً عربياً فارهاً .
قالوا : نعم .
قال : إنه ذو لِسَان ، ولعله يقول أنا حُرّ ، فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوني
ولاتفسدوه عليّ .
فقالوا : بل نبتاعه .
فابتاعوه منه بعشرة قلائص ، فأقبل بها يسوقها ، وقال : دونكم هو هذا .
فقال : سويبط : هو كاذب ، أنا رجل حرّ .
قالوا : قد أخبرنا خَبرك .
فطرحوا الحبل في رقبته وذهبوا به ، فجاء أبو بكر فأُخبر ، فذهب هو وأصحابه
إليهم فردوا القلائص وأخذوه ، ثم أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ،
فضحك هو وأصحابه منها حولاً .
2-
أخرج الإمام مسلم في صحيحه (6/ 15 – 16 ) من حديث علي رضي الله عنه قال : بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليهم علقمة بن مجزز ، وأنا فيهم ، فخرجنا
حتى إذا كنا ببعض الطريق ، استأذنه طائفة فأذن لهم ، وأمّر عليهم عبد الله بن
حذافة ، وكان من أهل بدر ، وكانت فيه دعابة ، فبينا نحن في الطريق ، فأوقد
القوم ناراً يصطلون بها ، ويصنعون عليها صنيعا لهم ، إذ قال : أليس لي عليكم
السمع والطاعة ؟ قالوا : بلى . قال : فإني أعزم عليكم بحقي وطاعتي إلا
تواثبتم في هذه النار ، فقام ناس فتحجزوا حتى إذا ظن أنهم واقعون فيها ، قال
: أمسكوا ، إنما كنت أضحك معكم ، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه
وسلم ذكروا ذلك له ، فقال : ( من أمركم بمعصية فلا تطيعوه ) وفي رواية أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم
القيامة ) .
3-
وإن كانت مداعبة بعضهم لبعض في بعض الفترات تتعدى القول إلى الفعل ، فقد روى
البخاري في الأدب المفرد ( ص 99 ) من حديث بكر بن عبد الله قال : كان أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم يتبادحون بالبطيخ ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم
الرجال .
إن النفوس حين تكون في عظمتها كهذه النفوس فلا مانع أن يتعدى مزاحها القولي
إلى الفعل الذي يحقق من ورائه فائدة ، فإن هذا التبادح بالبطيخ فيه فائدة
التعود على الرمي الذي أمر به صلى الله عليه وسلم وفسر القرآن به في قول الله
تبارك وتعالى { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو
الله وعدوكم }[الأنفال/60] ، فقد قال صلى الله عليه وسلم في تفسير القوة في
هذه الآية كما روى ذلك الإمام مسلم في صحيحه ( 3 / 52 ) فقال : ألا إن القوة
الرمي ، ألا إن القوة الرمي ، ألا إن القوة الرمي .
4-
وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه صحب دعابة كما أخبر بذلك أبو رافع .. وهو ما
ذكره الذهبي في السير ( 2 / 614 ) أن مروان بن الحكم استخلف أبا هريرة على
المدينة ، فكان أبو هريرة رضي الله عنه يركب حماراً ببرذعة ، وفي رأسه خُلبَة
من ليف – أي الحبل الرقيق الصلب من الليف والقطن - ، فيسير ، فيلقى الرجل
فيقول : الطريق ! قد جاء الأمير .!!
وربما أتى الصبيان وهم يلعبون بالليل لعبة الأعراب ، فلا يشعرون حتى يلقي
بنفسه بينهم ، ويضرب برجليه ، فيفزع الصبيان فيفرون .
وربما دعاني إلى عشائه ، فيقول : دع العُراق – العظم الذي أخذ عنه معظم اللحم
- للأمير . فأنظر فإذا هو ثريد بزيت .
5 –
وأيضاً ما حدّث به ثعلبة بن أبي مالك القرظي قال : أقبل أبو هريرة في السوق
يحمل حزمة حطب ، وهو يومئذ خليفة لمروان ، فقال : أوسع للأمير . السير ( 2 /
614 ) .
6-
وري عن أبي الدرداء أنه كان لا يتحدث إلا وهو يبتسم ، فقالت له أم الدرداء :
إني أخاف أن يرى الناس أنك أحمق . فقال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم حدث حديثاً إلا وهو يبتسم في حديثه . انظر الشباب والمزاح ( ص 26 ) .
7 –
خرج عبد الله بن عمر وعبد الله بن عياش من المسجد ، فلما كانا على بابه كشف
كل واحد منهما ثيابه حتى بدت ساقه ، وقال لصاحبه : ما عندك خير ، هل لك أن
أسابقك . نفس المرجع .
وإذا كان بعض الصحابة قد اشتهر
بالمزاح فإن التابعين قد اشتهر بعضهم بالمزاح على جلالة قدرهم ، وعلو منزلتهم
.
1-
فها هو سفيان الثوري رحمه الله كما ذكر ذلك الذهبي في السير ( 7 /275 ) عن
قبيصة قال : كان سفيان مزاحاً ، كنت أتأخر خلفه مخافة أن يحيرني بمزاحه .
وروى الفسوي عن عيسى بن محمد : أن سفيان كان يضحك حتى يستلقي ويمد رجليه .
2 –
وكان الإمام الصوري رحمه الله فيه حسن خلق ومزاح وضحك ، ولم يكن وراء ذلك إلا
الخير والدين ، ولكنه كان شيئاً جُبل عليه ، ولم يكن في ذلك بالخارق للعادة ،
فقرأ يوماً حزءاً على أبي العباس الرازي وعنّ له – أي تذكر – أمراً ضحّكه ،
وكان بالحضرة جماعة من أهل بلده ، فأنكروا عليه ، وقالوا : هذا لا يصلح ولا
يليق بعلمك وتقدمك أن تقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم وأنت تضحك .
وكثّروا عليه ، وقالوا : شيوخ بلدنا لا يرضون بهذا ، فقال : ما في بلدكم شيخ
إلا يجب أن يقعد بين يدي ويقتدي بي ، ودليل ذلك أني قد صرت معكم على غير موعد
، فانظروا إلى أي حديث شئتم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، اقرؤوا
إسناده لأقرأ متنه ، أو اقرؤوا متنه حتى أخبركم بإسناده . السير ( 17 / 629 )
.
3 -
وهذا التابعي الجليل سليمان بن مهران الأعمش رحمه الله ، والذي يقول عنه
الذهبي كما في السير (6/ 227 – 228 ) ما خلاصته : هو الإمام شيخ الإسلام ،
شيخ المقرئين والمحدثين ، علامة الإسلام ، من كبار العباد ، لم تفته تكبيرة
الإحرام قريباً من سبعين سنة ..
كان هذا التابعي الجليل صاحب دعابة
لطيفة ، ونكتة خفيفة ، وفي بعضها من الدروس التربوية ما لايخفى ، فمن ذلك :-
أ -
أنه قال مرة من المرات وهو يَسْعُل ، بلغني أن الرجل إذا نام حتى يصبح – يعني
لم يصل – توركه الشيطان فبال في أذنه ، وأنا أرى أنه قد سلح في حلقي الليلة .
السير (6 / 231) .
ب –
وأنه ذكر مرة حديث ( ذاك بال الشيطان
في أذنه ) فقال : ما أرى عيني عمشت إلا من كثرة ما يبول الشيطان في أذني .
السير ( 6 / 232 ) .
ت -
خرج الأعمش فإذا بجندي ، فسخره ليخوض به نهراً ، فلما ركب الأعمش – يعني على
ظهر الجندي – قال الأعمش : { سبحان الذي سخر لنا هذا } ، فلما توسط به الأعمش
قال : { وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين }[ المؤمنون /29 ]
ثم رمى به . السير ( 6 / 238 ) .
ث -
سأل أبو داود الحائك ، الأعمش : ما تقول يا أبا محمد في الصلاة خلف الحائك ؟
فقال : لا بأس بها على غير وضوء ، قال : وما تقول في شهادته ؟ قال : تقبل مع
عدلين . السير ( 6 / 234 ) .
ج –
وكان للأعمش ولد مغفل ، فقال له : اذهب فاشتر لنا حبلاً للغسيل ، فقال : يا
أبه : طول كم ؟ قال عشرة أذرع ، قال : في عرض كم ؟ قال : في عرض مصيبتي فيك .
السير ( 6 / 239 ) إلى غيرها من المواقف التي تجدها في ترجمته في السير ( 6 /
226 – 248 ) .
4 –
قال الربيع : دخلت على الشافعي وهو مريض ، فقلت : قوى الله ضعفك ، فقال : لو
قوى ضعفي قتلني ، قلت : والله ما أردت إلا الخير ، قال : أعلم أنك لو شتمتني
لم ترد إلا الخير .
5 –
دخل الشعبي الحمام فرأى داود الأودي بلامئز ، فغمض عينيه ، فقال له داود :
متى عميت يا أبا عمرو ، قال : منذ هتك الله سترك .
6 –
ومزح الشعبي في بيته فقيل له : يا أبا عمرو ، وتمزح ؟ قال : قرّاء داخل
وقرّاء خارج ، نموت من الغم .
7 –
قال أحد الصالحين عن محمد بن سيرين رحمه الله : كان يداعبنا ويضحك حتى يسيل
لعابه ، فإذا أردته على شيء من دينه كانت الثريا أقرب إليك من ذلك .
8 –
جاء رجل إلى أبي حنيفة فقال له : إذا نزعت ثيابي ودخلت النهر أغتسل ، فإلى
القبلة أتوجه أم إلى غيرها ؟ فقال له : الأفضل أن يكون وجهك إلى جهة ثيابك
لئلا تسرق .
9 –
قيل لأحد السلف : هل نصافح النصارى ؟ فنظر إلى السائل وقال : نعم برجلك ! .
10 –
قيل للخليل بن أحمد : إنك تمازح الناس ، فقال : الناس في سجن ما لم يتمازحوا
. انظر : الشباب والمزاح ( ص 25 – 28 ) .
لقد كانوا رحمهم الله إلى جانب ما هم عليه من العلم والعبادة والزهد والورع ،
على قدر كبير من التودد إلى الناس ، وإدخال السرور عليهم ، متأولين قول
الرسول صلى الله عليه وسلم : إن من أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك المؤمن
سرورا .. الحديث . صحيح الجامع ( 1 / 247 ) .
النتائج التي
تترتب على هذا النوع من التربية ، بمعنى آخر : المحصلة النهائية للتربية
بالمداعبة ..
الحمد لله
والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
انتهينا في الحلقات الماضية من الحديث عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع
أزواجه و أصحابه و تقرير مبدأ التربية بالمداعبة .. ثم عرجنا على مداعبة
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم لبعض .. كما تناولنا بعضاً من المواقف
الطريفة والتي مارسها السلف الصالح رحمة الله عليهم والهدف منها التربية
الإسلامية بالمداعبة ..
واليوم إن شاء الله نتناول النتائج التي تترتب على هذا النوع من التربية ،
بمعنى آخر : المحصلة النهائية للتربية بالمداعبة ..
في هذا النوع من التربية ( التربية بالمداعبة ) بعض الجوانب الوقائية والتي
تدخل في العملية التربوية والتي لها أثرها في تربية النفوس ، سواء كان ذلك هو
المحصلة النهائية من الدعابة ، أو كانت في أحد مواقفها وأحداثها ..
إن النفس – وهي تعافس ضيعات الحياة – يصيبها من الفتور ما يصيبها ، فيبلى
الإيمان في صدر العبد كما يبلى الثوب على ظهره ، وفي هذا المعنى يقول رسول
الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما : ( إن
الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ، فاسألوا الله تعالى أن يجدد
الإيمان في قلوبكم ) . صحيح الجامع ( 1 / 330 ) .
بل ربما تنكر للعبد قلبه في فترة من الفترات ، وهذه طبيعة النفوس البشرية ،
والعبد ما بين الفينة والأخرى في حاجة إلى أن ينفض عنه غبار الغفلة وصدأ
القلب ، بالترويح عن نفسه وعمن حوله ، حملاً للنفس على الخير ، ووقاية لها من
الملل .
روى الإمام مسلم في صحيحه ( 8/ 95 ) من حديث حنظلة رضي الله عنه قال : كنا
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظنا فذكر النار ، قال ثم جئت إلى البيت
فضاحكت الصبيان ولاعبت المرأة ، قال : فخرجت فقلت : يا أبا بكر فذكرت ذلك له
فقال : وأنا قد فعلت ما تذكر ، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت
يا رسول الله : نافق حنظلة ، فقال : مه ؟ فحدثت بالحديث فقال أبو بكر : وأنا
قد فعلت مثل ما فعل ، فقال : ( يا حنظلة ، ساعة وساعة ، ولو كانت تكون قلوبكم
كما تكون عند الذكر لصافحتكم الملائكة حتى تسلم عليكم في الطريق ) .
وقد ذكر النووي في شرحه للحديث ( 17 / 73 ) ما معناه : حنظلة الأسيدي هو أحد
كتّاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خشي على نفسه النفاق بمعافسة الأزواج
والأولاد والضيعات ، فقد كان يحصل له الخوف في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم
وذلك بالمراقبة والفكر والإقبال على الآخرة ، فإذا خرج اشتغل بالزوجة
والأولاد ومعاش الدنيا ، وقد خشي أن يكون ذلك نفاقاً فأخبره النبي صلى الله
عليه وسلم أنها ساعة وساعة .
وذكر المباركفوري في التحفة ( 7 / 318 ) في بيان معنى الساعة : أي ساعة كذا
وساعة كذا ، يعني لا يكون الرجل منافقاً بأن يكون في وقت على الحضور وفي وقت
على الفتور ، ففي ساعة الحضور تؤدون حق ربكم ، وفي ساعة الفتور تقضون حظوظ
أنفسكم .
إن الساعة الأولى التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث : هي
ساعة للعبادة يؤدي فيها العبد ما أوجبه الله عليه من الحقوق ، وساعة يمشي في
مناكب الأرض يأكل من رزق الله ويبتغي من فضله ، يدل على ذلك حديث حنظلة
السابق ، فإنه ذكر أنه يقضي ساعة في المسجد يتعلم بين يدي رسول الله صلى الله
عليه وسلم شرائع الإسلام ، ثم يقضي الساعة الثانية بين الزوجة والأولاد
والضيعات ، وفي هذا رد على الذين يظنون أن الساعة الثانية التي ذكرت في
الحديث هي ساعة اللهو المحرم ، والعبث الباطل الذي وردت نصوص الشرع بتحريمه .
ومن حديث حنظلة نخلص إلى أن معافسة الزوجة والأولاد يدخل فيه جانب الدعابة
والممازحة ، بتخصيص وقت لهم ، وهو من اللهو المباح الذي نص عليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم في قوله : ( اللهو في ثلاث ، تأديب فرسك ، ورميك بقوسك ،
وملاعبتك أهلك ) . صحيح الجامع ( 2 /965 )
وخلاصة القول : إن النفس في حاجة إلى أن يكون لها فسحة في الحلال ، وفرجة في
المباح ، حتى يكون ذلك وقاية لها من الملل والسآمة ، وحفزاً لها على النشاط
والحيوية في استقبال أعمال جديدة بها يؤدي العبد حق ربه عليه .
وإذا اشتملت الدعابة على توجيه وتربية ، كانت أعظم أثراً وأكثر فائدة ، وكانت
إلى جانب سعادة العبد في الدنيا ، أجراً له عند الله عزوجل في الآخرة .
وفي قصة خوات بن جبير رضي الله عنه كما مر معنا ، ما يجلي هذه الحقيقة . ففي
قصة خوات بن جبير رضي الله عنه للمربين دروساً وعبرا ، وذلك بما اشتملت عليه
من الجوانب الوقائية العظمية التي لا غنى للمربي الناجح عنها ، ومن ذلك :-
1-
في وقاية النفس من الإصرار والعناد ، شرع الإسلام جانب الرفق في النصيحة ،
لما له من الأثر الواضح في تغيير السلوك ، وتصحيح الخطأ ، فهذا رسول الله صلى
الله عليه وسلم يرى خواتاً بين النساء بعد نزول آية الحجاب بدليل أنه أنكر
عليه ذلك ، فلم يعنفه صلى الله عليه وسلم بقول ولا فعل ، وإنما سلم عليه
أولاً ، ثم كناه ثانياً ، ثم لاطفه في الحديث الثاثاً ، فكان لهذا الأسلوب
أبلغ الأثر في قلب خوات ، الذي لم يعد بعدها إلى مجالسة النساء أبداً ، كما
ذكر ذلك الطبراني في معجمه . انظر المجمع للهيثمي ( 9 / 401 ) .
إن على المربين أن يعقلوا حقيقة أن الرفق ما كان في شيء إلى زانه ، ومانزع من
شيء إلا شانه ، وأن المربي الناجح هو الذي لا يلجأ إلى الشدة في النصح إلا
بعد أن يستنفذ كل ما في جعبته من وسائل الرفق واللين ، وحين لا يجدي ذلك فقد
شرع الإسلام العقوبة التي هي إحدى الوسائل التربوية الإسلامية ، وهي وسيلة
علاج ناجحة تؤتي ثمارها حين لا يحقق اللين ثماره .
2 –
في الوقاية من الكذب شرع الإسلام المعاريض التي يلجأ إليها عند الحاجة الماسة
لئلا يقع الإنسان في الكذب المحرم ، فهذا خوات بن جبير رضي الله عنه يعرض
بالجمل الذي شرد عليه ، وإنما يقصد نفسه رضي الله عنه ، ذلك أن المرأة قيد
للرجل عن الحرام ، قال الله تعالى عن النساء { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن
}[البقرة/187] .
ولهذا بوب البخاري في صحيحه باباً قال فيه : باب المعاريض مندوحة عن الكذب ،
ثم قال ذكر قصة أبي طلحة مع زوجته أم سليم حين سألها : كيف الغلام ؟ قالت :
هدأت نفسه ، وأرجو أن يكون قد استراح وظن أنها صادقة . البخاري ( 8 / 57 – 58
) .
3-
في وقاية النفس من تبلد الإحساس ، لم يكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم على
خوات بن جبير رضي الله عنه من المعاتبة ، لأن كثرة المساس تبطل الإحساس ،
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربيته لأصحابه يتخولهم بالموعظة
خشية السآمة ، فقد روى البخاري في صحيحه ( 1/ 27 ) من حديث أبي وائل قال :
كان عبد الله – يعني ابن مسعود - يُذكر الناس في كل خميس ، فقال له رجل يا
أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم ، قال : أما إنه يمنعني من ذلك أني
أكره أن أُمِلَّكُم ، وإني أتخولكم بالموعظة ، كما كان النبي صلى الله عليه
وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا .
وفي رواية الإمام مسلم ( 8 / 142 ) عن شقيق قال كنا جولس عند باب عبد الله
ننتظره فمر بنا يزيد بن معاوية النخعي فقلنا أعلمه بمكاننا ، فدخل عليه فلم
يلبث أن خرج علينا عبد الله فقال : إني أخبر بمكانكم فما يمنعني أن أخرج
إليكم إلا كراهية أن أُمِلَّكُم ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يتخولنا بالموعظة في الأيام مخافة السآمة علينا .
ولهاذ كان من الواجب على المربي أن يعي هذه الحقيقة ، فإن الإنسان حين يحدّث
كل يوم عن الموت أو النار ، أو حتى عن الجنة وما أعد الله لأهلها ، ربما فقدت
النفوس – بكثرة ذلك – الإحساس ، ولكن التخول والاقتصاد يؤتي ثماره ، وهذا ما
وعاه السلف رضوان الله عليهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ، فقد كان عبد الله
بن مسعود يعظ الناس ويذكرهم بالله ، وهم يطلبون منه المزيد ، فيمتنع مع أنهم
رضي الله عنهم من أبعد الناس عن السآمة والملل من ذكر الله ، ولكنها الوقاية
التي تدع ما لا بأس به مخافة ما به بأس .
الآثار التربوية للتربية بالمداعبة ..
الحمد لله
والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
انتهينا في الحلقة الماضية من الحديث عن النتائج التي تترتب على هذا النوع من
التربية ، بمعنى آخر : المحصلة النهائية للتربية بالمداعبة .. واليوم مع
الآثار التربوية للتربية بالمداعبة ..
أسلوب المداعبة من أنجع الأساليب التربوية التي لها أبلغ الأثر في تربية
النفوس ، كما أنها تعد من حسن الخلق ، وسماحة النفس ، وكرم الطبع ، ولين
الجانب ، ومحبة الآخرين ..
إن المربي الناجح هو الذي يسخّر كل طاقاته وإمكانياته لخدمة رسالته التي
يحملها ، حتى وهو يداعب غيره ويلاطفه ، حين يستغل هذه الفرصة التي تتهيأ فيها
النفوس لاستقبال النصيحة ، وهذا ما أدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
يربي أصحابه بآيات الله والحكمة ، فقد كان يداعبهم ويمازحهم ويدخل السرور على
أنفسهم ، حتى ثار في أنفسهم العَجب من ممازحته صلى الله عليه وسلم لهم ، فقال
قائلهم : إنك تداعبنا يا رسول الله ! فكان الجواب يتضمن تقرير هذا المبدأ ،
مع زيادة في الجواب تبين أن صاحب الرسالة وهو يداعب غيره من زوجة وأهل وولد
وصديق ، لا يتنازل عن مبادئه التي يحملها ، فلا يكون جاداً في مواطن الجد
متهتكاً في مواطن المزاح ، بل إن مواطن المزاح والمداعبة لتستغل في التوجيه
والتربية والإصلاح استغلالاً يجعل الحياة كلها لله تعالى ..
إن المحصلة النهائية من الدعابة تكمن
فيما يلي :-
1-
إدخال السرور على النفس .
2-
تزيل الملل الذي ربما يعلق بالنفس نتيجة لما قد يعترض الإنسان في حياته من
الهموم والأحزان .
3-
تبعث على النشاط والمرح والضحك الذي يغير روتين الحياة .
4-
تثير في النفس محبة الناصح والراحة النفسية عند لقائه .
5-
تَقَبُّل النصيحة والموعظة والتربية ، بنفسية منشرحة .
على أن القصة التي ترد وفيها من صور المداعبة ما فيها ، تشتمل على جوانب
تربوية أخرى ، يحددها طبيعة الشخص والمواقف والملابسات والظروف التي تصنع هذا
الحدث ..
وعوداً على بدء .. ففي قصة خوات بن جبير رضي الله عنه ، جوانب تربوية عظيمة ،
فبالإضافة إلى أنها أسلوب رائع من الأساليب التي تشرح الصدر وتثير مكامن
السرور في النفس ،
فإنها قد تضمنت عدد من الأثار :-
1-
التعامل مع الإنسان في تربيته على أنه عرضة للوقوع في الخطأ .
2-
التعامل مع الإنسان على أنه كائن له غرائز وشهوات .
3-
نظرة الإسلام إلى الإنسان على أنه غير معصوم من الخطأ .
4-
دعوة المسلم إلى حسن المظهر ، ليكون في وجوه الناس كأنه شامة .
5-
الحذر من الكذب الذي يهدي إلى الفجور ، ثم إلى النار .
6-
التعريض في الحديث حين لا يريد الإنسان الإدلاء بالحقيقة لمصلحة ما ، فإن في
المعاريض لمندوحة عن الكذب .
7-
التكرار – المعتدل – في عرض أسلوب التربية والتوجيه لتتحقق الفائدة المرجوة
منه .
8-
الدعاء للمسلم المخطئ وتكرار ذلك .
9-
الحذر من التكرار الممل الذي يبعث السآمة في النفوس ، أو لربما كان سبباً في
تبلد الإحساس .
وختاماً :-
من روعة الإسلام في تربيته لأتباعه ،
أنه ما جعل طرائق التربية وأساليبها على صورة واحدة ، لأنه ربما تملها النفوس
، وتسأمها القلوب ، وإنما جعل لذلك أساليب متعددة ، وطرائق متجددة ..
- فتارة يربي بالقدوة التي هي من أعظم الأساليب التربوية على الإطلاق – وما
أحوجنا إلى القدوات – ؛ لكونها ترسل إلى الغير رسالة صامتة على أن هذا هو
الحق وأن تطبيقه ليس بالأمر المستحيل ، بل هو في متناول الجميع ، وفي مقدور
كل أحد ، وليست الأمة اليوم في حاجة إلى شيء أكثر من حاجتها إلى قدوات في كل
ميدان .
- وتارة يربي بالقصة التي ترسل إلى الآخرين رسالة مؤثرة بما تشتمل عليه من
الدروس والعبر والمواقف ، مع ما تشتمل عليه من قوة التأثير ، حين تشد
الإنتباه وترحك الوجدان ، وتثير الانفعال وتحدث الإقناع .
- وتارة يربي بضرب الأمثال حين يربط بين معنيين أحدهما غائب عن النفس والآخر
حاضر مشاهد ، فتقريب صورة الغائب عن الحس إلى عالم المحسوس المشاهد ، مثيرة
للعقل والقلب والعاطفة على حد سواء .
- وتارة يربي بالأحداث ، فيستغل كل حدث يقع ليعطي فيه صورة مؤثرة من التربية
والتوجيه ، فتظل تعلق بخفايا النفس فترة طويلة من الزمن .
- وتارة يربي بالترغيب والترهيب في موازنة مدروسة ، لتقارن النفس حين تسمع
الخير ونتائجه وآثاره ، ثم تنتقل إلى الجانب الآخر فتسمع الشر ونتائجه وآثاره
، لتقارن بين الحالتين .
- وتارة يربي بالمداعبة التي تدخل السرور إلى النفس وتمهد الطريق للنصح
والتوجيه في أسلوب محبب .
- وقد يدعو الإسلام إلى التربية بالعقوبة !! حين تستنفد كل الوسائل التربوية
السالفة الذكر ، فجعل للوالد سلطة في ضرب – الغير مبرح - أولاده ، وجعل للزوج
سلطة في ضرب زوجته ، وجعل العقوبات والتعازير لكل من تسول له نفسه العدوان
على الأفراد أو المجتمعات وكل ذلك بالضوابط الشرعية التي قررها الإسلام .
إلى غير ذلك من الأساليب الكثيرة التي حفلت بها التربية الإسلامية ، وإنما
كان السر في ذلك – أي السر في تنوع هذه الأساليب - حسب تصوري حتى لا تمل
النفس ويتبلد إحساسها حين يتكرر عليها أسلوب واحد من هذه الأساليب التي ذكرت
آنفاً ، فتفقد على أثر ذلك تربيتها الصحيحة .
و الله أعلم والحمد لله رب العالمين ..