الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
سألني مرة أحد الإخوة الكرام عن كتاب البداية والنهاية ، وكان سؤاله
( ما هي الكتب التي تنصحني بقراءتها
لأكون مطلعاً جيداً على أحداث التاريخ ، يضيق صدري كثيراً إذا قرأت البداية
والنهاية حيث إني لا أميز الصحيح من الضعيف وما هو الخبر الذي يعتمده ابن
كثير ) .
وكان الجواب كما يلي :-
أما بخصوص استفسارك .. فإني أود أولاً
أن أعطيك فكرة عن منهج ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية .. و عن
نوعية الأخبار التي يعتمدها في سرده للأحداث و بالأخص عصر الرسالة على صاحبها
أفضل الصلاة وأتم التسليم .. والعصر الراشدي – العصر الذهبي – .
يتمثل منهج ابن كثير باختصار كما بينه رحمه الله في مقدمة تاريخه ، ثم أعاده
مراراً وتكراراً في شتى فصول كتابه ، بمناسبات فحص الروايات ، و كشف زيف
الأخبار الإسرائيلية ونقدها .
ولكنه منهج يدور حول الإسرائيليات ، فلا يمكن تطبيقه إلا في قسم المبتدأ ،
حيث كثرت فيه الروايات الإسرائيلية والأخبار الموضوعة ، لجهل الناس بأحوال
الأمم الماضية ، و دخول أهل الكتاب في الإسلام .. فكانوا سبباً في نشر ما
توارثوه من أخبار تشبه الأساطير الخرافية والقصص الشعبية .
لكن ابن كثير رحمه الله شغل في هذا الموضوع – الإسرائيليات - ، فنسي في بيان
منهجه ذكر سواها ، ووضع كل ثقله على هذه النقطة الحساسة ، فبسط في بيان منهجه
فيها وأكثر من تطبيقه في تاريخه ، كما طبقه أولاً في تفسيره . انظر منهجه هذا
في : البداية والنهاية (1/6 – 7 ) و تفسير ابن كثير (1/3 – 5 ) .
هذا بالنسبة لقسم المبتدأ من البداية والنهاية ، أما بعد ذلك فلم يحدد لنا
ابن كثير رحمه الله منهجاً سار عليه ، واتبعه منذ السيرة النبوية إلى نهاية
كتابه ، و لكن من يتتبع تاريخ ابن كثير يجد أن مؤرخنا اتبع في كل قسم من
أقسام كتابه منهج و ترتيب المؤرخين القدامى الذين استقى منهم مواد تاريخه ،
وقد اختار مصادر كتابه التاريخي من بين المؤرخين وأهل السير الذين اتصفوا
مثله برسوخهم وعلو كعبهم في العلوم الدينية وخاصة علم الحديث .
ففي قسم السيرة النبوية اهتدى ابن كثير بطريقة ابن إسحاق وابن هشام والسهيلي
، كما تأثر في ذكر حوادث القرون الأولى من تاريخ الإسلام بتاريخ الطبري وابن
الأثير اللذين جعلهما مثلاً له و نموذجاً سار عليه .
واتبع طريقة ابن الجوزي ومن يمثل مدرسته مثل سبط ابن الجوزي و غيرهما في
تاريخ القرون المتأخرة ، كما تأثر بهم تأثيراً بالغاً في تفصيل التراجم
والتوسع فيها وتطويلها وفي ذكر الأخبار العلمية والثقافية والاهتمام بالظواهر
الخارقة والغرائب النادرة .
أما في تاريخ عصره فقد سجل ما رآه بعينه ، وما سمعه بأذنه وما اطلع عليه من
الوثائق الرسمية والرسائل الشخصية وما تلقاه شفهياً من المعلومات .
وقد غلب على ابن كثير منذ أول كتابه إلى نهاية السيرة النبوية أثر الحديث
وأسلوبه ومنهجه ، فالتزم بالرواية بالأسانيد ونقدها ، أو بيان درجة الحديث
دون نقد السند للحكم على الأحاديث والروايات على طريقة علماء عصره ، وقام
بمجهود كبير وسعي مشكور في تحقيق الأخبار وتمحيص الروايات ونقد الأسانيد وفحص
بعض المتون وكشف زيف الغرائب والمناكير .
ولكن الاعتماد الأول على سلامة السند في نقد الأحاديث والأخبار – وهو الغالب
عليه كمحدث حافظ – سمح أن يدخل في تاريخه بعض الروايات الضعيفة وأخبار واهية
، وخاصة في أخبار الماضين ،
و حوادث الجاهلية و هواتف الجان و ما جاء في دلائل النبوة ومن بعض الأخبار
التي تناقض العقل والسنن الكونية وليست لها قيمة تاريخية أو سند علمي أو
اعتبار ديني في الشريعة .
والحقيقة أن ابن كثير كان يشعر في كثر من الأحيان أن ما يرويه هو من هذيانات
المؤرخين وخرافاتهم .. لكنه يذكره اتباعاً للمؤرخين السابقين للرد والتنبيه
عليه .. و يقدم ابن كثير عذره في مثل هذه الأماكن قائلاً : ( لولا أنها مسطرة
في كثير من كتب التفسير و غيرها من التواريخ وأيام الناس ، لما تعرضنا
لسقاطتها وركاكتها ومخالفتها للمعقول والمنقول ) . البداية والنهاية (1/114 )
و (5/96 – 97 ) .
وهذا يدل على حبه للجمع والاستقصاء ، فيجمع في كل موضوع يطرقه جميع ما عثر
عليه بوسائله ، فكان هذا هو السبب في تجاوز حدود السيرة في البداية والنهاية
، حيث وقف له ابن كثير نحو ثلث كتابه التاريخي .
وقد اعتمد ابن كثير في عرض المادة التاريخية على التلخيص والاختصار والنقل
بالمعنى عن مصادره ، وخاصة في القسم الخاص بتاريخ الإسلام ، و ذلك لأنه لم
يكن أمامه مجال في إرخاء العنان لقلمه ، ونظراً لطول الحقبة التي كان عليه أن
يجمع تاريخها ، وتعدد الموضوعات التي اهتم بذكرها ، وتنوع المصادر وكثرتها ،
فاستوعب ابن كثير ما جاء في الحوادث عند المؤرخين قبله ، ثم سردها ملخصاً على
لسانه في سياق واحد متماسك مع الإشارة والإحالة على مصادره التي استقى منها
معلوماته ، و ذلك عند الخلاف والرد والإنكار أو التأييد والاستشهاد والاعتضاد
.
وإذا أتينا إلى تقييم تاريخ ابن
كثير رحمه الله – ولسنا أهل لذلك – نقول وبالله التوفيق :
بذل ابن كثير جهداً كبيراً في
إبعاد الإسرائيليات والموضوعات والأساطير الخرافية والقصص الشعبية القديمة
التي دخلت عند المؤرخين المسلمين في قسم المبتدأ وقصص الأنبياء من تاريخه ..
وقد نجح في ذلك إلى أبعد الحدود حين عرض المادة التاريخية القديمة عن عصور ما
قبل الإسلام على القرآن والحديث و حققها ، فأقر ما وجد منها موافقاً في نظر
العلم الإسلامي ورد ما رآه مخالفاً ، مبيناً ما فيه من ضعف أو نكارة أو غرابة
أو شذوذ .
وهذه ميزة تفرد ابن كثير على من سبقه وخلفه من المؤرخين ، فإننا لا نعرف
أحداً منهم درس التاريخ القديم في مكان واحد مثل دراسته ، ووقف له مثل موقفه
، حتى إن المؤرخين الذين جاؤوا بعده لم يقوموا عمله ولم يسدوا الثغرات التي
بقيت عند ابن كثير غير مدروسة باعتباره أول من قام بمثل هذه الدراسة ، فلا
غرابة أن تبقى في كتابه أخبار إسرائيلية وأحاديث موضوعة تحتاج إلى نظر جديد
ودراسة أوفى من ابن كثير .
واتسمت السيرة النبوية عند ابن كثير بالطول والإحاطة الشاملة لجميع نواحي
سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من ولادته إلى وفاته . وقد ألحقت بها أول مرة
في التاريخ العام موضوعات أفردها العلماء المصنفون من قبل بالتأليف ، وهي :
الشمائل والدلائل والفضائل والخصائص التي ذكرها ابن كثير باعتبارها من
متعلقات السيرة النبوية الشريفة . وقد جمع ابن كثير في السيرة أكبر قدر ممكن
من المواد – لا مجال للمزيد عليها – من كتب السير والمغازي والتواريخ القديمة
ودواوين المحدثين الكثيرة ، مما زاد من قيمة هذا القسم كثيراً في تاريخه .
أما تاريخ الإسلام ، فقد دون فيه ابن كثير تاريخ نحو ثمانية قرون ، تعرض فيه
للكلام على أحداث إسلامية كبرى واختلفت فيها الآراء وتشعبت فيها مناهج
التفكير ، فأدلى فيها بآرائه ، بناها على العلم والتحقيق والدليل .
وقد أبرز ابن كثير في تاريخ الإسلام نواحي مشرقة زاهرة ، حثاً للمسلمين على
عمل الخير واتباع الحق ، كما أشار إلى ما طرأ على المسلمين من ضعف وانحطاط في
بعض العصور ، وبين سبب ذلك للنصيحة والعبرة والدرس ، وقد كان لجمعه بين
الحوادث والتراجم أثر في احتواء تاريخه على أخبار علمية وثقافية إلى جانب
الحوادث السياسية والفتن والحروب .
وكان ابن كثير في تاريخه قوي الملاحظة ، دقيق الربط بين أجزاء الحوادث ولو
تباعدت أيامها ، فلم يترك شاردة ولا واردة إلا أحصاها .. وعلى هذا فإن كتابه
سجل قيم للتاريخ السياسي والاجتماعي والعلمي والأدبي والثقافي للبلاد
الإسلامية عامة ولدمشق والبلاد الشامية خاصة .
وقد اتصف ابن كثير بتحري الصدق والتزم التثبت من الحقيقة واجتنب التحيز
والميل مع الهوى ، إلا أننا نرى عنده أحياناً لوناً من الجدل والمناظرة في
مسائل خلافية ، مثل الخلاف بين المسلمين وأهل الكتاب ، والخلاف بين أهل السنة
و بين الشيعة ، و في ذكر الفرق المنحرفة الخارجة على الإسلام ، فإنه في مثل
هذه المواضع يناظر ويجادل ويقرع الحجة بالبرهان ليثبت لما يعتقده صحيحاً في
نظره ، فهو هنا ليس مؤرخاً بل هو منا عالم ديني شديد التمسك بموقف أهل السنة
، يلسع بالنقد اللاذع من يخالفه ويجاهر بالعداء من ينابذه ، و لا يتحرز من
تخطئتهم وتكذيبهم وتجهيلهم ولعنهم على طريقة أهل الجدل والمناظرة .
تميز ابن كثير بجرأته في الحق وصراحته في النقد حتى في حوادث عصره ، لا يحاكي
أحداً ولا يجامل ولا يخاف في الحق لومة لائم .
لهذا كله ولهذه الدقة والنزاهة والنقد والصراحة .. كانت سبباً في إثارة إعجاب
المؤرخين والعلماء به بعده ، كما كانت سبباً في تقدير الدارسين له في عصرنا .
للمزيد حول اهتمام العلماء بالبداية والنهاية في القديم والحديث انظر :
الإمام ابن كثير ، سيرته و مؤلفاته و منهجه في كتابة التاريخ للدكتور : مسعود
الرحمن خان الندوي ، ( ص 330 – 333 ) من منشورات دار ابن كثير ، دمشق - بيروت
.
أما بخصوص الكتب التي أنصح باقتنائها
و قراءتها لكي يكون الواحد منا مطلعاً على أهم الأحداث التاريخية الصحيحة في
كما يلي : -
1-
أثر التشيع على الروايات التاريخية ، عبدالعزيز محمد نور ولي . دار الخضيري
للنشر والتوزيع ، المدينة النبوية .
2-
عبد الله بن سبأ و أثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام ، سليمان بن حمد
العودة . دار طيبة ، الرياض .
3–
موقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية ، محمد بن عبد الهادي الشيباني . دار
البياق والمكتبة المكية .
4-
عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام ، ناصر بن علي عائض حسن الشيخ .
مكتبة الرشد ، الرياض .
5- استشهاد عثمان و وقعة الجمل من روايات سيف بن عمر في تاريخ الطبري ، خالد
الغيث . دار الأندلس الخضراء ، جدة .
6–
مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري ،
يحيى بن إبراهيم اليحيى . دار العاصمة ، الرياض .
7–
تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة من روايات الإمام الطبري والمحدثين ، محمد
أمحزون . دار طيبة و كتبة الكوثر ، الرياض .
8–
الخلافة الراشدة والدولة الأموية من فتح الباري ، يحيى بن إبراهيم اليحيى ،
دار الهجرة ، الرياض .
9–
مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري ، خالد بن محمد الغيث ، دار الأندلس
الخضراء ، جدة .
10–
فقه التاريخ ، عبد الحميد بن عبد الرحمن السحيباني ، دار القاسم ، الرياض .
11–
صورة يزيد بن معاوية في الروايات الأدبية ، دارسة نقدية ، فريال بنت عبد الله
بن محمود الهديب ، دار اجا ، الرياض .
12–
الثابتون على الإسلام أيام فتنة الردة في عهد الخليفة أبي بكر الصديق رضي
الله عنه ودورهم في إخمادها ، مهدي رزق الله أحمد ، دار طيبة ، الرياض .
13–
منهج كتابة التاريخ الإسلامي ، محمد بن صامل السلمي ، دار الرسالة العلمية ،
مكة المكرمة .
14–
نظرات في التاريخ والحضارة والتراث ، حمد بن ناصر الدخيل ، دار إشبيليا للنشر
والتوزيع ، الرياض .
15–
حقبة من التاريخ ، عثمان الخميس ، مركز الثقافة الإسلامية ، الكويت .
16–
دفع الكذب المبين المفترى من الرافضة على أمهات المؤمنين ، عبد الله عبد
القادر بن محمد عطا صوفي ، مكتبة الغرباء الأثرية ، المدينة النبوية .
17–
ترتيب و تهذيب كتاب البداية والنهاية
، ( خلافة أبوبكر الصديق – عمر بن الخطاب – عثمان بن عفان ) ، محمد بن صامل
السلمي ، دار الوطن للنشر ، الرياض .
18–
عصر الخلافة الراشدة ، أكرم ضياء العمري ، مكتبة العبيكان ، الرياض .
19–
صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة ، عيادة أيوب الكبيسي ،
دار القلم ، دمشق ، المنارة ، بيروت .
20–
في أصول تاريخ العرب الإسلامي ، محمد محمد حسن شراب ، دار القلم ، دمشق ، دار
الشامية ، بيروت .
21– فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه ، محمد بن عبد الله الغبان ، مكتبة
العبيكان ، الرياض .
22-
دور المرأة السياسي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين ،
وبها تحقيق تاريخي وفقهي وتشريعي لفهم دور السيدة عائشة في أحداث الفتنة ،
تأليف : أسماء محمد أحمد زيادة ، دار السلام ، القاهرة .
إلى
غيرها من الكتب الكثيرة ..