سؤال :
عرض لي قريبا حينما كنت في زيارة في المدينة
المنورة حيث حضرت كلاما بين طالب علم و شيخ من اهل العلم حول الحجاج . و لأول
مرة اسمع عالما يقول ان كثيرا مما نسب الحجاج مبالغ فيه و انه لا يصح .. وطالب
العلم يخالف الشيخ و يذكر له مقولة القائل : ( لو تخابثت الأمم فجاءت كل أمة
بخبيثها وجئناهم بالحجاج لغلبناهم ) و نسبها إلى الإمام مالك أو عمر بن عبد
العزيز ، لم اعد اذكر . والشيخ لا يلقي لهذا الكلام وزنا .
فهل عندكم، مشكورين، إحالة في هذا الموضوع إلى تحقيق في كتاب، أو اختصارا
نستفيد منه الزبدة ؟
و جزاكم الله خيرا.
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ العزيز : MUSADDAD 2 .. جزاك الله خيراً وبارك فيك ..
إن من أكثر الشخصيات التي لم تنل حقها في البحث والدراسة شخصية الحجاج بن يوسف
الثقفي ..
لقد كان لهذه الشخصية المكان والمرتع الخصب لأصحاب الشهوات و أهل الأهواء للطعن
في العصر الأموي بوصفه عصر سفك للدماء و تسلط للأمراء ..
و لقد كان لشخص الحجاج النصيب الأوفر من هذه التهم ..
فالحجاج كان ضحية المؤرخين الذين افتروا عليه شتى المفتريات تمشياً مع روح
العصر الذي يكتبون فيه ؛ ونرى أننا كلما بعدنا عن عصر الحجاج كثرت المفتريات
والأباطيل ..
و من الإنصاف أن يسجل المؤرخ لمن يؤرخ له ما أصاب فيه بمثل ما يسجل عليه ما
أخطأ فيه .. واضعاً قول الله تعالى { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ،
اعدلوا هو أقرب للتقوى } نصب عينيه .
فإن الحجاج قد شوهت صورته و نسجت حولها الخرافات بشكل يجعلها أقرب إلى الأسطورة
من الحقيقة ..
نعم كان الحجاج كما قال عنه الحسن البصري : إن الحجاج عذاب الله ، فلا تدفعوا
عذاب الله بأيديكم ، و لكن عليكم بالاستكانة والتضرع ، فإنه تعالى يقول { ولقد
أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون }[المؤمنون /76] . الطبقات
لابن سعد (7/164) بإسناد صحيح .
فالحجاج كان من الولاة الذين اشتهروا بالظلم والقسوة في المعاملة ، و هي شدة
كان للظروف التي تولى فيها هي السبب الرئيسي في أن يكون بهذه الصفة ..
فثورات الخوارج المتتالية والتي أنهكت الدولة الأموية .. و الفتن الداخلية ..
كان للحجاج الفضل بعد الله في القضاء عليها ، و هذه لا ينكرها أحد حتى الأعداء
.. و لا ننسى ثورة ابن الأشعث التي كادت أن تلغي و تقضي على الخلافة الإسلامية
..
و مع هذا نقول :
ليس كل ما يشاع عن شخص قد ثبت فعلاً .. و ليس كل ما هو مشهور معروف .. فكم
سمعنا و قرأنا أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كانت تنصح الخارجين بالثورة
على عثمان و قتله !! فهل نصدق هذا ، و كم سمعنا أن عثمان رضي الله عنه قد
استحدث أموراً خرج بسببها من الإسلام !! فهل نصدق هذه أيضاً .. و كذلك ما اشتهر
من أن عمر رضي الله عنه أمر بقتل الستة الذين اختارهم ليكون أحدهم خليفة من
بعده إن تخلف أحدهم تضرب عنقه !! و هكذا ..
فليس كل ما هو مشهور صحيح ..
و إني لأستغرب من قولك بأن المناظرة التي حدثت بين طالب العلم و ذلك الشيخ ، لم
تنتهي على اتفاق بل و قولك بأن طالب العلم يصر على أنه إذا جمع أخبث الخبثاء ..
الخ . و استدلاله به على صحة ما أشيع عن الحجاج ..
أقول :
هل ثبت كفر الحجاج حتى نقارن بينه و بين الخبثاء من الأمم السابقة ؟!
و الله تعالى يقول { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } !! و المؤمن خير من ملئ الأرض
من الكافر فكيف تكون هناك مقارنة .. وعلى فرض ثبوت صحة ما أشيع حول الحجاج -
ولا ننكر بعضها - فهل يعني هذا أنه قد خرج بموجبها من دائرة الإيمان ؟؟!!
لقد ثبتت للحجاج سيئات كثيرة جعلته في نظر الناس من الذين لا يمكن أن يغفر الله
لهم .. سبحان الله !! هل جعلنا الله موكلين بتصنيف الناس هذا مغفور له و هذا
مغضوب عليه ؟!
فهل نسي هذا الطالب أن فتح بلاد السند و ما وراء النهر قد تم بعد فضل الله
تعالى على يد أبطال قد أرسلهم الحجاج من أجل نشر الإسلام في تلك المناطق .. و
ما يدريك لعل الله أراد أن يجعل له باباً آخر للأجر و تكون أعمال أولئك القوم
الذين دخلوا في الإسلام في ميزان حسنات الحجاج .. إن الله على كل شيء قدير فلا
نحجر واسعاً ..
واسمع إلى ما ورد عن الحجاج حول موته .. وكما يستدلون بالصورة السيئة حول شخصه
.. فإنه قد ثبتت كذلك صورة حسنة أيضاً ..
أن الحجاج عندما اشتدت عليه العلة عمل على تدبير شؤون العراق من بعده بما يحفظه
من الاضطراب والفتن ، و يبقيه جزءً من الدولة الأموية ، حتى إذا اطمأن إلى ذلك
كتب وصيته ليبرئ فيها نفسه و ذمته تجاه خالقه وخليفته المسؤول أمامه في الدنيا
حتى آخر لحظة من حياته ، فكتب يقول :
بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أوصى به الحجاج بن يوسف : أوصى بأنه يشهد أن
لا إليه إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده و رسوله ، وأنه لا
يعرف إلا طاعة الوليد بن عبد الملك ، عليها يحيا و عليها يموت و عليها يبعث ..
الخ . تهذيب تاريخ دمشق (4/68 ) .
و يروى أنه قيل له قبل وفاته : ألا تتوب ؟ فقال : إن كنت مسيئاً فليست هذه ساعة
التوبة ، وإن كنت محسناً فليست ساعة الفزع . محاضرات الأدباء (4/495 ) .
و قد ورد أيضاً أنه دعا فقال : اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل .
تاريخ دمشق (4/82) . والبداية والنهاية (9/138) .
ونقول للذين يطعنون في نيات الناس اسمعوا إلى قول الحسن رحمه الله حينما سمع
أحد جلاسه يسب الحجاج بعد وفاته ، فأقبل مغضباً و قال : يا ابن أخي فقد مضى
الحجاج إلى ربه ، و إنك حين تقدم على الله ستجد إن أحقر ذنبٍ ارتكبته في الدنيا
أشد على نفسك من أعظم ذنبٍ اجترحه الحجاج ، و لكل منكما يومئذٍ شأن يغنيه ، و
اعلم يا ابن أخي أن الله عز وجل سوف يقتص من الحجاج لمن ظلمهم ، كما سيقتص
للحجاج ممن ظلموه فلا تشغلن نفسك بعد اليوم بسب أحد . ذكره أبو نعيم في الحلية
(2/271) .
والله أعلم ..
أما عن الدراسات التي كتبت عن الحجاج
فقد قدمت عدد من الرسائل الجامعية في دراسة شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي و
منجزاته الحضارية و أعماله .. و ذلك من أجل إظهار الصورة الأخرى التي كادت أن
تنمحي من الوجود بسبب ما اشتهر عنه من أباطيل ..
فمن الدراسات كتاب بعنوان : ( الحجاج بن يوسف الثقفي المفترى عليه ) للدكتور :
محمود زيادة .
و كذلك كتاب آخر بنفس العنوان تقريباً للدكتور إحسان صدقي العمد ..
و هما من أفضل ما كتب عن الحجاج ..
و أيضاً هناك رسائل أخرى صغيرة تتحدث كذلك عن بعض ما أشيع حول الحجاج ..