الحمد لله على كل حال ، و نعوذ بالله من حال أهل النار ، و بعد :
فإن تداعيات الأحداث الأخيرة على الأمة الإسلامية ، و ما أسفرت و تسفر عنه
الحملة الصليبية الشرسة على ديار الإسلام من مآسٍ و نكبات ، أمر لا يسع
عاقلاً أن يقف أمامه مكتوف اليدين ، أو ملازماً لصمت ينم عن العار و الخزي و
الشنار ، بينا يستطيل الأوغاد في أعراضنا و يدنسون ديارنا و يلغون في دمائنا
دون نكير و لا نذير .
إنه فصل آخر من فصول الفتن التي تجعل اللبيب حيران ، و يعجز عن وصفها و بيان
أبعادها ذوو الفصاحة و البلاغة و البيان .
كيف و هي أفظع ما ألم بخير أمة أخرجت للناس منذ أيام التتر و سطوتهم الشهيرة
على عاصمة الخلافة و ما وراءها من ديار المسلمين قبل نحو سبعة قرون .
و إن كان لنا عزاء فعزاؤنا في أبناء الأمة شيبِهِم و شبابِهِم ، نسائِهِم و
رجالِهِم الذين حبستهم الأنظمة المتسلطة على رقابهم ، و أخذت بحجزهم تردهم عن
جحافل الغزاة التي ملأت البر و البحر ، و سدت الأفق بعتادها و حشودها
المتداعية على أمة الإسلام تداعي الأكَلَة على قصعتها ، و منعتهم من منازلة
المعتدين ، أو الذود عن المستضعفين أمام صولة العُداة الوافدين .
و لم يثن ذلك كله ثلةً من الشباب الذين باعوا أنفسهم لله ، و تعاهدوا على بذل
المُهَج في سبيل الله ، فتواتروا على أرض الرافدين بعزم و بأسٍ ، يحدوهم
الأمل في أن يُمَكّن لهم فيثخنوا في عدوهم ، و يصدوا صولة العادي عن
المستضعفين من إخوانهم .
و مع مالا نشك فيه من سلامة منهجهم و مقصدهم ، و بلوغ القدر المطلوب من
الإعداد و الاستعداد في نفوسهم ؛ فقد كانت النهاية على غير ما يرام حيث تعرض
المئات من المجاهدين ( المعروفين في وسائل الإعلام باسم المتطوعين العرب )
للقتل أو الأسر ، فيما انكفأ البعض قافلين من حيث أتوا ، و لا يزال الآخرون
يرابطون ( فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدّلوا تبديلاً ) .
و أمام هذا الواقع المؤلم تتعالى بين الفينة و الفينة أصوات تنبعث منها
أمارات الشماتة فيمن قضى و من ينتظر من المجاهدين ، و كأن الشامتين يقولون عن
أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، مقللين من شأنهم و شأن ما قاموا به
( لو أطاعونا ما ماتوا و ما قُتلوا ) .
فويل المثبطين إن كانوا يرجون الجنّة فبمَ يدخلونها بعد صدّهم عن الجهاد ، و
منعهم و امتناعهم عن الإعداد و الاستعداد !
روى أحمد و الطبراني و الحاكم مصححاً ما وافقه عليه الذهبي عن بشير بن
الحصاصية رضي الله عنه قال : ( أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبايعه
على الإسلام فاشترط علي : تشهد ألا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله ، و
تصلي الخمس ، و تصوم رمضان ، و تؤدي الزكاة ، و تحج البيت ، و تجاهد في سبيل
الله . قلت يا رسول الله : أما اثنتان فلا أطيقهما ( و ذكر الصدقة و الجهاد )
فقال صلى الله عليه و سلم : ( لا صدقة و لا جهاد ؟ فبم تدخل الجنة ؟ ) .
و لا يفتؤ الشامتون المخذلون المخذولون يعيبون على من جاهد في العراق نفرتهم
قبل أن يُستنفروا ، و انطلاقتهم قبل أن يُؤذن لهم ، و كأن الإمامَ الأعظمَ
أميرَ المؤمنين و خليفة المسلمين قائمٌ بين أظهرنا يحكم بشرع الله و لا يظاهر
أو يتولى من عاداه ، و لولا افتئات من خرج للجهاد بدون إذنه عليه لجيَّش
الجيوش و ساق الأساطيل في طلب العدو ، فأثخن فيه و أنكى ، و حرر الأرض و صان
العِرض .
يعيبون على أهل الجهاد الخروج لدفع عدو يصول على الحرمات و المقدسات قبل أن
يأذن لهم أو يستنفرهم من لا وجود له منذ قرنٍ من الزمان على الأقل .
ألقاه في اليم مكتوفاً و قال له
***
إيّاك إيّاك أن تبتـلَّ بالمـاءِ
فأي جرمٍ يرتكبه هؤلاء ، و أي إثمٍ يبوؤون به بتخذيل
إخوانهم عن دفع العدى و مجالدة الطغاة ؟
قال ابن حزم الأندلسي [ في المحلى : 7 / 300 ] : ( و لا إثم بعد الكفر أعظم
من إثم من نهى عن جهاد الكفار ، و أمر بإسلام حريم المسلمين إليهم ) .
و هل نسي هؤلاء المخذّلون أو تناسوا أن ما يدور في بلاد المسلمين اليوم من
جهاد لا يعدو أن يكون جهاد دفعٍ لا طلبَ للعدو فيه ، و بالتالي فلا معنى
لاشتراط وجود الإمام و لا إذنه ، بل يجب الخروج لدفع العدو بما أمكن من
عَدَدٍ و عُدَدٍ ، أُذن بذلك أم لم يؤذن .
و ليس - و الحال كهذه - الخروج إلى لقاء العدو خروجاً على ولي الأمر - في حال
التسليم بوجوده - و لا خروجاً عن المقرر عند أهل العلم من السلف و الخلف ، بل
هو من السير على نهجهم ، و الاتباع لهديهم .
و هاكم
طائفةً من أقوالهم في هذه المسألة :
قال ابن قدامة المقدسي
رحمه الله [ في المغني : 10 / 390 ] :
( إذا جاء العدو صار الجهاد عليهم فرض عين ، و وجب على الجميع ، فلم يجز
التخلف عنه ) .
و أورد القرطبي [ في
تفسيره : 3 / 38 ] قول ابن عطية رحمه الله :
( الذي استقر عليه الإجماع أن الجهاد على كل أمة محمـد صلى الله عليه و سلم
فرض كفاية فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين ، إلا أن ينزل
العـدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين ) .
و قال الجصاص [ في أحكام
القرآن : 4/312 ] : (
معلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو ، و لم تكن
فيهم مقاومة ، فخافوا على بلادهم و أنفسهم و ذراريهم ؛ أن الفرض على كافة
الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين ، و هذا لا خلاف فيه بين
الأمة .
و قال ابن حزم الظاهري [
في المحلى :7/292 ] : (
إن نزل العدو بقوم من المسلمين ففرض على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم
مغيثاً لهم ) .
وقال شيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله [ في الفتاوى المصرية : 4 / 507 ] :
( ... فأما إن هجم العدو فلا يبقى للخلاف وجه فإن دفع ضررهم عن الدين و النفس
و الحرمة واجب إجماعاً ) .
إلى أن قال رحمه الله [
في الفتاوى المصرية : 4 / 508 ] :
( و أما قتال الدفع ؛ و هو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة و الدين ؛ فواجب
إجماعاً ، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين و الدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان
من دفعه ؛ فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان ، و قد نص على ذلك العلماء
؛ أصحابنا و غيرهم ) .
و قال رحمه الله [ في
السياسة الشرعية ] : (
إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجباً على المقصودين
كلهم ، و على غير المقصودين ، لإعانتهم ، كما قال الله تعالى ( و إن
استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم و بينهم ميثاق ) ، و كما
أمر النبي صلى الله عليه و سلم بنصر المسلم ، و سواء أكان الرجل من المرتزقة
للقتال أو لم يكن ، و هذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه و ماله ، مع
القلة و الكثرة ، و المشي و الركوب ... فهذا دفع عن الدين و الحرمة و الأنفس
، و هو قتال اضطرار ) .
و قال تلميذه ابن قيّم
الجوزية [ في الفروسيّة ] :
( من المعلوم أن المجاهد قد يقصد دفع العدو إذا كان المجاهد مطلوباً و العدو
طالباً ، و قد يقصد الظفر بالعدو ابتداءً إذا كان طالباً ، و العدو مطلوباً ،
و قد يقصد كلا الأمرين ، و الأقسام ثلاثةٌ يؤمر المؤمن فيها بالجهاد ، وجهاد
الدفع أصعب من جهاد الطلب ؛ فإن جهاد الدفع يشبه باب دفع الصائل ، و لهذا
أبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه ، كما قال الله تعالى : ( أُذن للذين يقاتلون
بأنهم ظلموا ) ، و قال النبي صلى الله عليه و سلم : ( من قُتل دون ماله فهو
شهيد و من قتل دون دمه فهو شهيد ) متفق عليه . إن دفع الصائل على الدين جهاد
و قربة ، و دفع الصائل على المال و النفس مباحٌ و رخصة ؛ فإن قُتل فيه فهو
شهيد فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب و أعم وجوبا . و لهذا يتعين على كل أحد
يقوم و يجاهد فيه ؛ فالعبد بإذن سيده و بدون إذنه ، و الولد بدون إذن أبويه ،
و الغريم بغير إذن غريمه ... و لا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون
العدو ضعفي المسلمين فما دون ، فإنهم كانوا يوم أحد و الخندق أضعاف المسلمين
فكان الجهاد واجبا عليهم لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع لا جهاد اختيار ... و
جهاد الدفع يقصده كل أحد ، و لا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعاً و عقلاً )
.
قلت : و ما
قرره أهل العلم من تعين الجهاد في حال الدفع و عدم اشتراط وجود الإمام فضلاً
عن إذنه فيه لا خلاف فيه بين السلف و الخلف ، بل هو محل إجماع من يعتد
بإجماعة ، و إن اختلف في تنزيله على الواقع المعاصر فإن الخلاف فيه ليس
بمعتبر ، إذ لا يخفى على ذي عينين أن كل ما يرفع من رايات الجهاد هنا و هناك
ليس إلا لدفع العدو و استنقاذ ما يمكن استنقاذه من براثنه ، و رد كيده في
نحره ما أمكن ذلك .
فالأفغان يجاهدون لدفع الصليبيين من الأمريكان و من والاهم أو أعانهم ، و
كذلك الحال في العراق .
و الشيشان يجاهدون لدفع الروس و الملاحدة و من تقله عرباتهم ممن يوصفون بأنهم
زعماء محليون ، و كذلك الحال في جنوب الفلبين .
و ليس الأمر في بيت المقدس و أكناف بيت المقدس إلا صورة من صور جهاد الدفع
لعدو شرس لا يرقب في مؤمن إلاً و لا ذمة ، و لا ترده إلا تضحيات الأمّة .
و قِس على ذلك ما كان عليه الحال في البوسنة و كوسوفا سابقاً ، و ما عليه
الحال لاحقاً في كشمير و نيبال ، و كل أرض للمجاهدين فيها وجود أو لواء ، و
لهم عليها نفوس تبذل و أشلاء و دماء .
فلا و الله لا يعاب على من خرج اليوم بدون إذن الولاة الحاكمين لبلاد
المسلمين ، و لا لوم على من لم ينتظر إعلان التعبئة أو النفير في جيوش
السلاطين ، لأن هذا و ذاك بعيد المنال ، بل هو المُحال .
لذلك يُستغاض عن إذن الإمام بتأمير أحد أفراد الطوائف المجاهده ذات المنعة و
الشوكة – و لو بحسبها - في الثغر الذي ترابط فيه فينصب على رفاقه ، و يلزمهم
الصدور عن أمره و السمع و الطاعة له في المنشط و المكره حتى يفتح الله عليهم
، أو يمن عليهم بما يصبون إليه .
و إن لم يكن ثَمَّ من يصلح للإمارة قاتلوا بدون أمير ، و ليس لهم أن يدعوا
الثغر و لو اضطر الواحد منهم أن يقاتل منفرداً .
قال ابن حزم [ في المحلى
: 10/99 ] : ( يُغزى أهل
الكفر مع كل فاسق من الأمراء ، و غير فاسقٍ ، و مع المتغلب و المحارب ، كما
يغزى مع الإمام ، و يغزوهم المرؤ وحده إن قدر أيضاً ) .
و قال الماوردي [ كما في الإقناع ، ص : 175 ] : ( فرض الجهاد على الكفاية
يتولاه الإمام ما لم يتعيّن ) . و كأنّه يريد أن اشتراط وجود الإمام و إذنه
إنما يكون في جهاد الطلب ، أما إذا كان الجهاد جهاد دفعٍ فلا اشتراط لشيءٍ من
ذلك .
و قال الشيخ العلامة
عبدالرحمن بن حسن [ كما في الدرر السنية : 7 / 98 ] :
( و لا ريب أن فرض الجهاد باق إلى يوم القيامة ، و المخاطب به المؤمنون ،
فإذا كان هناك طائفة مجتمعة لها منعة وجب عليها أن تجاهد في سبيل الله بما
تقدر عليه لا يسقط عنها فرضه بحال ، و لا عن جميع الطوائف ) .
و هذا الكلام من الشيخ رحمه الله جلي في إقراره الجهاد الذي تقوم به فئات من
المسلمين دون عمومهم ، بل في القول بتعين ذلك عليها ، و عدم سقوط فرضيته عنها
و لا عن غيرها بحال ، بل يذهب أبعد من ذلك حيث يعمم هذا الحكم على ( جميع
الطوائف ) و كأنه لا يرى بأساً في تعدد الجماعات المجاهدة في سبيل الله .
فتنبه ! و احذر أن تعيب أو تنتقص مجاهداً يجود بما تضن بمثله ، و حذار أن تقر
من ينتقصه أو تقعد عن نصره و الذب عن عرضه .
و يزيد ما قرره الشيخ
بياناً قوله رحمه الله في عدم اشتراط وجود الإمام في الخروج للجهاد ، حيث قال
[ كما في الدرر السنية 7 / 97 ] :
( بأي كتاب أم بأي حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام متبع ؟ هذا من الفرية في
الدين ، و العدول عن سبيل المؤمنين ، و الأدلة على بطلان هذا القول أشهر من
أن تذكر ؛ من ذلك عموم الأمر بالجهاد و الترغيب فيه و الوعيد في تركه ) .
و قال أيضاً :
( كل من قام بالجهاد في سبيل الله فقد أطاع الله و أدى ما فرضه الله و لا
يكون الإمام إلا بالجهاد لا أنه لا يكون جهاد إلا بالإمام ) .
و اعلم أنه لا يستحق من العيب و العار ما يستحقه من سمى حاكم رقعته إماماً ،
و اشترط لنفرة المجاهدين لدفع العدو عن ديارهم و حرماتهم إذنه و أمره لزاماً
.
و رب قائل يقول : لو أن المجاهدين وقفوا خلف العلماء ، و لم يخرجوا إلى ما
خرجوا إليه إلا إذا بفتاوى الراسخين ، و إمرة العلماء العاملين ، لما آلت
الأمور إلى ما آلت إليه ، و لما رأى العالم الإسلامي أبناءه يتواثبون على
الموت فيُعمَل فيهم القتل و التنكيل بين يديه .
و كان الحري
بنا أن نقول : لو أن علماء الأمة و أعلامها وقفوا وقفة رجل واحد يأمرون
بالمعروف و ينهون عن المنكر و يأخذون على يد من أوصد باب الجهاد ، و يحشدون
طاقات الأمة و يوحدون صف أبنائها في وجه أعداء الداخل و الخارج ، لا يداهنون
و لا يمالئون ، و لا تأخذهم في الحق لومة لائم ؛ لانعكست الصورة تماماً ، و
لما تمكن العدو من إعمال القتل و التنكيل فيمن وقف في وجهه من أبناء الأمة .
و لكن أين هم العلماء الربانيون الذين يعاب على أهل الجهاد عدم الرد إليهم ؟
أليسوا في الثغور أو السجون ؟
ألا إلى الله المشتكى من كثرة النكير و قلة النصير .
قلت : و مع
قلة العلماء المتبصرين بواقع الأمة ، و المدركين لما يحاك لها و ما يراد بها
، لم يعدم المجاهدون من أهل العلم من يحدوهم إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه ،
فينير أمامهم السبيل ، و يوجههم بالحجة و البرهان و الدليل ، في زمن عزّ فيه
الحق و أهله .
قال شمس الدين ابن القيم رحمه الله [ في إعلام الموقعين :
3 / 398 ] :
( اعلم أن
الإجماع و الحجة و السواد الأعظم هو العالم صاحب الحق ، و إن كان وحده ، و إن
خالفه أهل الأرض ... فإذا ظفرت برجل واحد من أولي العلم ، طالب للدليل ، محكم
له ، متبع للحق حيث كان وأين كان ، ومع من كان ، زالت الوحشة وحصلت الألفة و
لو خالفك .. ) .
و قال الشيخ العلامة
عبدالرحمن بن حسن رحمه الله [ كما في الدرر السنية : 7/98 ] :
( كل من قام بإزاء العدو و عاداه و اجتهد في دفعه فقد جاهد و لا بد ، و كل
طائفة تصادم عدو الله فلا بد أن يكون لها أئمة ترجع إلى أقوالهم و تدبيرهم ،
و أحق الناس بالإمامة من أقام الدين ؛ الأمثل فالأمثل ، فإن تابعه الناس أدوا
الواجب ، و حصل التعاون على البر و التقوى و قوي أمر الجهاد ، و إن لم
يتابعوه أثموا إثماً كبيراً بخذلانهم الإسلام ، و أما القائم به فكلما قل
أعوانه و أنصاره صار أعظم لأجره كما دل على ذلك الكتاب و السنة و الإجماع ) .
و كأني بمن يتهم المجاهدين بتجاهل العلماء و الرد عليهم بدلاً من الرد إليهم
يتجاوز إلى من ارتضاهم أو انتقاهم أوسماهم علماء ، علماءَ سلف الأمة و أئمة
الهدى فيها ، من لدن نبيها إلى أن دبّ الضعف و تكلّم الرويبضة فيها ، و يشيح
بوجهه عمّا قرره الأئمة السابقون ، يوم أن كانوا بالحق يفتون و عنه لا يعدلون
، لا تسيرهم أهواء السلاطين ، و لا تثبط هممهم أراجيف المخلَّفين القاعدين ،
و لا يغير مواقفهم صلف العدى و لا ضعف المسلمين .
و بحسب ما يراه المثبطون المخذلون لا عالم إلا من وافقهم ، فإن استفتيت من لا
يروق له علمه أو رأيه أو موقفه فلست ممن يرد إلى العلماء و إن كان من ترد
إليه و تستفتيه أعلم أهل الأرض ، و هذا من عظيم البلاء المصاحب لتصدر
الرويبضة و تعالم الدهماء .
و ليت فيهم من خُلُق الأعرَاب ما عدِموا من خلق المسلمين ، حيث من دأب العرب
حتى في جاهليتهم على التناصر و التآزر ، و في التاريخ و السير نماذج من نصرة
غير المسلمين للمسلمين كالذي كان من أبي طالب عم النبي صلى الله عليه و سلم ،
و غيره .
و من شاء فليتأمل ما قاله سعيد بن عامر رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله
عنه بعد أن ذُكر لعمر أن سعيد يغنط الغنطة – أي يتعرض لشدّة الكرب و الجهد و
كأنّه يُصرَع : فقال في بيان سبب ما يعرِض له : شَهِدْتُ مصرع خُبيب بن عَدي
الأنصاري بمكّة و قد بَضعت قريش لحمه ثم حملوه على جذعِ فقالوا : أتحبّ أن
محمداً مكانك ؟ فقال : و الله ما أُحبّ أَني في أهلي و ولدي ، و أنّ محمداً
شِيك بشوكة . ثم نادى: يا محمد .
يقول سعيد : فما ذكرت ذلك اليوم و تَرْكي نُصرَته في تلك الحال و أنا مشرك لا
أومن بالله العظيم إلاّ ظننت أنّ الله عزّ و جلّ لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً
فتصيبني تلك الغنطة . فقال عمر : الحمد لله الذي لم يُضلّ فِراستي ) [صفة
الصفوة لابن الجوزي :1/666] .
هكذا يكون صاحب القلب الحي ، لا تفارقه الندامة ما امتدت به الحياة على موقف
خذل فيه مسلماً .
ألا فليفق المخذلون !
و ليعلموا أن في تخذيلهم نصرةٌ لباطل مستشرٍ و خطر مستطير من أبجديات آثاره
محاربة الله و رسوله و السعي لإطفاء نور الله في الأرض بتتبع المجاهدين و
ملاحقة أولياء الله الصالحين بالحرب و الأذى .
فهل يريد عاقل أن يكون مطية لتحقيق أهداف من يحادون الله و رسوله ؟
عجبتُ
لمبتاعِ الضلالةِ بالهـدى
***
ولَلْمُشتري دنياه بالدِّين أَعجبُ
وأَعجب من هذين من باعَ دينه ***
بدنيا سواه فهو من ذين أعجبُ
و أختم
بالتذكير بما رواه الإمام أخمد و غيره بإسناد حسن عن جابر بن عبد الله و أبي
طلحة بن سهل الأنصاريين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال
:
( ما من امرئ يخذل
امرءاً مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه ، و ينتهك فيه من حرمته ، إلا خذله
الله تعالى في موطن يحب فيه نصرته ، و ما من أحد ينصر مسلماً في موطن ينتقص
فيه من عرضه ، و ينتهك فيه من حرمته ، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته )
.
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .
سبحانك اللهم و بحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أستغفرك و أتوب إليك .