الحمد لله على نعمائة ، و الصلاة و السلام على نبيه محمدٍ و آله ، و بعد ..
فإن من أشنع صور التعدي أن يتعدى المخلوق على حق الخالق ، فينصب نفسه حكماً
يتألى على أحكم الحاكمين ، و يستدرك على أرحم الراحمين ، فيصنف آحاد البشر
بين الجنة و النار ، و كأنَّه اطَّلَع الغيب أو اتَّخذَ عند الرحمن عهداً .
و في زماننا الذي يلتبس فيه الحق بالباطل إلى حد بعيد ، يحلوا للبعض أن
يتحجروا رحمة الله تعالى على أنفسهم و من يحبون ، و لا يدعون لسواهم في رحمة
الله و فضله حقاً ، بل يوصدون أبواب التوبة في أبواب الأوابين ، و يأخذون
بحجز الناس عن الجنة ، بدلاً من أن يأخذوا بنواصيهم إليها .
و تتكرر هذه المواقف كثيراً حينما يُذكَر المجاهدون المرابطون من أهل العراق
، فينبري البعض لينعتهم بأنهم فلول البعث ، أو بقايا نظام طاغوتي بائد ،
ضارباً بعرض الحائط تبرأهم من الطاغوت الهالك و حزبه و أعوانه ، و إقبالهم
على الله تعالى طلباً للشهادة في سبيله ، و الإثخان في أعدائه .
لذلك رأيت - لزاماً - أن أدعو إخواني الغيارى على دين الله إلى الكف عن
التألي على الله ، و إحسان الظن بأهل الثغور ، و حمل كلامهم على أحسن المحامل
، بالدعاء لهم بدلاً من الدعاء عليهم ، و التخذيل عنهم بدلاً من تخذيلهم ،
لأن الله تعالى أمرنا بالحكم بظواهر الأمور ، و استأثر لنفسه بعِلمِ السرِّ و
أخفى .
و الأولى بمن يبتغي التمكين لشرع الله في أرضه و عباده أن يحرص على تصحيح
معتقدات حملة السلاح في وجه الطغاة المحتلين ، فيدعوهم إلى ما يصلح دينهم و
دنياهم ، و يجعلهم أهلاً لأحدى الحسنيين ، و يدعو لهم بالهداية و التوفيق و
السداد ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلَّم يدعوا بالهداية لأهل
الغواية ، فيقول كما روى أحمد و الترمذي بإسناد قال عنه : حسن صحيح غريب (
اللهم اهدِ ثَقِيْفاً ) رغم أن سهام ثقيف كانت تنهل من دماء المسلمين ، فيقول
الصحابة : يا رسول الله ! أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم ، فلا يزيد عليه
الصلاة و السلام على الدعاء لهم بالهداية كما روى ابن أبي شيبة و أصحاب
المغازي !
فكيف لو كانت قذائفهم و نبالهم تصب حممها على أعداء الدين ؟ كما هو الحال
اليوم في بلاد الرافدين و عاصمة الرشيد ، حيث مثلث الجهاد ، و معقل الرباط .
و في الصحيحين و غيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : جَاءَ الطُّفَيْلُ
بْنُ عَمْرٍو إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ فَقَالَ :
إِنَّ دَوْسًا قَدْ هَلَكَتْ عَصَتْ وَ أَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ
فَقَالَ اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَ أْتِ بِهِمْ .
و لا يعارَض هذا بما ثبت من دعاء النبي صلى الله عليه و سلم على بعض المشركين
، و تسمية بعضهم بأعيانهم في القنوت و غيره ، إذ إن لكل من المقامين
المتباينين ( مقام الدعاء للمشركين ، و مقام الدعاء عليهم ) ما يناسبه من
المقال .
و قد بوب الإمام البخاري في صحيحه على خبر الدعاء لدوسٍ بالهداية فقال : (
باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم ) ، و هو ما عقب عليه الحافظ في الفتح
قائلاً : و قوله ( ليتألفهم ) من تفقه المصنف إشارة منه إلى الفرق بين
المقامين ، و أنه صلى الله عليه و سلم كان تارة يدعو عليهم و تارة يدعو لهم ،
فالحالة الأولى حيث تشتد شوكتهم ، و يكثر أذاهم ... و الحالة الثانية حيث
نؤمن غائلتهم و يرجى تألفهم . اهـ .
و لا شك أن من يقاومون طغيان الاحتلال في العراق اليوم ( من غير المجاهدين
لتكون كلمة الله هي العليا ) أقرب إلى أن تؤمن غائلتهم ، و يرجى تألفهم ،
خاصة بعد أن تمايزت الصفوف ، و انقسم العالم بأسره إلى فسطاطين لا ثالث لهما
؛ فسطاط الجبروت الأمريكي المحاد لله و لرسوله ، و المتربص بصالح عباده و
أوليائه ، و فسطاط من يأبى الدنية في دينه ، و لا يركن إلى عدوه ، بل يتصدى
له بقلة من العَدد و العُدَد في كثير من العزم و العزيمة .
أفلا يحسن بنا اليوم - و الحال هذه - أن نقول : اللهم اهدِ فلول البعث ، و
بقايا القوميين ، بدلاً من أن نرد تائبهم ، و نتألى على الله أن يقبل من أزاح
الغشاوة عن عينيه بعد طول عمى !؟
روى الإمام مسلم في صحيحه بإسناده عَنْ جُنْدَب البَجَليّ : أَنَّ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ حَدَّثَ : ( أَنَّ رَجُلاً قَالَ: وَ
اللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لِفُلاَنٍ ، وَ إِنَّ اللهَ تَعَالَىَ قَالَ : مَنْ
ذَا الْذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لاَ أَغْفِرَ لِفُلاَنٍ ، فَإِنَّي قَدْ
غَفَرْتُ لِفُلاَنٍ ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ ) . معنى يتألى يحلف و الالية
اليمين .
قال الإمام المناوي رحمه الله في فتح القدير : ( قال المظهر : لا يجوز لأحد
أن يجزم بالغفران أو العقاب ؛ لأن أحداً لا يعلم مشيئة اللّه و إرادته في
عباده بل يرجو للمطيع و يخاف للعاصي . و إنما يجزم في حق من جاء فيه نصٌ
كالعشرة المبشرة اهـ . و قال العزالي : روي أن نبياً من الأنبياء كان ساجداً
فوطئ بعض العتاة عنقه حتى ألصق الحصى بجبهته فرفع النبي عليه السلام رأسه
مغضباً و قال : اذهب فلن يغفر اللّه لك ! فأوحى اللّه إليه : تتألى عليّ في
عبادي ؟ قد غفرت له ) .
ربنا اهدنا و اهدِ بنا و يسر الهدى لنا
و ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيءٍ ، إنك أنت الغفور الرحيم
و صلى الله وسلم على نبينا محمد و آله وصحبه أجمعين