الحمد لله ربّ العالمين ، و الصلاة و السلام على نبيّه الأمين ، و آله و صحبه
أجمعين ، و بعد :
فإن الولاء و البراء أصل أصيل من أصول الإسلام ، و دعامة من دعائمه ، فلا
يستقيم إسلام المرء حتى يوالي في الله و يعادي في الله ؛ يوالي أهل الحق ، و
يعادي أهل الباطل ، غير آبه بما يعترضه في سبيل ذلك من المثنيات و المثبطات .
و قد جعل أهل السنة و الجماعة الولاء و البراء قاعدة عقدية كبرى ، ( و مفهوم
هذه القاعدة الشريفة لديهم هو : الحب و البغض في الله ، فهم يوالون أولياء
الرحمن ، و يعادون أولياء الشيطان ، كلّ بحسب ما فيه من الخير و الشر ... و من
أولى مقتضياتها التي يثاب فاعلها و يعاقب تاركها البراءة من أهل البدع و
الأهواء ) . [ هجر المبتدع ، للدكتور بكر أبو زيد
، ص : 18،19 ] .
و يلزم من الولاء الحب في الله ، كما يلزم من البراء البغض في الله تعالى .
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : ( المراد من قول لا إله إلا الله ،
مع معرفتها بالقلب محبتها و محبة أهلها ، و بغض من خالفها و معاداته ) .
[ تفسير كلمة التوحيد ، للشيخ محمد بن عبد الوهاب ( ضمن
مجموعة المؤلفات الكاملة ) : 1/363 ] .
و حقيقة الحب في الله كما قال يحيى بن
معاذ : ( أن لا يزيد بالبر و لا ينقص بالجفاء ) .
[ فتح الباري ، للحافظ ابن حجر : 1/62 ] .
و إذا كانت الأشياء تتميز بضدها فإن
حقيقة البراء و البغض في الله أن لا يزيد بالجفاء ، و لا ينقص بالبر .
يقول الدكتور إبراهيم الرحيلي وفقه الله : ( قررنا أن المحبّة في الله ينبغي أن
يراد بها وجه الله ، فلا يحب الشخص إلا لله ، و أن لا تزيد تلك المحبّة ببر
المحبوب للمحب ، و لا تنقص بجفائه إياه ، فإن البغض ينبغي أن يراد به وجه الله
أيضاً ، و أن يكون لله لا لسبب آخر .... بل يبغض الشخص إمّا لكفره ، أو ابتداعه
، أو معصيته ، فإن هذه هي أسباب البغض في الله ) .
[ موقف أهل السنة و الجماعة من أهل الأهواء و
البدع ، للدكتور إبراهيم الرحيلي ، ص : 462 ، و فيه الإحالة على الإحياء ،
للغزالي : 2/166،167 ].
و هذه القاعدة الجليلة الشريفة ، مؤصلة
عند أهل العلم بما دلّ عليها من الكتاب و السنّة و الأثر ، بل بانعقاد الإجماع
على تقريرها ..
فمن الكتاب قوله تعالى ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله و اليوم الآخر يوادون من
حادّ الله و رسوله و لو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) [
المجادلة : 22 ].
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : ( من أطاع الرسول ، و وحد الله ، لا
يجوز له موالاة من حاد الله و رسوله ، و لو كان أقرب قريب ، و لو كانوا آباءهم
أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) .
[ ثلاثة الأصول ، للشيخ محمد بن عبد الوهاب ( ضمن
مجموعة المؤلفات الكاملة ) : 1/183 ، و ثلاثة مسائل ، له أيضاً : 1/375 ].
و الآية دالة على قطع حبال المودة بين
من آمن بالله و اليوم الآخر ، و بين من حادّ الله و رسوله ، و لو كان من أقرب
المقرّبين ، و هذه الآية الكريمة تنزل على أهل البدع و الأهواء فيلزم منها
بغضهم و معاداتهم ، و عدم التودد إليهم ، لأن في الابتداع محادّة لله و رسوله ،
فما من بدعة إلا و هي مصادمة للشريعة ، مخالفة لها ، حتى قال السيوطي رحمه الله
في تعريفها : ( البدعة عبارة عن فعلة تصادم الشريعة بالمخالفة ، أو توجب
التعاطي عليها بزيادة أو نقصان ) . [ الأمر
بالاتباع ، للسيوطي ، ص : 24 ].
و هذا هو معنى المحادّة المذكورة في
الآية الكريمة .
و قد فهم السلف الصالح منها ما فهمنا ، قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره
: ( استدل مالك رحمه الله بهذه الآية على معاداة القدريّة ، و ترك مجالستهم .
روى أشهب عن مالك : لا تجالس القدرية ، و عادهم في الله ، لقوله تعالى : ( لا
تجد قوماً ) الآية ) . [ الجامع لأحكام
القرآن ، للقرطبي : 17/308 ].
أما في السنة ، فقد ورد غير حديث مدللاً
على اقتضاء الشرع الحنيف الموالاة في الله ، و معاداة المبتدعة و أهل الأهواء و
البراءة منهم ، فعن أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «
ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ
لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الْكُفْرِ
كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ » .
[ الحديث أخرجه البخاري ( كتاب الإيمان ، باب
حلاوة الإيمان ) و مسلم ( كتاب الإيمان ، باب خصال من اتصف بهن ، برقم 43 ) و
أحمد في المسند ( 3/103، 174،230 ) و ابن حبان في صحيحه ( 285 ) و الترمذي (
2624 ) و لبن ماجة ( 4033 ) و غيرهم ].
فإذا تقرر وجوب أن يكون الحب في الله و
لله ، عُلم ضرورةً خطر محبة المبتدع أو موالاته ، لأنّها محبة لغير الله .
و لا يقول عاقل : إنّ حب المبتدع - على ما فيه من مخالفةٍ و محادّةٍ للشرع –
حبٌّ لله تعالى !!
و عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِىِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ « مَنْ أَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ
لِلَّهِ وَأَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَنْكَحَ لِلَّهِ فَقَدِ
اسْتَكْمَلَ إِيمَانَهُ » .
[ الحديث رواه الترمذي ( 521 ) و قال : هذا حديث
حسن ، و الحاكم ( 2/164 ) و صححه و وافقه الذهبي ، و للحديث طريق أخرى عن أبي
أمامة الباهلي رضي الله عنه ، بدون قوله ( أنكح لله ) رواه أبو داوود ( 4681 )
و الطبراني في المعجم الكبير 8/159،208 ، و البغوي في شرح السنّة ، و الخطيب في
المشكاة .
و صحح الألباني الحديث بمجموع الطريقين . انظر : السلسلة الصحية (380) ].
قلتُ : فإن يكن المرء لا يستكمل الإيمان
حتى يبغض في الله ، كان عليه أن يبغض الكفرة و المبتدعة و العصاة في الله ، لأن
الكفر و الابتداع و المعصية أسباب البغض في الله ، كما تقدم .
و على ضوء ما دلت عليه نصوص الكتاب و السنة قرر أهل العلم أتباع السنّة تنزيل
قاعدة ( الولاء و البراء ) على أهل البدع و الأهواء .
فقال الإمام الطحاوي رحمه الله : ( نسأل الله أن يثبتنا على الإيمان ، و يختم
لنا به ، و يعصمنا من الأهواء المختلفة ، و الآراء المتفرقة ، و المذاهب
الرديّة ، من الذين خالفوا السنّة و الجماعة ، و حالفوا الضلالة ، و نحن منهم
براء ، و هم عندنا ضلال و أردياء ) . [ شرح
الطحاوية ، لابن أبي العز ، ص : 520 ]
و قال الإمام البغوي رحمه الله : ( و قد
مضت الصحابة و التابعون ، و أتباعهم ، و علماء السنن على هذا مجمعين متفقين على
معاداة أهل البدع و مهاجرتهم ) . [ شرح السنّة ،
للبغوي : 1/227 ]
و قال الشاطبي : ( إن فرقة النجاة ، و
هم أهل السنة ، مأمورون بعداوة أهل البدع ، و التشريد بهم ، و التنكيل بمن
انحاش إلى جهتهم ، و نحن مأمورون بمعاداتهم ، و هم مأمورون بموالاتنا و الرجوع
إلى الجماعة ) . [ الاعتصام ، للشاطبي : 1/120 ].
و قال الإمام أبو عثمان إسماعيل
الصابوني رحمه الله حكايةً عن أهل السنّة : ( و يبغضون أهل البدع الذين أحدثوا
في الدين ما ليس منه ، و لا يحبونهم ، و لا يصحبونهم ) .
[ عقيدة السلف أصحاب الحديث ، للصابوني ، ص : 118 ].
و وصفهم بأنهم ( يحابّون في الدين ، و
يتباغضون فيه ، و يتقون الجدال في أصول الدين ، و الخصومات فيه ، و يجانبون أهل
البدع و الضلالات ، و يعادون أصحاب البدع و الأهواء المرديات الفاضحات ) .
[ عقيدة السلف أصحاب الحديث ، للصابوني ، ص : 117
].
و قد تحقق معنى البراءة من أهل الأهواء
عند سلفنا الصالح فأعرضوا عنهم ، و أعلنوا البراءة منهم ، و أذاعوا بين الناس
كراهيتهم و بغضهم .
فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : ( ما في الأرض قوم أبغض إليّ أن
يجيئوني فيخاصموني من القدريّة في القدر ، و ما ذاك إلا أنّهم لا يعلمون قدر
الله ، و أنّ الله عزّ وجل لا يُسأل عمّا يفعل و هم يُسألون ) .
[ رواه الآجري في الشريعة برقم 213 ].
و عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال
في أهل القدر : ( أخبرهم أني بريء منهم ، و أنهم مني براء ) .
[ رواه البغوي في شرح السنّة ( 1/227 ) و روى
نحوه عبد الله بن الإمام أحمد في شرح السنّة ( 2/420 ) و رواه الآجري في
الشريعة ، ص : 205 ، و اللالكائي ( 2/588) و غيرهم ] .
و قال الفضيل بن عياض : ( الأرواح جنود
مجندة ، فما تعارف منها ائتلف و ما تناكر منها اختلف ، و لا يمكن أن يكون صاحب
سنّة يمالئ صاحب بدعة إلا من النفاق ) .
[ الإبانة الكبرى ، لابن بطة ( 2/456 ) و
اللالكائي ( 1/138 ) و في كلام الفضيل تضمين لحديث ( الأرواح جنود مجنّدة ... )
المخرّج في صحيحي البخاري ( كتاب أحاديث الأنبياء ، باب الأرواح جنود مجندة ) و
مسلم ( كتاب البر و الصلة ، باب الأرواح جنود مجندة ) و الحديث رواه أحمد أيضاً
و غيره ]
و قال رحمه الله أيضاً : ( من أحبّ صاحب بدعة أحبط الله عمَله ، و أخرج نور
الإسلام من قلبه ) .
[الإبانة الكبرى ، لابن بطة ( 440 ) و اللالكائي ( 263 ) و الحلية لأبي نعيم (
8/103 ) و البربهاري ، ص : 138 و إسناده صحيح ]
و كان يقول : ( أحب أن يكون بيني و بين
صاحب بدعةٍ حصن من حديد . آكل عند اليهودي و النصراني أحب إليّ من صاحب بدعة )
.[ رواه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد : 2/638
] .
و عن أوس بن عبد الله الربعي أنّه كان
يقول : ( لأن يجاورني القردة و الخنازير في دار ، أحب إليّ من أن يجاورني رجل
من أهل الأهواء ) . [ رواه اللالكائي في شرح أصول
الاعتقاد : 1/131 ، و ابن بطة في الإبانة الكبرى : 2/ 467 ].
و قال عبد الله بن عون : ( لم يكن قومٌ
أبغض إلى محمّدٍ من قومٍ أحدثوا في هذا القدر ما أحدثوا ) ، يريد محمد بن سيرين
. [ الشريعة ، للآجري ، ص : 219 ].
و دُعي أيوب السختياني إلى غسل ميّت ،
فخرج مع القوم حتى إذا كشف عن وجهه عرَفه ، فقال : ( أقبِلوا قِبَل صاحبكم ،
فلست أغسله ، رأيته يماشي صاحب بدعة ) . [
رواه ابن بطة في الإبانة الكبرى : 2/ 467 ].
قلتُ : إن البراءة من أهل الأهواء و
البدع ليست قاصرةً على اعتقادٍ قلبيٍ ، أو مقال باللسان ، بل هي منهج حياةٍ له
، معالمه و دلائله .
و من دلائل البراءة من القوم مخالفتهم ، فلا يكون المرء متبرّئاً بحق ما لم
يخالف المتبرَّأ منه في نهجه ، و مسلكه .
و أعظم المخالفة للمبتدعة التمسك بالسنّة التي نبذوها ، و اتخذوها وراءهم
ظِهريّاً ، قال العلامة البربهاري : ( و من عرف ما ترك أصحاب البدع من السنّة ،
و ما فارقوا فيه فتمسك به ، فهو صاحب سنّة ، و صاحب جماعة ، و حقيق أن يتبع ، و
أن يُعان ، و أن يحفظ ، و هو ممّن أوصى به رسول الله صلى الله عليه و سلّم ) .[
شرح السنّة ، للبربهاري ، ص : 107 ].
و قد كان من مخالفة السلف الصالح
للمبتدعة ترك مالا بأس به ، خوفاً مما به بأس ، و كانوا يتحرّزون عن العمل و إن
لم يكن به بأس ، خوفاً ممّا به بأس .[ انظر :
الأمر بالاتباع ، للسيوطي ، ص : 25 ].
قال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه : (
كنّا نضحي عن النساء و أهلينا ، فلمّا تباهى الناس بذلك تركناها ) .
[ انظر: الحوادث و البدع للطرطوشي ، ص : 25 ].
فانظر – رحمك الله – كيف تركوا الأضحية
عن النساء و الأهلين – و هي سنّة على أقل الأقوال – لمّا أحدث الناس المباهاة
بها .
قال الإمام الطرطوشي رحمه الله تعالى : ( اقتحم الصحابة ترك السنّة حذراً ، أن
يضع الناس الأمر على غير وجهه ) .[ الحوادث و
البدع للطرطوشي ، ص : 25 ].
و من دلائل البراءة من المبتدعة
انتقاصهم و احتقارهم و التعرّض لهم بالإهانة و هتك الأستار ، و بيان ما يحذرهم
الناس بسببه ، و عدم توقيرهم كي لا يغتر بهم العامة فينزلوهم منزلاً ليسوا
أهلاً له .
لذلك كان أئمة السلف يحتقرون المبتدعة ، و يهينونهم ، و حكى الإمام الصابوني
أنّ أهل السنة اتفقوا على القول بقهر أهل البدع و إذلالهم و إخزائهم و إبعادهم
و إقصائهم و التباعد منهم و عن صحبتهم و عن مجادلتهم ، و التقرّب إلى الله
ببغضهم و مهاجرتهم ) .[ عقيدة السلف أصحاب الحديث
، للصابوني ، ص : 130 ].
و من علم وجه تحقير المبتدعة و عدم
توقيرهم و عظم ما يستلزمه عدّه من الواجبات ، قال الإمام الشاطبي رحمه الله في
تعظيم صاحب البدعة و المشي إليه : ( إن المشي إليه و التوقير له تعظيم له لأجل
بدعته ، و قد علمنا أن الشرع يأمر بزجره و إهانته و إذلاله ، بما هو أشد من هذا
، كالضرب و القتل ، فصار توقيره صدوداً عن العمل بشرع الإسلام ، و إقبالاً على
ما يضاده و ينافيه ، و الإسلام لا ينهدم إلا بترك العمل به و الإيمان بما
ينافيه ، و أيضاً فإن توقي صاحب البدعة مظنّة لمفسدتين تعودان بالهدم على
الإسلام :
إحداهما : التفات العامّة و الجهّال إلى ذلك التوقير ، فيعتقدون في المبتدع
أنّه أفضل الناس ، و أن ما هو عليه خيرٌ ممّا هو عليه غيره ، فيؤدي ذلك إلى
اتباعه على بدعته ، دون اتباع أهل السنّة على سنّتهم .
و الثانية : أنّه إذا وُقّر من أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرض له على إنشاء
الابتداع في كلّ شيء ، و على كلٍّ حال ، فتحيا البدع ، و تموت السنن ، و هو هدم
الإسلام ) .[ الاعتصام ، للشاطبي : 1/114 ].
و لذلك قال إبراهيم بن ميسرة : ( من وقر
صاحب بدعة ، فقد أعان على هدم الإسلام ) .
[ رواه اللالكائي ، برقم 273 . و نسبه أبو شامة
في الباعث ، ص : 17 ، و السيوطي في الأمر بالاتباع ، ص: 18 إلى محمد بن أسلم ،
و الشاطبي في الاعتصام : 1/113 إلى هشام بن عروة ، و رواه الذهبي في الميزان
مرفوعاً عن ابن عبّاس بإسناد فيه بهلول بن عبيد الكندي الكوفي ، و هو ضعيفٌ
ذاهب الحديث ، راجع الميزان : 1/355 ].
و قال سفيان الثوري رحمه الله : ( من
سمع مبتدعاً لم ينفعه الله بما سمع ، و من صافحه فقد نقض الإسلام عروةً عروةً
).[ الأمر بالاتباع ، للسيوطي ، ص : 19 ].
و من هذا المنطلق قال طاووس لمّّا رأى
مَعبد الجهني يطوف بالبيت : ( هذا معبد فأهينوه ) .
[ رواه اللالكائي : 1/114 ] .
فلا توقير ، و لا مصافحة ، بل يهان
المبتدع ، و لو كان في أقدس الأماكن ، و لو تحت أستار الكعبة ، فما أعظم جريرته
!!
و لو تبرّأ أهل السنة من المبتدعة و أعرضوا عن توقيرهم و احترامهم لخنس هؤلاء ،
و صار حالهم كحال بني إسرائيل إذ ( ضربت عليهم الذلّة و المسكنة ) .
قال الإمام الشاطبي رحمه الله : ( كل من ابتدع في دين الله فهو ذليل حقير بسبب
بدعته ، و إن ظهر لبادئ الأمر في عزّه و جبروته ، فهم في أنفسهم أذلاء ، ألا
ترى أحوال المبتدعة في زمان التابعين ، و فيما بعد ذلك ؟! حتى تلبسوا بالسلاطين
و لاذوا بأهل الأرض ، و من لم يقدر على ذلك استخفى ببدعته ، و هرب بها عن
مخالطة الجمهور ) ,[ الاعتصام ، للشاطبي : 1/126
].
و لمّا تبرأ الخيار من أهل البدع و
دعاتها ضنوا عليهم بالسلام و المجالسة و التوقير ، و كلّ حقوق المسلم ، بل
ذهبوا أبعد من ذلك فتبرأوا من علومهم ، حتى لم يكونوا يعلّمونهم أو يتعلّمون
منهم خشية تسلل شبهاتهم و أهوائهم إلى من سواهم .
و خشية من هذه المفسدة ، و درءاً لها أعرض السلف عن علوم المبتدعة ، و لم
يأتمنوهم على شيء من دين الله ، و هذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله
بقوله : ( إنّ الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم ، و لا يصلى خلفهم ، و لا يؤخذ
عنهم العلم ) .[ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن
تيمية : 28/205 ].
قال يوسف ابن أسباط : ( ما أبالي سألتُ
صاحب بدعة عن ديني ، أو زنيت ) .
[ الإبانة الكبرى ، لابن بطة : 2/459 ].
و عن سلام بن أبي مطيع أن رجلاً من
أصحاب الأهواء قال لأيوب السختياني : ( يا أبا بكر ! أسألك عن كلمة ) ؟ قال
أيوب – و جعل يشير بإصبعه - : ( و لا نصف كلمة ، و لا نصف كلمة ).
[ الإبانة الكبرى ، لابن بطة : 2/447 ، و شرح
السنّة ، للبغوي : 1/227 ].
و عن أسماء – جدة سعيد بن عامر – قالت :
دخل رجلان من أهل الأهواء على محمد بن سيرين فقالا : يا أبا بكر : نحدثك بحديث
؟ قال : ( لا ) .
قالا : فنقرأ عليك آية من كتاب الله ؟
قال : ( لا ، لتقومان عنّي أو لأقومنّ ) .
[ الإبانة الكبرى ، لابن بطة : 2/446 ].
و لمّا كانت شبه القوم و ضلالاتهم و
أقوالهم الفاسدة مبثوثة في كتبهم حتى تكاد تغص بها ، و تفيض من بطونها ، تبرّأ
سلفنا من كتب أهل البدع ، فذمّوها و نفّروا منها .
قال ابن قدامة : ( كان السلف ينهون عن مجالسة أهل البدع ، و النظر في كتبهم ) .
[ الآداب الشرعيّة ، لابن مفلح : 11/232 ].
و قال العلاّمة ابن القيّم : ( لا ضمان
في تحريق الكتب المضلّة و إتلافها . قال محمد بن نصر المروزي : قلت لأحمد :
استعرت كتاباً فيه أشياء رديئة أترى أن أخرقه أو أحرقه ؟
قال : نعم ! فأحرقه ، و قد رأى النبي صلى الله عليه و سلّم بيد عمر كتاباً
اكتتبه من التوراة ، و أعجبه موافقته للقرآن ، فتمعر وجه رسول الله صلى الله
عليه و سلّم ، حتى ذهب به عمر إلى التنور فألقاه فيه ... و كلّ الكتب المتضمنة
لمخالفة السنّة غير مأذون فيها ، بل مأذون في محقها و إتلافها ، و ما على
الأمّة أضرّ منها ، و قد حرّق الصحابة جميع المصاحف المخالفة لمصحف عثمان لِما
خافوا على الأمّة من الاختلاف ، فكيف لو رأوا هذه الكتب التي أوقعت الخلاف و
التفرّق بين الأمّة ؟! ) .
[ الطرق الحكميّة في السياسة الشرعيّة ، لابن
قيّم الجوزيّة ، ص : 275 ].
فانظر – رحمك الله – كيف أنّ البراءة من
البدعة و المبتدعة استلزمت التبرؤ حتى من علومهم و كتبهم ، لما بث فيها من
السموم و الضلال .
و لكي نكون منصفين في مذهبنا إلى البراءة من أهل الأهواء و البدع لا بد من ضبط
ذلك بضابط على قدر من الأهميّة و هو :
وجوب العدل و الإنصاف في الحكم على
المبتدعة
أمرنا الله تعالى بلزوم العدل مع الخصوم و المخالفين ، فقال : ( يا أيّها الذين
آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط و لا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا
اعدلوا هو أقرب للتقوى ) [ المائدة : 8 ].
و إذا كنّا عادلين في باب البراءة من المبتدعة و بغضهم و مباينتهم ، فلا بد أن
يكون ذلك بحسب البدعة المتَلبَّس بها ، مع موالاتهم و محبتهم لما فيهم من الخير
و البر من جهات أخرى ، هذا في حال كون البدعة غير مكفّرة ، و غير منافيةٍ لأصول
أهل السنّة و الجماعة المتفق عليها ، فيكون ( الحب و البغض بحسب ما فيهم من
خصال الخير و الشر ، فإنّ العبد يجتمع فيه سبب الولاية و سبب العداوة ، و الحب
و البغض ، فيكون محبوباً من وجه ، و مبغوضاً من وجه ، و الحكم للغالب ) .
[ شرح العقيدة الطحاويّة ، لابن أبي العز الحنفي
، ص : 434 ].
و هذا مقتضى العدل ، و قد قرره شيخ
الإسلام ابن تيميّة رحمه الله في قوله : ( إذا اجتمع في الرجل الواحد خير و شر
، و فجور و طاعة و معصية ، سنة و بدعة ، استحق من الموالاة بقدر ما فيه من
الخير ، و استحق من المعاداة بقدر ما فيه من الشر ، فيجتمع في الشخص الواحد
موجبات الإكرام و الإهانة ، فيجتمع له من هذا و من هذا ، كاللص الفقير نقطع يده
لسرقته ، و يُعطى من بيت المال ما يكفي حاجته ، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه
أهل السنّة و الجماعة ) .
[ مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية : 28/209 ]
و أختم هذه الرسالة بما أدين الله تعالى
به و هو قولي :
إنّ أهل البدع ليسوا على درجةٍ واحدةٍ ،
ففيهم المبتدع الكافر ببدعته ، و فيهم الفاسق بتلبسه بها ، و فيهم الداعية
إليها ، و غير الداعية ، و فيهم المعذور بجهله أو اجتهاده ، و غير المعذور ...
شأنهم في ذلك شأن أهل الإيمان عند من قال إنّه يزيد بالطاعة و ينقص بالعصيان
[ و هو مذهب جمهور أهل السنة خلافاً للحنفيّة .
انظر : شرح الطحاويّة ، ص : 335 و ما بعدها ]
، فلا بد أن يُنزل كلّ إنسان منزلته ، و يُحلَّ
محلَّه ، و يأخذ حقّه من المعاملة ولاءً و براءً .
و هذا هو الميزان السليم ، و الصراط القويم ، و القسطاس المستقيم ، و بالله
التوفيق .