إن الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره ، و نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، و
من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، و من يضلل فلا هادي له ، و
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله .
{
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلا وَ أَنْتُمْ
مسلمون
} [ آل عمران :
102 ] .
{
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَ خَلَقَ
مِنْهَا زَوْجَهَا وَ بَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَ نِسَاءً وَ
اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
} [ النساء : 1 ] .
{
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيْداً يُصْلِحْ لَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
} [ الأحزاب : 70 – 71 ] .
أما بعد ...
فمع توالي الأحداث و تكالب الأمم على أهل الإسلام ، تعرّضت الأمّة الإسلامية
لأكثَر من نكبة ، و ألمَّت بها مصائب جسام ؛ من أفظعِها وقوع المئات من
المسلمين في الأسر ، و الزج بهم خلف قضبان الحديد في معتقلات لا ترعى حقوقاً
و لا تُراعي حُرَماً .
و لا شك في أن معاناة المسلمين اليوم أمر جلل لم يسبق له مثيل عبر تاريخهم
الطويل ، حيث تداعت عليهم الأمم متكالبة ، و نابذتهم العداء متحالفة ، و
تجمهَر في الحملة الهوجاء عليهم أهلُ الأرض قاطبةً من يهود و صليبيين و
وثنيين و ملاحدة ، فضلاً عمن والاهم أو وافقهم ؛ باستعلاء أو على استحياء ؛
من حكام العَرَب و المسلمين .
و من أشنع ما أسفَرت عنه الحرب الضروس المعاصرة ضد الإسلام و أهله تمكين
الأعداء الحاقدين من رقاب الأولياء الصالحين ، حتى باتوا يعملون فيهم القتل و
التنكيل ، و الأسرَ و التكبيل ، و ينقلون المئات منهم من ديار المسلمين إلى
المعتقلات و الزنازين ، على مرأى و مسمَع الحكام و الزعماء ، فضلاً عن السوقة
و المستضعفين ، دون أن يُحرك ذلك ساكناً ، أو يَرفَعَ همةً لفكاك الأسرى
المستضعفين ، أو استنقاذ المعتقلين المضطهدين .
مع أن القيام بذلك واجب متعين – على الكفاية في أقل الأحوال - على من جعلهم
الله
{ خَيْرَ أُمَّةٍ
أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }
كل بحَسب طاقته و قُدرَته ، حسب ما دلت عليه عمومات النصوص الشرعية المؤكدة
على حق المسلم على المسلم ، و منها وجوب نصرته ، و تحريم خذلانه و إسلامه
لعدوه ، أو التخلي عنه ، كقوله تعالى :
{ وَ إِنِ
اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ }
[ الأنفال : 72 ] ، و ما ثبت في صحيح مسلم و عند أصحاب السنن عن أبي هريرة
رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( المسلم أخو المسلم لا
يظلمه و لا يخْذُلُه و لا يحقره )
.
و قال الإمام النووي [ في شرح صحيح مسلم : 16 / 120 ] : قال العلماء : الخذل
ترك الإعانة و النصر ، و معناه : إذا استعان به في دفع ظالم و نحوه لزمه
إعانته إذا أمكنه ، و لم يكن له عذر شرعي ، و ( لا يحقره ) أي : لا يحتقره ؛
فلا يُنكِر عليه ، و لا يستصغره و يستقله .اهـ .
و قد فهم الأئمة النقاد من هذا الخبر الصحيح الثابت أن على المسلم وجوباً أن
يهبَّ لنصرة أخيه المسلم ، و لو تجوَّز في سبيل ذلك بارتكاب مالا يحل إلا
للضرورة .
قال الإمام البخاري في صحيحه [ 6 / 2594 ] : ( باب يمين الرجل لصاحبه إنه
يتحقق إذا خاف عليه القتل أو نحوه ، و كذلك كل مكره يخاف ؛ فإنه يَذُبُّ عنه
الظالم ، و يقاتل دونه و لا يخذله ، فإن قاتل دون المظلوم فلا قِوَدَ عليه و
لا قصاص .
و إن قيل له : لتشربنَّ الخمر ، أو لتأكلنَّ الميتة ، أو لتبيعنَّ عبدك ، أو
تقرُّ بدَين ، أو تهب هبة ، أو تحلُّ عقدة ، أو لنقتلنَّ أباك أو أخاك في
الإسلام ، و ما أشبه ذلك ؛ وسعه ذلك ، لقول النبي : ( المسلم أخو المسلم ) .اهـ
.
و قال شارح الصحيح الحافظ ابن حجر [ في فتح الباري 12 / 324 ] بعد أن ذكر
طائفة من أقوال العلماء و خلافهم في مسألة الإكراه بتهديد الغير : ( و المتجه
قول بن بطال أن القادر على تخليص المظلوم توجه عليه دفع الظلم بكل ما يمكنه
فإذا دافع عنه لا يقصد قتل الظالم و إنما يقصد دفعه فلو أتى الدفع على الظالم
كان دمه هدراً و حينئذ لا فرق بين دفعه عن نفسه أو عن غيره ) .
و روى أبو داود من حديث جابر و أبي طلحة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : ( ما من امرئ مسلم يخذل امرَءاً مسلماً في موضع
تنتهك فيه حرمته ، و ينتقص فيه من عرضه ؛ إلا خذله الله في موضع يحب فيه
نصرته ، و ما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه ، و تنتهك فيه
حرمته ؛ إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته ) .
و أخرج الإمام أحمد و السيوطي ( في المعجم الصغير ) بإسنادٍ حسّنه عن سهل بن
حُنَيف عن أبيه عن النبي قال : ( من أُذل عنده مؤمن فلم ينصره ، و هو يقدر
على أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة ) .
قال الإمام المناوي رحمه الله شارحاً هذا الحديث [ في فيض القدير : 6/ 46 ،
47 ] : ( من أُذِلَّ ) بالبناء للمجهول ( عنده ) أي بحضرته أو بعلمه ( مؤمن
فلم ينصره ) على من ظلمه ( هو ) أي و الحال أنه ( يقدر على أن ينصره أذله
اللّه على رؤوس الأشهاد يوم القيامة ) فخذلان المؤمن حرام شديد التحريم
دنيوياً كان - مثل أن يقدر على دفع عدوّ يريد أن يبطش به فلا يدفعه - أو
دينياً .اهـ .
قلتُ : فلو وضع المسلم الذي يعيش العيش الرغيد نفسه في موضع أخيه المتقلب في
الآصار و الأغلال ، و استشعر الأخوة الإيمانية التي تجمعهما ، لبذل الغالي و
النفيس في تنفيس كربة أخيه ، و جاد في سبيل تحريره بكل ما تملكه يمينه ، و لا
أظننا في زمان يخذل فيه المسلم أخاه ، بالكلية و إن كثر المخذلون ، ففي الأمة
طلائع طائفة منصورة ، لن يزال أبناؤها على الحق ظاهرين .
و لو لم يرد في الشريعة المطهرة إلا ما تقدم من النصوص العامة في الدلالة على
وجوب نصرة المسلم و الذب عن عرضه ، و الدفاع عنه ، لكفى بها دليلاً على وجوب
استنقاذ الأسرى و فكاك المعتقلين ، و حافزاً على بذل الوُسع في رفع المظلمة و
دفع الضيم عنهم .
فكيف و قد وردت نصوص ظاهرة الدلالة على وجوب هذا العمل بعينه ، كما في قوله
تعالى :
{ وَ مَا لَكُمْ لا
تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَ
النِّسَاءِ وَ الْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ
هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَ اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ
وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا }
[ النساء : 75 ] .
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : ( و تخليص الأسارى واجب على جميع
المسلمين إما بالقتال و إما بالأموال ، و ذلك أوجب لكونها دون النفوس إذ هي
أهون منها ، قال مالك : واجب على الناس أن يُفْدوا الأسارى بجميع أموالهم ، و
هذا لا خلاف فيه ... و كذلك قالوا: عليهم أن يواسوهم فإن المواساة دون
المفاداة ) [ تفسير القرطبي : 5 / 257 ] .
و قد أمر بذلك نبي الرحمة صراحة ً كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي
الله عنه أنه قال : ( فكوا العاني ـ يعني الأسير ـ و أطعموا الجائع و عودوا
المريض ) .
قال الحافظ ابن حَجَر [ في الفتح : 6 / 167 ] : ( قال سفيان : العاني :
الأسير ، قال ابن بطال : فكاك الأسير و اجب على الكفاية ، و به قال الجمهور ،
و قال إسحاق بن راهويه : من بيت المال ، و روي عن مالك أيضاً ) .
و قال الإمام المناوي شارحاً هذا الحديث في فيض القدير : ( فكوا ) خلِّصوا ،
و الفكاك بفتح الفاء و تكسر التخليص ، ( العاني ) بمُهملة و نون أي أعتقوا
الأسير من أيدي العدو بمال أو غيره كالرقيق قال ابن الأثير : العاني الأسير و
كل من ذّل و استكان و خضع فقد عنا قال ابن بطال : فكاك الأسير فرض كفاية و به
قال الجمهور و قال ابن راهويه : من بيت المال ، و رُوي عن مالك و قال أحمد :
يفادي بالرؤوس أو بالمال أو بالمبادلة .اهـ .
و في الصحيح و سنن الترمذي عن أبي جحيفة قال : قلت لعلي رضي الله عنه : ( يا
أمير المؤمنين، هل عندكم من الوحي شيء ؟ ) قال: ( لا و الذي فلق الحبة و برأ
النسمة ، إلا فهماً يعطيه الله عز و جل رجلاً و ما في هذه الصحيفة ) ، قلت :
( و ما في هذه الصحيفة ؟ ) قال : ( العقل ، و فكاك الأسير ، و لا يقتل مسلم
بكافر ) .
و الوسائل
المعينة على فكاك الأسرى كثيرة ، يجب منها ما لا يتم الواجب إلا به ، و من
ذلك على وجه التمثيل لا الحَصر :
أولاً :
الإكثار من الدعاء لأسرى
المسلمين في الخلوات و الجماعات ، و في القنوت و على المنابر و في الصلَوات ،
و سائر مظانِّ الإجابة من الأمكنة و الأزمنة .
فقد كان عليه الصلاة والسلام يخص الأسرى بالدعاء ، و يسمي بعضَهم بأسمائهم ،
و يدعوا بالهلاك على أعدائهم ، كما في الصحيح عن أبي هريرة و عبد الله بن عمر
رضي الله عنهم أنّه كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة يقول : ( اللهم نجِّ
عياش بن أبي ربيعة ، اللهم نج سلمة بن هشام ، اللهم نج الوليد بن الوليد ،
اللهم نج المستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها
سنين كسني يوسف ) .
ثانياً :
استنقاذ أسرى المسلمين
من المشركين بدفع الفدية لإطلاقهم
، و ذلك من فك الرقاب الذي أمر الله تعالى به ، كما في قوله : فَلا
اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَ مَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ
[ البلد : 11-13 ] .
قال القرطبي [ في تفسير سورة البلد : 20 / 68 ] : ( قوله تعالى فَكُّ
رَقَبَةٍ فكُّها : خلاصها من الأسر. و قيل : من الرق ... و الفك : هو حل
القيد ؛ و الرق قيد ، و سمي المرقوق رقبة ؛ لأنه بالرق كالأسير المربوط في
رقبته . وسمي عنقها فكا كفك الأسير من الأسر .
قال حسان :
كم من أسيـر فككنـاه بلا *** ثمن وجز ناصية كنا مواليها )
و يُنفَق من بيت مال المسلمين إن كان موجوداً على فكاك الأسرى ، ففي مصنف ابن
أبي شيبة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ( لأن أستنقذ رجلاً من
المسلمين من أيدي الكفار أحب إلي من جزيرة العرب ) ، و في المصنف أيضاً عنه
رضي الله عنه أنه قال : ( كل أسير من المسلمين كان في أيدي المشركين ففكاكه
من بيت مال المسلمين ) .
و في إسناد هذين الأثرين ضعفٌ ، و لكن عليهما العَمَل عند أهل العلم كما
تقدّم و ما سيأتي بيانه عند ذكر أقوالهم رحمهم الله .
و قد حكى ابن حزم الإجماع عليه فقال [ كما في مراتب الإجماع ، ص : 122 ] : (
و اتفقوا أنه إن لم يُقْدَر على فك المسلم إلا بمال يعطاه أهل الحرب ، أن
إعطاءهم ذلك المال حتى يفك ذلك الأسير واجب ) .
و في المبسوط للسرخسي الحنفي [ 30 / 271 ] : ( من وقع أسيراً في يد أهل الحرب
من المؤمنين و قصدوا قتله يفترض على كل مسلم يعلم بحاله أن يفديه بماله إن
قدر على ذلك ، و إلا أخبر به غيره ممن يقدر عليه و إذا قام به البعض سقط عن
الباقين بحصول المقصود ) .
و قال الإمام النووي الشافعي رحمه الله [ كما في الروضة : 10/216 ] : بعد أن
ذكر وجوب الجهاد لتحرير الأسرى : ( و الفداء بالمال واجب إن استطعنا تخليص
الأسرى به ) .
و قال ابن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله : ( و يجب فداء أسرى المسلمين إذا
أمكن ، و بهذا قال عمر بن عبد العزيز ، و مالك ، و إسحاق ، و يروى عن ابن
الزبير أنه سأل الحسن بن علي : على من فكاك الأسير ؟ قال على الأرض التي
يقاتل عليها ) [ المغني : 9 / 228 ] .
و يدخل فكاك الأسرى في مصارف الزكاة ، فيصرف له من سهم اعتاق الرقاب ، كما
يُشرَع الإنفاق عليه من الكفارات الواجبة ، على ما هو مفصل في مظانه من كتب
الفقه .
قال الإمام القرطبي في تفسير آية الصدقة من سورة التوبة : ( و اختلفوا في فك
الأسارى منها – أي من أموال الزكاة - فقال أصبغ : لا يجوز . و هو قول ابن
قاسم . و قال ابن حبيب : يجوز ، لأنها رقبة مُلكت بملك الرق فهي تخرج من رق
إلى عتق ، و كان ذلك أحق و أولى من فكاك الرقاب الذي بأيدينا ، لأنه إذا كان
فك المسلم عن رق المسلم عبادة و جائزاً من الصدقة ، فأحرى و أولى أن يكون ذلك
في فك المسلم عن رق الكافر و ذله ) [ تفسير القرطبي : 8 / 183 ] .
و يُندب إلى وقف الأوقاف و حبس أصول الأموال على ما من شأنه فكاك الأسرى ،
حتى ينفق من خراج الوقف على كل أسير يقع في أيدي الأعداء إلى يوم يقوم
الأشهاد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( فكاك الأسارى من أعظم الواجبات ، و
بذل المال الموقوف و غيره في ذلك من أعظم القربات ) [ الفتاوى : 28/635 ] .
و سُئل رحمه الله عن مال موقوف على فكاك الأسرى ، و إذا استُدين بمال في ذمم
الأسرى بخلاصهم لا يجدون وفاءه : هل يجوز صرفه من الوقف ؟ و كذلك لو
استدانه ولي فكاكهم بأمر ناظر الوقف أو غيره ؟
فأجاب :
نعم يجوز ذلك ، بل هو الطريق في خلاص الأسرى ، أجود من إعطاء المال ابتداء
لمن يفتكهم بعينهم ، فإن ذلك يخاف عليه ، و قد يصرف في غير الفكاك ، و أما
هذا فهو مصروف في الفكاك قطعاً . و لا فرق بين أن يصرف عين المال في جهة
الاستحقاق ، أو يصرف ما استدين ، كما كان النبي تارة يصرف مال الزكاة إلى أهل
السهمان ، و تارة يستدين لأهل السهمان ثم يصرف الزكاة إلى أهـل الـدَّين ،
فعُلم أن الصرف و فـاء كالصرف أداء ، و اللّه أعلم .اهـ . [ مجموع الفتاوى
: 31 / ] .
ثالثاً :
مفاداة أسرى المسلمين
بأسرى الكافرين ، و
لتحقيق ذلك يُندَب المسلمون إلى الإثخان في العدو و أسر من يمكن أسره من
رجالهم لمفاداة المؤمنين بهم ، فإذا وقع في أيدي المسلمين أسير من أهل الحرب
و أمكن أن يفادى به أسير مسلم أو أكثر تعين العمل على ذلك ، و لا مندوحة عنه
.
قال الحافظ ابن حَجَر [ في الفتح : 6 / 167 ] : ( و لو كان عند المسلمين
أسارى و عند المشركين أسارى و اتفقوا على المفاداة تعينت ) .
و قد أُثر عن النبي حرصه على فكاك الأسارى بالفداء ، فعن عمران بن حصين رضي
الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم فدى رجلاً برجلين .
قال الموفق ابن قدامة المقدسي رحمه الله في المغني [ 9 / 228 ] : ( روى سعيد
بإسناده عن حبان بن حبلة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن على
المسلمين في فيئهم أن يفادوا أسيرهم و يؤدوا عن غارمهم ، و روي عن النبي أنه
كتب كتاباً بين المهاجرين و الأنصار ، أن يعقلوا معاقلهم و أن يفكوا عانيهم
بالمعروف ، و فادى النبي رجلين من المسلمين بالرجل الذي أخذه من بني عقيل ، و
فادى بالمرأة التي استوهبها من سلمة بن الأكوع رجلين ) .
و أُثر مثل ذلك عن السلف أيضاً ، فقد روى سعيد بن منصور في سننه [ 2822 ]
بإسناد فيه ضعف عن عبد الرحمن بن أبى عمرة في قصة بعث عمر بن عبد العزيز رحمه
الله له بفداء أسارى المسلمين من القسطنطينية ، قال : قلت له : ( أرأيت يا
أمير المؤمنين إن أبوا أن يفادوا الرجل بالرجل كيف أصنع ؟ ) قال عمر : ( زدهم
) قلت : ( إن أبوا أن يعطوا الرجل بالاثنين ؟ ) قال : ( فأعطهم ثلاثاً ) ،
قلت : ( فإن أبوا إلا أربعاً ؟ ) قال : ( فأعطهم لكل مسلم ما سألوك فوالله
لرجل من المسلمين أحب إلي من كل مشرك عندي ! إنك ما فديت به المسلم فقد ظفرت
، إنك إنما تشترى الإسلام ) قال عبد الرحمن بن أبى عمرة رحمه الله : ( فصالحت
عظيم الروم على كل رجل من المسلمين رجلين من الروم ) .
رابعاً :
النفير لفكاك الأسرى و
استخلاص المعتقلين بالشوكة و إعداد القوة لذلك ، باعتباره من أفضَل الجهاد في
سبيل الله تعالى .
قال ابن العربي المالكي رحمه الله في معرض حديثه عن الأسرى المستضعفين من
المسلمين : ( إنّ الولاية معهم قائمة ، و النصرة لهم واجبة بالبدن بألاّ يبقى
منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم ؛ إن كان عددناًَ يحتمل ذلك ، أو نبذل
جميع أموالنا في استخراجهم ، حتى لا يبقى لأحد درهم ، كذلك قال مالك و جميع
العلماء ، فإنا لله و إنا إليه راجعون على ما حلَّ بالخلق في تركهم إخوانهم
في أمر العدو ، و بأيديهم خزائن الأموال ، و فضول الأحوال ، و العدة و العدد
، و القوة و الجلد ) [ أحكام القرآن : 440/2 ] .
و قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى
{ وَ مَا لَكُمْ لا
تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَ
النِّسَاءِ وَ الْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ
هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَ اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ
وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا }
[ النساء : 75 ] : حض على الجهاد ، و هو يتضمن تخليص المستضعفين من أيدي
الكفرة المشركين الذين يسومونهم سوء العذاب و يفتنونهم عن الدين ، فأوجب
تعالى الجهاد لإعلاء كلمته ، و إظهار دينه و استنقاذ المؤمنين الضعفاء من
عباده و إن كان في ذلك تلف النفوس ) [ تفسير القرطبي : 5 / 279 ] .
وقال ابن حجر الهيتمي : ( ولو أسروا مسلما فالأصح وجوب النهوض إليهم فوراً
على كل قادر ) [ تحفة المحتاج : 9/237 ] .
قلت :
و مما ينبغي التنبيه
إليه في هذا السياق أنه لا عهد يصح و لا هدنة تُشرع مع المحاربين ما دام في
معتقلاتهم أسير مسلم واحد ، بل إن مهادنتهم على فرض صحة انعقادها ابتداءً
منقوضة بإصرارهم على أسر بعض المسلمين ، و عدم إطلاقهم مهما كانت ذرائعهم أو
ذرائع من يبررون فعلتهم و يتلمسون لهم الأعذار و المبررات من بني جلدتنا و
غيرهم .
قال الخطيب الشربيني الشافعي [ في مغني المحتاج : 4 / 261 ] معدداً الشروط
التي ينبغي أن يخلو عنها عقد الهدنة بين المسلمين و الكافرين : ( و كذا شرط
فاسد ) أي يشترط خلو عقد الهدنة من كل شرط فاسد ( على الصحيح ) المنصوص ( بأن
شرط منع فك أسرانا ) منهم ( أو ترك مالنا ) الذي استولوا عليه ... أو نحو ذلك
من الشروط الفاسدة ... و الأصل في منع ما ذُكِر قوله تعالى : فلا تهنوا و
تدعوا إلى السلم و أنتم الأعلون ) ، و في اشتراط ذلك إهانة ينبو الإسلام عنها
.اهـ.
خامساً :
ذكر محاسنهم و التعريف
بقضيتهم و إعلان أمرهم و إشهار مظلمتهم عند من يرجى قيامه بنصرتهم أو العمل
على تخليصهم ، و يستفاد
لتحقيق ذلك من وسائل الإعلام على تنوعها ، و كل وسيلة يمكن من خلالها إيصال
صوت المستضعفين إلى من يعنيه أمرهم ، و يرجى منه نصرهم من الدول و الجماعات و
الأفراد ، كما يعرف بمنظمات و هيئات حقوق الإنسان ، و المؤسسات الحقوقية ، و
غيرها .
و يدخل في هذا الواجب ما ينبغي من تذكير الحكام ( و إن كانوا عن الحق حائدين
، و لأهله في الغالب خاذلين ) لعل بقية من حمية أو نخوة تحرك ساكناً في
نفوسهم ، فيقدر الله على أيديهم بعض ما نصبوا إليه من التفريج عن إخواننا
الأسرى و المعتقلين .
و لن يعدم من يحمل هم إخوانه ، و يسعى لفك رقابهم من أيدي أعدائهم ؛ السبيل
للمساهمة في تحقيق هذا الهدف ، و إن كان ما في يده محدوداً فإنه سيكون ذا أثر
بالغ إذا أضيف إلى جهود غيره من الغيارى لا الحيارى .
{ إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ
عَمَلاً }
هذا و الله المستعان ، و
لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم ، و صلى الله و سلّم على نبيه و صفوة
خلقه محمد و آله و صحبه أجمعين .