السؤال :
ما الذي يترتب شرعاً على تفويض المرأة بتطليق نفسها إذا أُثبت ذلك عند عقد
النكاح أو بعده برضىً من الزوج و إشهادٍ و توثيق ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
تفويض الرجل امرأتَه بإيقاع الطلاق و حلّ عقد النكاح ، أو تخييرها بين البقاء
في عصمته أو تسريحها المقرون بتعهده بإنجاز خيارها ؛ أمرٌ مشروع .
وقد حكي الإجماع على أن المرأة المفوضة بتطليق نفسها إذا اختارت الطلاق فلها
ذلك .
قال الإمام المرغيناني الحنفي [ في الهداية ] : ( روي أن الصحابة أجمعوا على
أن المخيرة لها الخيار ما دامت في مجلسها ) .
و قال الإمام الشربيني [ في مغني المحتاج : 3 / 285 ] : ( فصلٌ في جواز تفويض
الطلاق للزوجة ؛ و هو جائز بالإجماع و احتجوا له أيضاً بأنه صلى الله عليه و
سلم خير نساءه بين المقام معه و بين مفارقته لما نزل قوله تعالى : " يا أيها
النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها " الخ ، فلو لم يكن
لاختيارهن الفرقة أثر لم يكن لتخييرهن معنى ) .
ثم قال رحمه الله شارحاً قول الماتن : ( له تفويض طلاقها إليها ، و هو تمليكٌ
فيشترط لوقوعه تطليقها على الفور ) : ( له ) أي : الزوج ( تفويض طلاقها )
المنجز صريحاً كان أو كناية ؛ كطلقي أو أبيني نفسك ( إليها ) أي : إلى زوجته
البالغة العاقلة ... ( و هو ) أي : تفويض الطلاق ( تمليكٌ ) للطلاق أي يعطى
حكم التمليك ؛ لأنه يتعلق بغرضها كغيره من التمليكات ، فنُزِّلَت منزلة قوله
ملكتك طلاقك ( فيشترط ) عليه ( لوقوعه ) تكليفه و تكليفها و ( تطليقها على
الفور ) لأن التطليق هنا جواب للتمليك ، فإن أخرت بقدر ما ينقطع به القبول عن
الإيجاب أو تخلل كلام أجنبي كثير بين تفويضه و تطليقها ثم طلقت نفسها لم تطلق
.اهـ .
قلتُ : و كأني بجلّ أقوال العلماء - أو أقوال جُلّهم - منصبة على تقييد إيقاع
طلاق المفوضة بإيقاعها أو طلبها لإيقاعه ما دامت في مجلس التخيير ، و في نفسي
من هذا التقييد شيء ، بل لو أريد بالتقييد بالمجلس قبول التفويض دون إيقاع
الطلاق لكان أوجه ، ربَّما !
و إنما ذهبت إلى أن ما يشترط قبوله في المجلس هو التفويض الذي يترتب عليه
إعطاؤها حق التطليق ، و ليس التطليق ذاته لسببين :
أولهما : لا يكاد ما روي من آثار مشعرة بوجوب اختيار التطليق في المجلس عن
الصحابة الكرام رضوان الله عليهم يخلو من الضعف ، و من ذلك ما ذكره الإمام
الزيلعي [ في نصب الراية بتخريج أحاديث الهداية ] في قوله :
( فيه – أي في تفويض الطلاق - عن ابن مسعود ، و جابر ، و عمر ، و عثمان ، و
عبد اللّه بن عمرو بن العاص أحاديث مختلفة :
فحديث ابن مسعود : رواه عبد الرزاق في "مصنفه" : أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح
عن مجاهد عن ابن مسعود ، قال : ( إذا ملَّكَها أمرها فتفرقا قبل أن تقضي بشيء
؛ فلا أمر لها ) . و من طريق عبد الرزاق رواه الطبراني في "معجمه" ، قال
البيهقي : فيه انقطاع بين مجاهد ، وابن مسعود .
و حديث جابر : رواه عبد الرزاق أيضاً ، أخبرنا ابن جريج عن أبي الزبير عن
جابر بن عبد اللّه ، قال : ( إذا خير الرجل امرأته فلم تختر في مجلسها ذلك
فلا خيار لها ) .
و حديث عمر ، و عثمان : رواه ابن أبي شيبة ، و عبد الرزاق في " مصنفيهما " :
حدثني المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد اللّه بن عمر
أن عمر بن الخطاب ، و عثمان بن عفان ، رضي الله عنهما قالا: ( أيُّما رجل
مَّلك امرأته أمرها و خيّرها ، ثم افترقا من ذلك المجلس : فليس لها خيار ، و
أمرها إلى زوجها ) . قال البيهقي: المثنى بن الصباح ضعيف ، ومن طريق ابن أبي
شيبة رواه في " المعرفة ".
وحديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص : رواه أبن أبي شيبة أيضاً عن حجاج بن
أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد اللّه بن عمرو ، قال في الرجل يخير
امرأته : ( لها الخيار ما دامت في مجلسها ) . و الحجاج ضعيف .اهـ .
و ثانيها : أن في مقابل هذه الآثار على فرْض صحتها حديث تخيير النبي صلى الله
عليه و سلم أزواجه الطاهرات رضوان الله عليهن ففي الصحيح عن الزُّهْرِيّ
قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَة بْن عَبْد الرَّحْمَن أَنَّ عَائِشَة
رَضِيَ اللَّه عَنْهَا زَوْج النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ
جَاءَهَا حِين أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُخَيِّر أَزْوَاجه ، قَالَتْ :
فَبَدَأَ بِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ فَقَالَ : (
إِنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا فَلا عَلَيْك أَنْ لا تَسْتَعْجِلِي حَتَّى
تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك ) .
قلت : و هذا نصٌ في التفويض حتى بعد انقضاء المجلس لأن استشارة أبوي الصديقة
لن تكون على الفور .
و خلاصة ما يظهر لي : أن التفويض صحيح ، و تترتب عليه نتيجته شرعاً ؛ و هي
إيقاع الطلاق من المرأة ابتداءً ، أو باختيارها ، و لكن يشترط لصحة التفويض
ما يشترط في عقود التمليك كالبيع و الشراء و الهبة و ما إلى ذلك ، من اقتران
الإيجاب بالقبول في المجلس الواحد ، و يترتب على هذا أن الرجل إذا فوض زوجته
بتطليق نفسها ، فلم تقبل التفويض حتى انفض المجلس أو قبلته بعد وقت طويلٍ –
عُرفاً – فإن التفويض لا يقع ، و عليه فلو طلقت نفسها باعتبارها مفوضةً بذلك
لم يقع تطليقها ؛ لفساد التفويض ، أما إذا قبلت التفويض في المجلس و كان غير
مقيد بزمن ، ثمّ اختارت الطلاق فيما بعد فلها ما اختارت .
و ما ذهبت إليه في هذه المسألة هو اختيار جماعة من أهل العلم رحمهم الله .
قال الإمام القرطبي في تفسير آية الأحزاب : ( اختلفت الرواية عن مالك متى
يكون لها الخيار ، فقال مرة : لها الخيار ما دامت في المجلس قبل القيام أو
الاشتغال بما يدل على الإعراض . فإن لم تختر و لم تقض شيئا حتى افترقا من
مجلسهما بطل ما كان من ذلك إليها ، و على هذا أكثر الفقهاء . و قال مرة : لها
الخيار أبداً ما لم يعلم أنها تركت ، و ذلك يُعلم بأن تمكنه من نفسها بوطء أو
مباشرة ، فعلى هذا إن منعت نفسها و لم تختر شيئا كان له رفعها إلى الحاكم
لتوقع أو تسقط ، فإن أبت أسقط الحاكم تمليكها .
... و وجه الرواية الثانية أن ذلك قد صار في يدها ملكته على زوجها بتمليكه
إياها فلما ملكت ذلك وجب أن يبقى في يدها كبقائه في يد زوجها .
قلت : وهذا هو الصحيح لقوله عليه السلام لعائشة : ( إني ذاكر لك أمراً فلا
عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك ) ... و هو حجة لمن قال : إنه إذا خير
الرجل امرأته أو ملكها أن لها أن تقضي في ذلك و إن افترقا من مجلسهما ، روي
هذا عن الحسن و الزهري ، و قال به مالك في إحدى روايتيه . قال أبو عبيد : و
الذي عندنا في هذا الباب ، اتباع السنة في عائشة في هذا الحديث ، حين جعل لها
التخيير إلى أن تستأمر أبويها ، و لم يجعل قيامها من مجلسها خروجاً من الأمر
. قال المروزي . هذا أصح الأقاويل عندي ، و قاله ابن المنذر و الطحاوي .اهـ .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .