السؤال :
ما هو الحد الذي تعرف به القواعد من النساء ؟
و هل تجوز مصافحة القواعد من النساء الأجنبيات عن الرجل ؟
و هل هناك فرق بين ما إذا كانت المرأة كافرة أو أعجمية ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
يقول الله تعالى :
( وَ الْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ
عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ
بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
)
[ النور : 60 ] .
و القواعد من النساء فيما ذهب إليه جمهور المفسرين هنّ النساء اللائي تجاوزن
سن النكاح لتقدمهن في العمر أو لإياسهن من المحيض .
قال ابن منظور: قَعَدَتِ المرأَةُ عن الحيض و الولدِ تَقْعُدُ قُعوداً ، و هي
قاعد : انقطع عنها ، و الجمع قَواعِدُ .
و في التنزيل : ( وَ الْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ ) . قال الزجاج في تفسير
الآية : هنَّ اللَّواتي قعدن عن الأَزواج . و قال ابن السكّيت : امرأَة
قاعِدٌ إِذا قعدت عن المحيض ، فإِذا أَردتَ القُعود – بمعنى الجلوس - قلتَ :
قاعدة .
و قال أَبو الهيثم : القواعد من صفات الإِناث لا يقال : رجال قواعِدُ . اهـ
من لسان العرب .
و قال الإمام الطبري في تفسيره : ( القواعد جمع قاعدة ، يقال للواحدة من
قواعد البيت قاعدة ، و للواحدة من قواعد النساء و عجائزهن قاعد ، فتلغى هاء
التأنيث ؛ لأنها فاعل من قول القائل : قعدت عن الحيض ، و لا حظ فيه للذكور ،
كما يقال : امرأة طاهر و طامث ؛ لأنه لا حظ في ذلك للذكور ) .
هذا ما يتعلق بحدّ القواعد من النساء و بيان صفتهن التي تترتب عليها الأحكام
الشرعيّة الخاصة بهن .
أما عن مصافحتهن فلم يفرّق الشارع الحكيم في تحريم مصافحة المرأة بين صغيرة و
كبيرة ، بل شملهن في الحكم ؛ و هو تحريم مصافحة الرجل للمرأة قولاً واحداً
تستوي فيه الصغيرة و الكبيرة و المسلمة و الكافرة .
فقد روى الشيخان ، و اللفظ للبخاري عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت
: ( مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ
يَدَ امْرَأَةٍ إِلا امْرَأَةً يَمْلِكُهَا ) .
و روى النسائي و ابن ماجة و أحمد في حديث مبايعة النساء بإسنادٍ صحيح عن أميمة
بنت رقيقة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلّم قال لهن : (
إنّي لا أصافح النساء ) .
و روى الطبراني في جامعه بإسنادٍ صححه الألباني عن معقل بن يسار رضي الله عنه
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لأن يُطعن في رأس أحدكم بمِخْيَط
من حديد خير له من أن يمسّ امرأة لا تحلّ له ) ، و المِخيَط هو الإبرة ، أو
المِسلّّّة .
و عليه فإنّ مصافحة الرجل للمرأة أو العكس حرامٌ ، و لا عِبرة بما يتذرّع به
بعضهم من تعرّضه للإحراج ، أو الاضطرار إلى فعل ذلك ، لأنّ الحقّ أحقّ أن
يُتّبَع ، و على المسلم أن لا يُعرّض نفسه للفتن ، أو يضع نفسه في موضع يضعف
فيه عن مقاومة الحرام ، و مجاهدة نفسه عن الوقوع به ، و الله أعلم .
أما ما اختصت به القواعد من النكاح فهو التجوّز في اللباس ، حيث يرخص للمرأة
الكبيرة ما لا يرخص لغيرها في باب اللباس ، و هو ما دلت عليه آية سورة النور
التي صدّرت بها جوابي هذا ، و ما فهمه أهل الفقه و التفسير منها .
قال الإمام الطبري في تفسير آية النور : يَقُول تَعَالَى ذِكْره : وَ
اللَّوَاتِي قَدْ قَعَدْنَ عَنِ الْوَلَد مِنَ الْكِبَر مِنْ النِّسَاء ،
فَلا يَحِضْنَ وَلا يَلِدْنَ ؛ وَاحِدَتهنَّ قَاعِد . ( اللاتِي لا يَرْجُونَ
نِكَاحًا ) يَقُول : اللاتِي قَدْ يَئِسْنَ مِنَ الْبُعُولَة ، فَلا
يَطْمَعْنَ فِي الأَزْوَاج . ( فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاح أَنْ يَضَعْنَ
ثِيَابهنَّ ) يَقُول : فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ حَرَج وَ لا إِثْم أَنْ يَضَعْنَ
ثِيَابهنَّ ، يَعْنِي جَلابِيبهنَّ ، وَ هِيَ الْقِنَاع الَّذِي يَكُون فَوْق
الْخِمَار وَ الرِّدَاء الَّذِي يَكُون فَوْق الثِّيَاب ، لا حَرَج
عَلَيْهِنَّ أَنْ يَضَعْنَ ذَلِكَ عِنْد الْمَحَارِم مِنَ الرِّجَال وَ غَيْر
الْمَحَارِم مِنَ الْغُرَبَاء غَيْر مُتَبَرِّجَات بِزِينَةٍ ... و َقَوْله (
غَيْر مُتَبَرِّجَات بِزِينَةٍ ) يَقُول : لَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاح فِي
وَضْع أَرْدِيَتهنَّ إِذَا لَمْ يُرِدْنَ بِوَضْعِ ذَلِكَ عَنْهُنَّ أَنْ
يُبْدِينَ مَا عَلَيْهِنَّ مِنْ الزِّينَة لِلرِّجَالِ . وَ التَّبَرُّج :
هُوَ أَنْ تُظْهِر الْمَرْأَة مِنْ مَحَاسِنهَا مَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ
تَسْتُرهُ .اهـ .
و قال الإمام القرطبي في تفسير الآية ذاتها مبيناً علّة الترخيص للقواعد من
النساء في أن يضعن عنهن الجلابيب : ( إِنَّمَا خُصَّ الْقَوَاعِد بِذَلِكَ
لانْصِرَافِ الأَنْفُس عَنْهُنَّ ؛ إِذْ لا مَذْهَب لِلرِّجَالِ فِيهِنَّ ،
فَأُبِيحَ لَهُنَّ مَا لَمْ يُبَحْ لِغَيْرِهِنَّ ، وَ أُزِيلَت عَنْهُمْ
كُلْفَة التَّحَفُّظ الْمُتْعِب لَهُنَّ ) .
قلت : إذا علم أن للقواعد من النساء فسحة في الترخص في اللباس ؛ فينبغي عدم
التوسع في العمل بهذه الرخصة ، بل الواجب قصرها على ما ذهب إليه جمهور
المفسرين و الفقهاء ، و هو عدم لبس الجلباب ( و هو الثوب الفضفاض الساتر الذي
ترتديه المرأة فوق ثيابها عند الخروج من البيت ، أو لقاء غير المحارم من
الرجال ) ، و هذا ما ذكره الطبري و القرطبي و ابن كثير و السيوطي ، و عامة
المفسرين ، و عزوه إلى السلف الصالحين ، و ساقوا بأسانيدهم ما يدل على أنه
فهم السلف للمراد من الآية و أقتصر من ذلك على جملة من الآثار في بيان المراد
من كلام الملك الجبّار اقتبسها من تفسير الجلال السيوطي الموسوم بالدر
المنثور في التفسير بالمأثور :
•
أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في السنن عن ابن عباس في قوله ( و
القواعد من النساء ) قال : هي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع و
خمار، و تضع عنها الجلباب ما لم تتبرج .
•
و أخرج عبد الرزاق و الفريابي و عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و
الطبراني و البيهقي في السنن عن ابن مسعود في قوله ( فليس عليهن جناح أن يضعن
ثيابهن ) . قال : الجلباب و الرداء .
•
و أخرج سعيد بن منصور و ابن المنذر عن ابن عمر في الآية قال : تضع الجلباب .
•
و أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله ( و إن
يستعففن خير لهن ) قال : يلبسن جلابيبهن .
•
و أخرج سعيد بن منصور و ابن المنذر و البيهقي في السنن عن عاصم الأحول قال :
دخلت على حفصة بنت سيرين و قد ألقت عليها ثيابها فقلت أليس يقول الله ( و
القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن )
. قالت : اقرأ ما بعده ( و إن يستعففن خير لهن ) و هو ثياب الجلباب .
و بعدُ فلا يسوغ ما تعمد إليه بعض النساء اللائي تقدّمن في السنّ من التساهل
في اللباس ، و إن كان الأشنع من هذا ما آلت إليه حال الكثيرات من فتيات
المسلمين في شرق العالم و غربه من التبرج و السفور و مجارات الكافرات في
اللباس و الزينة و الاختلاط و اتباع خطوات الشيطان .
فليحذر من رضي بالله ربّاً و بالإسلام ديناً و بمحمداً صلى الله عليه و سلّم
نبيّاً من الانحراف عن شريعة الله تعالى تحت أي ذريعة يتذرع بها المتساقطون
أمام الشبهات و الشهوات ، فإن من يريد الفلاح و النجاح يدعُ ما لا بأس به
خوفاً ممّا به بأس .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .