السؤال :
سمعنا كثيراً في السنوات الأخيرة عن مصطلح ( توحيد الحاكمية ) فما حقيقة هذا
التوحيد ؟ و ما حكم استعمال هذا المصطلح في الطرح الإسلامي المعاصر ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
لفظ ( الحاكميّة ) من الألفاظ المولّدة القائمة على غير مثال سابق في اللغة
العربية ، و أول من استخدمها في خطابه السياسي و الديني هو العلامة الهندي
الشهير أبو الأعلى المودودي ، ثم أخذها عنه الأستاذ سيد قطب رحمهما الله
فبثها في كتاباته كمَعْلَم من معالم العمل الإسلامي الذي جاد بنفسه في الدعوة
إليه و التركيز عليه .
هذا عن أصل استعمال ( الحاكمية ) كلفظٍ في لغة العرب ، و قد أصبحت مرادفة
للحكم في اصطلاح كثير من المتأخرين ، و إذا وقف الأمر عند حد إطلاق هذا
المصطلح على المراد الشرعي منه ، و هو إفراد الله بالتحكيم و التشريع فلا بأس
في ذلك إذ لا مشاحّة فى الاصطلاح كما هو مقرر عند الأصوليين .
و ممّا لا خلاف فيه بين الموحدين قاطبةً وجوب توحيد الله تعالى في التحكيم و
الرد إلى شريعته المحكمة المنزلة في كتابه المبين ، و سنة نبيّه خاتم
المرسلين صلى الله عليه و آله و صحبه و سلم ، قال تعالى : ( و لا يشرك في
حكمه أحداً ) و في قراءة ابن عامر ، و هو من القراء السبعة : ( و لا تُشرك في
حكمه أحداً ) ، و قال سبحانه : ( ألا له الخلق و الأمر ) ، و قال أيضاً : (
إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس
لا يعلمون ) .
فمن أعطى حق التشريع أو الحكم فيما شجر بين الخلق لغير الخالق أو أقر بذلك أو
دعا إليه أو انتصر له أو سلّم به دونما إكراهٍ فقد أشرك بالله شركاً أكبر
يخرجه من ملة الإسلام ، و العياذ بالله .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله [ في منهاج السنّة النبويّة : 5 / 130 ]
: ( و لا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر ،
فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتّباع لما أنزل الله
فهو كافر فإنه ما من أمة إلا و هي تأمر بالحكم بالعدل ، و قد يكون العدل في
دينها ما يراه أكابرهم ... فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما
أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله منهم
كفار ) .
و قال العلاّمة الشنقيطي رحمه الله [ في أضواء البيان : 7 / 162 ] : (
الإشراك بالله في حكمه و الإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد لا فرق بينهما
ألبتة ، فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله ، و تشريعاً غير تشريع الله ، و من
كان يعبد الصنم ، و يسجد للوثن لا فرق بينهم ألبتة ؛ فهما واحد ، و كلاهما
مشرك بالله ) .
و قال رحمه الله أيضاً [ في أضواء البيان : 7 / 169 ] : ( لما كان التشريع و
جميع الأحكام ؛ شرعية كانت أو كونية قدرية ، من خصائص الربوبية ، كما دلت
عليه الآيات المذكـورة ، كان كل من اتبــع تشـريعاً غير تشــريع الله قد اتخذ
ذلك المشرِّع رباً ، و أشركه مع الله ) .
و خلاصة ما بينه رحمه الله تعقيباً على الآيات البينات التي سقناها آنفاً
يوجزه قوله : ( إن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله مشركون بالله ) .
و ليس بعيداً عنه قول مفتى الديار السعودية في زمنه الشيخ محمد بن إبراهيم
رحمه الله : ( أما الذي جعل قوانين بترتيب و تخضيع فهذا كفر و إن قالوا
أخطأنا و حكم الشرع أعدل ؛ فهذا كفر ناقل عن الملة ) .
و للمشائخ المعاصرين حفظ الله حيهم و نفع به و رحم ميتهم و أجزل مثوبته من
الكلام في وجوب توحيد الله في الحكم و التشريع ، و تسمية العدول عنه شركاً ،
و الحكم على صاحبه بالكفر الأكبر الناقل عن الملة الشيء الكثير مما لا يسمح
المقام بتتبعه و سرده مطولاً ، و من أراد التوسع فعليه بفتاوى سماحة الشيخ
عبد العزيز بن باز رحمه الله و رسائله ، و بخاصة رسالة نقد القومية العربية .
قلت : و إذا تقرر وجوب إفراد الله بالتحكيم و أن من الكفر الأكبر أن يُشرَكَ
في حكمه أحدٌ من خلقه سواءً كان ملكاً أو رئيساً أو سلطاناً أو زعيماً أو
مجلساً تشريعياً أو سلطةً مدنية أو عسكرية أو فرداً من العامة أو الخاصة أو
غير ذلك ، و أن ذلك مما أجمعت عليه الأمة ، و لا يسوغ لأحد أن يخالف أو يجادل
فيه ، فلن يكون للخلاف حول إطلاق مصطلح ( توحيد الحاكمية ) أو عدمه أثر في
الواقع ، و لا داعي للانشغال بتقرير هذا التوحيد كقسمٍ رابع من أقسام التوحيد
المعروفة ، أو رده إلى الأقسام الأخرى ، و خاصة توحيد الربوبية و توحيد
الألوهية .
بل يجب أن يبقى الأمر في دائرة المصطلحات السائغة التي لا مشاحة فيها لأحد ،
مع التسليم بجدوى التقسيم إذا كان فيه مصلحة معتبرة لطالب العلم كتسهيل
دراسته و تحصيله ، أو لضرورة تنبيه الناس إلى ما غاب عنهم أو انشغلوا عنه
بغيره من أبواب العلم و العمل .
فإن أبى من جمد على تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام إلا أن يبدّع من خالفه في
هذا التقسيم و يغمز قناته بإطلاق لسانه بثلبه أو نبذه بالتحزب و الخروج و نحو
ذلك ؛ قلنا له : من أين لك أن تقسيم التوحيد إلى قسمين أو ثلاثة مرده إلى
الكتاب أو السنة أو هدي سلف الأمة ؟
أما إن اعتُرض على توحيد الحاكمية كاصطلاح و ليس على مجرد التقسيم إلى قسمين
أو ثلاثة أو أربعة أو أكثر أو أقل ، فيقال للمعترض : إن الدعوة إلى إفراد
الله و رسوله بالحكم ليس مما ابتدعه المعاصرون بل هو من القدم بمكان .
قال ابن أبي العزّ الحنفي [ في شرح الطحاويّة ، ص : 200 ] في معرِض ذِكرِ ما
يجب على الأمّة تجاه نبيّها صلى الله عليه وسلم : ( فنوحّده بالتحكيم
و التسليم و الانقياد و الإذعان ، كما نوحّد المرسِلَ بالعبادة و الخضوع و
الذلّ و الإنابة و التوكّل ، فهما توحيدان ، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا
بهما : توحيد المرِسل ، و توحيد متابعة الرسول ، فلا نحاكم إلى غيره ، و لا
نرضى بحُكم غيره ) .
فإن شغب علينا من يقول : إن الإمام الطحاوي رحمه الله ذكر توحيد الرسول
بالتحكيم و لم يكن حديثه عن توحيد الله .
قلنا : الأبعَدُ ثكلته أمه !! و هل ثمة فرق بين تحكيم الله و تحكيم رسوله
الذي لا ينطق عن الهوى ؟
و إن قيل : إن الكلام عن الطاعة و التسليم و الانقياد و ليس عن التحكيم
بمعناه المستخدم عند المعاصرين و هو التحكيم في التشريع !
قلنا : أوليس ردّ التشريع إلى الله تعالى من صميم التسليم و الانقياد و
الإذعان للشارع الحكيم سبحانه ؟!
بل هو من أدق مسائل التوحيد في الربوبية التي تثبت لله دون سواه الحق في
التشريع ، و في الربوبية التي توجب صرف هذا الحق لله تعالى على الإفراد و
التوحيد ؛ كما هو مقرر في كتب أصول الدين ، و الموفق من وفقه الله لفهم كلام
السلف ، و نهج نهجهم ، و سلوك سبيلهم ، على كان عليه ، لا على ما قد يتوهمه
بعض الخلف ، و ينسبونه إلى السلف ظناً منهم أو زعماً أنه منهج السلف الصالح
رضوان الله عليهم .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .