السؤال :
ما حكم الشرع فيمن يسب الأموات ، أو يذكرهم بسوء ، أو يكشف سوءاتهم و يتتبع
عوراتهم ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إن الله تعالى جعل حرمة المسلم من أكبر الحُرمات ، و أوجب صونها على المسلمين
و المسلمات ، و هذا ما فهمه السلف قبل الخلف ؛ فقد روى ابن حبان و الترمذي
بإسنادٍ حسن أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما نظر يوماً إلى الكعبة فقال :
( ما أعظمَكِ و أعظمَ حُرمتِكِ ! و المؤمنُ أعظم حُرْمةً مِنْكِ ) .
و حرمة المسلم غير مقيدة بحياته ، بل هي باقية في الحياة و بعد الممات و يجب
صونها و الذب عنها في كلّ حال ، و على كلّ حال .
روى البخاري أن عبد الله بْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما شهد جِنَازَةَ
مَيْمُونَةَ أم المؤمنين رضي الله عنها بِسَرِفَ فَقَالَ : ( هَذِهِ زَوْجَةُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ فَإِذَا رَفَعْتُمْ نَعْشَهَا
فَلا تُزَعْزِعُوهَا وَ لا تُزَلْزِلُوهَا و ارْفُقُوا ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله [ كما في فتح الباري : 9 / 113 ] : يُستفاد من
هذا الحديث أنَّ حرمة المؤمن بعد موته باقية كما كانت في حياته ، و فيه حديث
( كسْرُ عَظْمِ المؤمن ميْتاً كَكَسرِهِ حياً ) أخرجه أبو داود و ابن ماجه و
صححه ابن حبان . اهـ .
قلت : هذا الحديث حسَّن الجلال السيوطي في الجامع الصغير إسناده عن أم سلمة
رضي الله عنها ، و ليس كما قال ، و سكت عن بيان درجة إسناده عن عائشة أم
المؤمنين رضي الله عنها ، و هو إسناد صحيح ، فتنبه .
و من المعلوم أن نصوص الشريعة جاءت بتحريم سب المسلم على الإطلاق و لم تفرِّق
في النهي بين الأحياء و الأموات ، و شددت في الوعيد لمن سبَّ مسلماً و من ذلك
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : ( سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَ
قِتَالُهُ كُفْرٌ ) رواه الشيخان و غيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
.
قال الحافظ ابن حجر : ( في الحديث تعظيم حق المسلم ، و الحكم على من سبه بغير
حق بالفسق ) .
و روى مسلم في صحيحه و أبو داود و الترمذي كل في سننه ، و أحمد في مسنده ، عن
أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، قال : (
المستبان ما قالا فعلى البادئ ، ما لم يعتد المظلوم ) .
أي أنَّ إثم ما يقع من سباب المتسابَّيْن ينوء به الأول ، لأنه المتعدِّي ، و
المتسبب في الإثم فيبوء به كلُّه ، إلا إن تطاول المنافح عن نفسه فزاد في
الانتصار لنفسه عن القدر المشروع في دفع الظلم ، فيلحقه حينئذٍ إثم الزيادة و
التعدي ، كما نص على ذلك الإمام النووي رحمه الله و غيره من شراح الحديث .
و هذه النصوص و غيرها تراعي حرمة المسلم دون تفريق بين حال حياته ، و ما بعد
مماته ، و يستفاد منها مجتمعة أن سبَّ المسلم على العموم كبيرة مفسّقة .
فإذا أضيف إليها ما جاء في النهي عن سبِّ الأموات على الخصوص ، صار التحريم
آكَد و النهي أبلغ .
روى البخاري و النسائي و أحمد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ
: قال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تَسُبُّوا
الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا ) ، و قد بوَّب
البخاري على هذه الحديث في الصحيح ، فقال : ( باب ما ينهى من سبِّ الأموات )
.
و علَّل بعض أهل العلم النهي عن سبِّ الأموات بما يلحق الأحياء بسببه من
الأذى الذي لا يبلُغ الميت بحال .
قال ابن حبان في صحيحه : ذكر البعض من العلة التي من أجلها نهى عن سب الأموات
، ثم روى بإسناده إلى زياد بن علاقة أنه سمع المغيرة بن شعبة يقول : قال رسول
الله صلى الله عليه و سلم : ( لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء ) [ صحيح ابن
حبان : 3022 ] .
قلتُ : و روى هذا الحديث الترمذي في سننه ، و أحمد في مسنده ، و حسنه
الطبراني في معجمه الصغير ، و ليس كما قال ، بل في إسناده مقال ، و إن كان
معناه صحيحاً محتملاً ، و الله أعلم .
ثُمَّ ؛ إذا كان السبُّ يصدق على مطلق الشتم أو الطعن في الخصم بالقول ، فقد
أشكل تحريم سب المسلم بعد موته على من تعارضت في نظره النصوص ؛ ففي مقابل ما
تقدم من الأدلَّة على التحريم ، نقف على ما رواه الشيخان و غيرهما عن أنس بن
مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال حين مرت به جنازة
فأثني عليها خير فقال : ( وجبت وجبت وجبت ) . ثم مر عليه بأخرى فأثني عليها
شر فقال : ( وجبت وجبت وجبت ) . فقال عمر : فدى لك أبي و أمي ، مر بجنازة
فأثني عليها خير فقلت : ( وجبت وجبت وجبت ) و مر بجنازة فأثني عليها شر فقلت
: ( وجبت وجبت وجبت ) ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( من أثنيتم
عليه خيراً وجبت له الجنة و من أثنيتم عليه شراً وجبت له النار ، أنتم شهداء
الله في الأرض ، أنتم شهداء الله في الأرض ، أنتم شهداء الله في الأرض ) .
و ظاهر هذا الحديث يدل على جواز ذكر الميت بالسوء – الذي يدخل في مسمى السبِّ
– ففي إقرار النبي صلى الله عليه وسلَّم لمن فعله بين يديه ، و ترتيبه الحُكم
بوجوب النار عليه ، ما يدلُّ على جوازه ، و لذلك أشكل القول بالتحريم المطلق
على من تعسَّر عليه الجمع بين هذه النصوص .
و مَن جَمَع بين النصوص ذهب إلى التفريق بين حال و أخرى من أحوال سب الميت أو
غيبته ، و لعل صاحب الصحيح أشار إلى اختلاف الحكم بحسب اختلاف حال الميت
حينما قال : ( باب ما يُنْهى من سبِّ الأموات ) ، حيث استعمل ( مِن )
التبعيضية ، و كأنَّه يشير إلى ورود النهي عن سب الأموات في بعض الأحوال فقط
، و ليس على الإطلاق .
و ذهب بعض أهل العلم إلى التفريق بين السب و بين مطلق الذكر بالشر ، حمله على
ذلك الجمع النصوص .
قال الإمام المناوي رحمه الله في فتح القدير : ( السب غير الذكر بالشر ، و
بفرض عدم المغايرة فالجائز سب الأشرار و المنهي سب الأخيار ) .
قلتُ : و من خضم هذا الخلاف نخرج بأن النهي عن سب الأموات و الوقوع فيهم
بالغيبة ، و النيل من أعراضهم بالحط و الغمز و اللمز ؛ حكمه حكم نظيره الواقع
في حق الأحياء ، فمن جازت غيبته و مسبته حياً ؛ جاز ذلك في حقه ميتاً ، و هو
الكافر ، و المنافق ، و الفاسق المجاهر بفسق أو بدعةٍ أو الداعي إلى شيءٍ من
ذلك ، فيُذْكَر هذا بما فيه من شرٍ متعدٍِ ، شهادةً بما فيه ، و تنبيهاً
لغيره ، و تنفيراً منه ؛ ليحذره الناس ، و لا يكون ذلك إلا ببيّنة و برهان ،
لا ريبة فيهما و لا ارتياب ، لأن الكلام في المسلم حياً أو ميتاً بما ليس فيه
من البهتان المحرم ، و إن كان بما فيه من غير وجود مبرر و مقتضٍ شرعيٍ لذكره
فهو من الغيبة المحرمة ؛ و كلا الأمرين من الكبائر الموبقة .
أما سائر المسلمين ، و عموم الموحدِّين ؛ فلا يجوز انتهاك حرماتهم أو التعرض
لهم بالسب أو الشتم أو السعي بالغيبة و النميمة أحياءً و لا أمواتاً ، و
ليحذر من يخوض في أعراض المسلمين متجنياً من أن يسوق بريئاً خصماً له بين يدي
ملك الملوك ، و أحكَم الحاكمين ، و مُنصف المظلومين .
قال الإمام النووي رحمه الله [ في شرحه لصحيح مسلم : 7 / 20 ] : ( فان قيل :
كيف مكنوا بالثناء بالشر مع الحديث الصحيح في البخاري و غيره في النهي عن سب
الأموات ؟ فالجواب : ( أن النهي عن سب الأموات هو في غير المنافق و سائر
الكفار ، و في غير المتظاهر بفسق أو بدعة ، فأما هؤلاء فلا يحرم ذكرهم بشر
للتحذير من طريقتهم ، و من الاقتداء بآثارهم و التخلق بأخلاقهم . و هذا
الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شراً كان مشهوراً بنفاق أو نحوه مما
ذكرنا ، هذا هو الصواب في الجواب عنه ، و في الجمع بينه و بين النهي عن السب
) .
هذا ، و لا عاصم إلا من عصمه الله ، و ما توفيقي إلا بالله .