السؤال :
ما حكم لبس النعال أو خلعه أثناء زيارة المقابر ، و المشي بين القبور ؟ و هل
يؤذي ذلك أهلها ؟
الجواب
:
أقول مستعيناً بالله تعالى :
اختلف العلماء في حكم لبس النعلين أثناء زيارة المقابر على أقوال :
•
أولها : النهي مطلقاً ، لحديث بشير بن الحصاصية رضي الله عنه قال : بينما أنا
أُماشي النبيَّ صلى اللّه عليه و سلم نظرَ فإذا رجلٌ يمشي بين القبور عليه
نعلان فقال : ( يا صَاحبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ ! وَيْحَكَ أَلْقِ
سِبْتِيَّتَيْكَ ) .
رواه أبو داود و ابن ماجة و النسائي و أحمد و الحاكم ، و قال : ( هذا حديث
صحيح الإسناد و لم يخرجاه ) ، و حسَّنه الألباني .
و النعال السبتية بكسر السين المهملة هي التي لا شعر فيها ، و غالباً ما تتخذ
من جلود البقر المدبوغة بالقرظ ، و سميت النعال بذلك لأن شعرها سَبَتَ عنها ؛
أي حُلِق و أزيل ، كما قرَّر أهل اللغة .
و ليست السبتية من النعال مقصودة بالتحريم بذاتها لعدم الفارق بين نعل و آخر
في العلة – و إن لم تذكر – كما قال الشوكاني في نيل الأوطار ، و ربما ذكرت
النعلان السبتيتان دون غيرهما هنا لتنبيه صاحبهما بما يستدعي انتباهه ، أو
لبيان واقع الحال عند ورود النهي .
و هذا الحديث نص في النهي ، و النهي مفيد للتحريم بظاهره ، ما لم يصرفه عنه
صارف .
•
القول الثاني : استحباب خلع النعال عند زيارة القبور ، و هو اختيار ابن قدامة
في المغني حيث قال رحمه الله :
لذلك قال الإمام أحمد رحمه الله : إسناد حديث بشير بن الخصاصية جيد ، أذهب
إليه إلا من علة . اهـ .
قلت : و لعل العلة المقصودة ما يبلغ ضرره ، و يصعب تجنبه بغير الانتعال
كالشوك ، و النجاسة ، و هوامِّ الأرض ، و نحو ذلك مما يوجد أو يكثر وجوده في
المقابر ، و غير المعمور من الأرض .
•
و ثالث أقوال أهل العلم هو الإباحة مطلقاً ، و دليلهم على ذلك ما رواه أصحاب
الكتب الستة و غيرهم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ قَالَ : ( الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي
قَبْرِهِ وَ تُوُلِّيَ وَ ذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ
قَرْعَ نِعَالِهِمْ ) .
قلت : قوله : ( تُوُلِّيَ ) بالمبني للمجهول لفظ البخاري ، و معناه أن
الملائكة تولت أمر سؤاله و حسابه كما قال الحافظ في الفتح ، و رواه مسلم و
غيره بلفظ : ( تَوَلَّى عنه أصحابه ) بالمبني للمعلوم ، و معناه على هذه
الرواية ظاهر جلي ؛ أي تركوه و أسلموه لما يستقبل و قفلوا عنه راجعين .
و وجه استدلالهم بحديث أنس على جواز المشي بالنعال بين القبور أن النبي صلى
الله عليه و سلم ذكره و أقرَّه ، و لو كان مما ينهى عنه لنهى عنه عند ذكره ،
إذ إنَّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، كما هو مقرر عند الأصوليين .
و إلى هذا القول ذهب الإمام النسائي و الطحاوي و غيرهما .
و قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله : ( أكثر أهل العلم لا يرون بذلك بأسا ،
قال جرير بن حازم : رأيت الحسن ، و ابن سيرين يمشيان بين القبور في
نعالهما ) .
•
و القول الرابع : هو التفريق بين النعال السبتية و غيرها ، و قصر التحريم على
السبتية ، و هذا مذهب الإمام المحقق أبي محمد بن حزم الظاهري رحمه الله ، فقد
قال في المحلى : ( وَ لاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَمْشِيَ بَيْنَ الْقُبُورِ
بِنَعْلَيْنِ سِبْتِيَّتَيْنِ ؛ وَ هُمَا اللَّتَانِ لاَ شَعْرَ فِيهِمَا ،
فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا شَعْرٌ : جَازَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا
بِشَعْرٍ ، وَ الأُخْرَى بِلاَ شَعْرٍ جَازَ الْمَشْيُ فِيهِمَا ) .
ثمَّ ذكر حديث أنس رضي الله عنه في سماع الميت قرع نعال أصحابه إذا تولَّوا
عنه ، و عقَّبَ عليه بقوله : ( فَهَذَا إخْبَارٌ مِنْهُ عليه السلام بِمَا
يَكُونُ بَعْدَهُ ، وَ أَنَّ النَّاسَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سَيَلْبَسُونَ
النِّعَالَ فِي مَدَافِنِ الْمَوْتَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، عَلَى
عُمُومِ إنْذَارِهِ عليه السلام بِذَلِكَ ، وَ لَمْ يَنْهَ عَنْهُ ، وَ
الأَخْبَارُ لاَ تُنْسَخُ أَصْلاً ) .
قال أبو الخطاب : يشبه أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما كره
للرجل المشي في نعليه لما فيهما من الخيلاء فإن نعال السبت من لباس أهل
النعيم ، فقد قال عنترة في ميميته مفاخراً بما صنع و هو يصف الفارس الذي
أرداه بأبيات منها :
بطلٌ كأن ثيابه في سرحةٍ *** يحذي نعال السبت ليس بتوأم
الترجيح :
قال الإمام المحقق ابن قدامة المقدسي : ( و لنا أمر النبي ـ صلى الله عليه
وسلم ـ في الخبر الذي تقدم ، و أقل أحواله الندب ، و لأن خلع النعلين أقرب
إلى الخشوع و زي أهل التواضع ، و احترام أموات المسلمين و إخبار النبي ـ
صلى الله عليه وسلم ـ بأن الميت يسمع قرع نعالهم لا ينفي الكراهة ، فإنه يدل
على وقوع هذا منهم ، و لا نزاع في وقوعه و فعلهم إياه مع كراهيته فأما إن
كان للماشي عذر يمنعه من خلع نعليه مثل الشوك يخافه على قدميه ، أو نجاسة
تمسهما لم يكره المشي في النعلين . قال أحمد في الرجل يدخل المقابر و فيها
شوك يخلع نعليه ؟ : هذا يضيق على الناس حتى يمشي الرجل في الشوك ، و إن
فعله فحسن هو أحوط وإن لم يفعله رجل يعني لا بأس ، و ذلك لأن العذر يمنع
الوجوب في بعض الأحوال ، و الاستحباب أولى ، و لا يدخل في الاستحباب نزع
الخفاف ؛ لأن نزعها يشق ، و قد روي عن أحمد أنه كان إذا أراد أن يخرج إلى
الجنازة لبس خفيه ، مع أمره بخلع النعال ، و ذَكر القاضي أن الكراهة لا تتعدى
النعال إلى الشمشكات ، و لا غيرها لأن النهي غير معلل ، فلا يتعدى محله )
.
قلتُ :
و ما ذهب إليه ابن قدامة رحمه الله بيِّنُ الرجحان لأن فيه إعمال للنصوص ،
حيث إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم ثابت ، و هو في أقل حالاته يفيد كراهة
المنهي عنه ، و أمره يفيد الندب في أقل أحواله ، و نظراً لوجود المعارض ( في
حديث أنس المتقدم ) لحمل الأمر على الوجوب و النهي على التحريم ، لزم أن يصار
إلى الجمع بين الأدلة ، و مقتضاه الندب إلى خلع النعال في المقابر ، و النهي
عن ذلك كراهةً لا تحريماً كما قرره ابن قدامة و اختاره الإمام أحمد رحمهما
الله .
كما إن في هذا القول رفع للحرج الواقع بغلبة الظن حال وجود المشقة في خلع
النعال بسبب الأشواك و نحوها ، لذلك روعي رفع الحرج في الترجيح ، و الله
تعالى أجل و أعلى و أعلم و أحكم .
هذا و الله الهادي إلى سواء السبيل ، و بالله التوفيق .