السؤال :
ما حكم التصفيق للرجال ؟ و هل هو من
قبيل التشبه بالكفار ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إن كلَّ مَن حَكم على التصفيق بالكراهة أو التحريم ، عدَّه مِن التشبه
بالنساء اللائي أُمرنَ بالتصفيق إن نابهنَّ شيءٌ في الصلاة ، أو مِن التشبه
بالمشركين في صلاتهم عند البيت الحرام .
فمن عدَّه تشبهاً بالنساء أثبت كونه من فعل النساء بالسنة ، و استدل على
النهي عنه كراهةً أو تحريماً بما جاء في السنة أيضاً من تحريم التشبه
بالنساء و لعن فاعليه .
أما كونه من فعل النساء فدليله ما ثبت في الصحيح و غيره عن سهل بن سعد
الساعدي ، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف
ليُصلح بينهم ، فحانت الصلاة ، فجاء المؤذن إلى أبي بكر ، فقال : أتصلي
للناس فأقيم ؟ قال : نعم ، فصلى أبو بكر ، فجاء رسول الله صلى الله عليه و
سلم و الناس في الصلاة ، فتخلص حتى وقف في الصف ، فصفَّق الناس ، و كان أبو
بكر لا يلتفت في صلاته ، فلما أكثر الناس التصفيق الْتَفَتَ ، فرأى رسول
الله صلى الله عليه و سلم ، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم أن
أمكث مكانك . فرفع أبو بكر رضي الله عنه يديه ، فحمد الله على ما أمره به
رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى في
الصف ، و تقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلى ، فلما انصرف قال : (
مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ ؟ ) . فقال أبو بكر: ما كان
لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال رسول
الله صلى الله عليه و سلم : ( مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمْ
التَّصْفِيقَ ؟ مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاتِهِ فَلْيُسَبِّحْ ،
فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ ، و إِنَّمَا التَّصْفِيقُ
لِلنِّسَاءِ ) .
و ظاهر هذا الحديث قَصرُ التصفيق على النساء ، لاستهلاله بأداة الحصر (
إنَّما ) فيكون معناه : لا تصفيق إلا للنساء . قال الشوكاني [ في نيل
الأوطار ] : ( قوله : " إنما التصفيق للنساء " يدل على منع الرجال منه
مطلقاً ) .
غير أنَّ ظاهر الحديث لا دليل فيه على أن نهي الرجال عن التصفيق يسوي في
الحكم بين كونه داخل الصلاة أو خارجها ، و إن كان ذلك محتملاً ، و القاعدة
تقول : إذا وقع الاحتمال بطل الاستدلال .
بل الظاهر أن الترخيص في التصفيق للنساء مقتصر على كونهن في الصلاة إذا
نابهن فيها شيء ، أما خارج الصلاة فهن و الرجال في الحكم سواء ، و النهي عن
التصفيق خارجها يحتاج إلى دليل خاص ، و الله أعلم .
أما مَن عدَّ التصفيق تشبهاً بالمشركين في صلاتهم عند البيت العتيق فقد
استند في حكمه إلى قوله تعالى : ﴿ وَ مَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ
الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً و َتَصْدِيَةً﴾ [ الأنفال : 35 ] .
و المشهور عند أهل التفسير أن المراد بالمكاء هو التصفير ، و المراد
بالتصدية هو التصفيق ، و أصله في اللغة كما قال الإمام الطبري في تفسيره من
مَكَا يَمْكُو مَكْوًا وَمُكَاء , وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ الْمَكْو : أَنْ
يَجْمَع الرَّجُل يَدَيْهِ ثُمَّ يُدْخِلهُمَا فِي فِيهِ ثُمَّ يَصِيح ، و
هذا هو الصفير ، وَ أَمَّا التَّصْدِيَة فَإِنَّهَا التَّصْفِيق ، يُقَال
مِنْهُ : صَدَّى يُصَدِّي تَصْدِيَة ، وَ صَفَّقَ وَ صَفَّحَ بِمَعْنىً
وَاحِد .
غير أن في النفس شيءٌ من اعتبار مطلق التصفيق تشبهاً بما يفعله المشركون أو
كانوا يفعلونه في صلاتهم عند البيت ، لأن التشبه لا بد فيه من النية ، و في
الواقع صور من التصفيق تقع من أناسٍ لا عِلمَ لهم أصلاً بأن أهل الجاهلية
كانوا يصفقون عند البيت ، فكيف ننسبهم إلى التشبه بالمشركين مع أن ذلك لم
يدُر في خَلَدهم قط !!
و عليه فلا بد في هذا المقام من تقرير أن الحكم على
الشيء فرعٌ عن تصوره ، و حيث إنَّ صُوَرُ التصفيق تختلف باختلاف نية
المصفقين و حالهم ، فإن حكمه يختلف من حال إلى حال ، بحسب التفصيل التالي :
أولاً : اتخاذ التصفيق عبادة في ذاته ، أو
التصفيق أثناء عبادة مشروعة الأصل ، حرامٌ مطلقاً ، لما فيه من التشبه
بالكفار في عبادتهم من جهة ، و لأنه بدعة محدثة من جهة أخرى .
و كثيراً ما يقع التصفيق في مجالس الذكر البدعية على نحو ما يفعله غلاة
الصوفية ، و قد ذمَّ العلماء هذا النوع من التصفيق ، و شنعوا على فاعله ، و
بالغوا في إنكاره ، سواء كان بباطن الأكف ، أو بظاهرها ، أو بباطنٍ على
ظاهرٍ ، أو العكس .
قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله : ( و من هاب الإله و أدرك
شيئا من تعظيمه لم يتصور منه رقص و لا تصفيق ، و لا يصدر التصفيق و الرقص
إلا من غبي جاهل ، و لا يصدران من عاقل فاضل ، و يدل على جهالة فاعلهما أن
الشريعة لم ترد بهما في كتاب و لا سنة ، و لم يفعل ذلك أحد الأنبياء و لا
معتبر من أتباع الأنبياء ، و إنما يفعل ذلك الجهلة السفهاء الذين التبست
عليهم الحقائق بالأهواء ، و قد قال تعالى : ﴿ وَ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ
الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ و قد مضى السلف و أفاضل الخلف و لم
يلابسوا شيئا من ذلك ، و من فعل ذلك أو اعتقد أنه غرض من أغراض نفسه و ليس
بقربة إلى ربه ، فإن كان ممن يقتدى به و يعتقد أنه ما فعل ذلك إلا لكونه
قربة فبئس ما صنع لإيهامه أن هذا من الطاعات ، و إنما هو من أقبح الرعونات
) . [ قواعد الأحكام : 2/220 و ما بعدها ] .
ثانياً : تصفيق المرء ابتهاجاً بأمر مباح أو
مستحسنٍ ـ عقلاً أو نقلاً ـ بَلَغَهُ ، أو رآه ، أو سمعه . أو تشجيعاً لمن
صدر منه ، فهذا أمر لم يقم الدليل على تحريمه ، و لكن الواجب أن يزم بزمام
الشريعة ، فلا يسوغ إلا إذا انتظمت فيه ثلاثة شروط :
أولها : أن لا يعتقد فاعله أنه مما يستحب
شرعاً ، لأن الاستحباب الشرعي توقيفي لا يقال به إلا بدليل .
و ثانيها : أن لا يضاهي بفعله سنةً كالتكبير
أو التسبيح عند استحسان الأمور ، أو نحو ذلك ، لأن مضاهاة المشروع من
أمارات البدع المنكرة .
و ثالثها : أن لا يراد بفعله مجاراة الكافرين
أو التشبه بهم على سبيل استحسان ما هم عليه أو تفضيله على ما هو معروف عند
أهل الإسلام في مثل محله .
فائدة : تكلم بعض أهل العلم في صِيَغ التصفيق
، ففرَّق بين ما كان عبارةً عن ضَرب باطن الكفين ببعضهما ، و بين ما كان
عبارةً عن ضرب باطن كفٍّ بظهر الأُخرى .
قال الإمام النووي في المجموع [ 1 / 196 ] : ( و يسنّ لمن نابه شيءٌ في
صلاته كتنبيه إمامه لنحو سهوٍ ، و إذنه لداخل استأذن في الدخول عليه ، و
إنذاره أعمى مخافة أن يقع في محذورٍ ، أو نحو ذلك ؛ كغافلٍ و غير مُمَيِّز
، و مَن قَصَدَه ظالمٌ أو نحوُ سَبُعٍ ؛ أن يسبح و تصفق المرأة ، و مِثْلها
الخنثىِ ، بضرب بطن اليمين على ظهر اليسار ، أو عكسهِ ، أو بضرب ظهر اليمين
على بطن اليسارِ ، أو عكسهِ ... و أما الضرب ببطن إحداهما على بطن الأخرى ؛
فقال الرافعي : لا ينبغي فإنه لعبٌ ، و لو فَعَلَتْه على وجه اللعب عالمةً
بالتحريم بطلت صلاتها و إن كان قليلاً ؛ فإن اللعب ينافي الصلاة ) .
قلتُ : و لا أعرف دليلاً على هذا التفريق في
صفة التصفيق إلا أن يكون خروجاً مِنْ ذَمِّهِ عند من عدَّه لعباً ، و ذلك
بالردِّ إلى لغة العرب ، حيث ذهب بعضهم إلى أنَّ ضربَ باطِنِ الكفٍّ بظهر
الأخرى يسمَّى تصفيحاً لا تصفيقاً ، فلا يُذمُّ فاعِلُه ، و قد رأيت من
المتصوفة في حلب من يفعله و يعدُّه تصفيحاً لا تصفيقاً في مجالس الذكر ، أو
حينما يَطرَبُ لنشيدٍ و قصيدٍ و نحوه .
و لهم رواية ( إنما التصفيح للنساء ) في الصحيحن و غيرهما ، بدَل رواية (
التصفيق للنساء ) المتقدمة .
و عند أبي داود ( بإسناد قال عنه الشيخ الألباني : صحيح مقطوع ) : عن عيسى
بن أيوب قال : قوله : " التصفيح للنساء " تضربُ بإصبعين من يمينها على كفها
اليسرى . ا هـ .
قال الإمام النووي [ في شرح صحيح مسلم : 4 / 146 ] : ( السنة لمن نابه شيءٌ
في صلاته ؛ كإعلام من يستأذن عليه ، و تنبيه الإمام و غير ذلك أن يسبح إن
كان رجلاً ؛ فيقول : سبحان الله ، و أن تُصفِّق و هو التصْفيح إن كانتْ
امرأةً ؛ فتضرب بطن كفها الأيمن على ظهر كفها الأيسر ، و لا تضرب بطن كفٍّ
على بطن كفٍّ على وجه اللعب و اللهو ، فإن فعلت هكذا على جهة اللعب بطلت
صلاتها لمنافاته الصلاة ) .
و قال الإمام الشوكاني رحمه الله [ في نيل الأوطار ] : ( قوله " فإنما
التصفيق للنساء " هو بالقاف . و في رواية لأبي داود " فإنما التصفيح " .
قال زين الدين العراقي : و المشهور أن معناهما واحد ، قال عقبة : و التصفيح
التصفيق ، و كذا قال أبو علي البغدادي ، و الخطابي ، و الجوهري . قال ابن
حزم : لا خلاف في أن التصفيح و التصفيق بمعنى واحد و هو الضرب بإحدى صفحتي
اليدين على الأخرى . قال العراقي : و ما ادعاه من نفى الخلاف ليس بجيد بل
فيه قولان آخران : إنهما مختلفا المعنى ؛ أحدهما : أن التصفيح الضرب بظاهر
إحداهما على الأخرى ، و التصفيق الضرب بباطن إحداهما على الأخرى ، حكاه
صاحب الإكمال ، و صاحب المُفهِم . و القول الثاني : أن التصفيح الضرب
بإصبَعَين للإنذار والتنبيه ، و بالقاف بالجميع للهو و اللعب ) .
هذا ، و الله أعلم و أحكم ، و ما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت و إليه
أنيب .