السؤال :
ما حكم الشرع في المرأة تدرس الطب في جامعة مختلطة ( كجامعة دمشق التي أدرس
في معهد التعويضات السنّيّة فيها ) ، إذا لم يكن في بلادها جامعة جامعات
خاصّة بالفتيات مع أني أبذل وسعي في عدم الاختلاط و عدم محادثة الشباب ؟ و
إذا أردت التوقّف عن الدراسة للتخلّص من المفاسد المرافقة لها ، عارَض والدي
فكيف أفعل ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
المعروف من كلام أهل العلم القُدامى و المُعاصرين أنّ تحصيل العلوم الدنيويّة
يدور بين الإباحة و الاستحباب و فرضِ الكفاية ، أي أنّه إذا قامَ به البعض
سقَط الإثم عن الباقين ، و إن لم يقوموا به أثموا جميعاً .
و مثال فرض الكفاية ما يحتاجه المسلمون من آلة الحرب و وسائله ، التي تحمي
ديار الإسلام ، و تصون دماء المسلمين و أموالهم و أعراضهم ، و تردّ المعتدين
و تدفع الصائلين ، فإذا بلغَ الأمر حدّ الكفاية بقيام من يقدر عليه ، سقط
التكليف بطَلبه عن باقي المسلمين .
و يسقط الإثم عن الأمّة إذا حصلت على المطلوب و لو بطريق الشراء أو الإجارة و
نحوهما ، إذ إن التاريخ حافلٌ بالأخبار الدالّة على استعمال المسلمين أدوات
الحرب المصنّعة بأيدي غير المسلمين كالسيوف الهنديّة ( الشهيرة ) و غيرها .
و فيما يتعلّق بمهنّة الطب و ما يُلحق بها من علوم الصيدلة و التمريض و
المخابر ، تتعدّد الأحكام الشرعيّة بحسب حاجة المسلمين إلى هذه العلوم :
فقد تكون دراستها مباحةً كالطب النفسي الذي لا يُعارضُ كتاباً و لا سنّة .
و قد تكونُ فَرضاً على الكفاية على النساء دون الرجال كالاختصاص في مراض
النساء و الولادة و ما إلى ذلك ، إذ إنّ في عَدَم وجود الطبيبة المسلمة الثقة
في دينها و خُلُقها ، المتمكنة من مهنتها و اختصاصها ، مفاسد كثيرة ، منها
اضطرار المسلمات لكشف ما لا يحلّ كشفه من أجسامهنّ أمام غير المسلمين من
الأطباء رجالاً و نساءً ، و لا أمام الطبيب المسلم غير المحرَم .
و إذا عُذرت المريضة المسلمة في طلب العلاج على يد هؤلاء بحكم الاضطرار ،
فإنّ هذا لا يَعذُُُر القادرات على سدّ هذا الثغر لقعودهنّ عنه من غير عُذر .
و قد تكون مندوبةً يثاب عليها من طلبها احتساباً كفروع عِلمِ الطب الذي لا
مفسدة في أن يلتمس المريض فيها علاجاً عند طبيبٍ غير مسلم إذا كان المريض
رجلاً ، و طبيبة غير مسلمة للأنثى و أمثلته كثيرةٌ منها طبُّ الأنف و الأذن و
الحنجرة و ما إليها .
و عليه فما احتاجه المسلمون من علوم الطب ، لا بأس أن تُقدِم المرأة على
دراسته ، إذا صلُحَت فيه النيّة ، بل قد يتعيّن عليها ذلك إذا لم يقم من بنات
جِنسِها من يسد الحاجة و يؤدي الواجب الكِفائي .
و إن كان في ذلك بعض المفاسد قوبلت بما يترتّب عليه من المصالح ، و روعي
الأرجح ، عملاً بالقاعدة الفقهيّة ( يُتَحمّل الضرر الخاص لدَفع ضرر عام ) ،
فإذا اقتَصرت مفسدة الدراسة في الجامعة على خلع القفّازَين ( مع الحفاظ على
غطاء الوجه عند من يذهب إلى وُجوبه ) ، و إمكانيّة اجتناب الجلوس في مقاعد
مشتركة تجمع الذكور و الإناث جنباً إلى جنب ، و عدم الخلوة بين الجنسين ، بل
و ما ذَكرته السائلة من عدم محادثة الطالبات للطلاّب أصلاً أو العكس ، مع
قيامها بالدعوة إلى الله تعالى بين الطالبات ؛ فإن المفسدة المترتّبة على
دراستها أقلّ بكثير من المفسدة المترتّبة على قصد مئات الآلاف من المسلمات
عيادات الأطبّاء غير المحارم ، أو الطبيبات غير المسلمات أو مخابر تصنيع
الأسنان و العلاج الفيزيائي ( و منه التدليك ) طلباً للعلاج .
و من دلائل النبوّة الواضحة الجليّة أنه في بَلَد السائلة – رغم ما شاع من
صنوف الفتن و فنون الفساد – يحقّ للطالبة في الجامعات الالتزام بالزيّ
الشرعيّ كاملاً بما فيه غطاء الوجه و الكفّين ، و قد دَرَستُ و درَّستُ في
دمشق و لا تزال في ذاكرتي صور عشرات الفتيات يجلسن في قاعات الدراسة منزويات
في الصفوف المتأخّرة بعيداً عن الذكور ، متلفّعاتٍ بالسواد ، لا تُرى منهنّ
الوجوه و لا الكفوف ، و أرجو أن يكون الحال على ما كان عليه ، أو خيرٍ منه في
يومنا هذا .
و لم يكن هذا في كلّية الشريعة خاصّةً ، بل فيها و في غَيرها ، فقد درَسَتْ
إحدى أخوَاتي و تخرّجت في كليّة الطب بجامعة حَلَب ، و لم تُُُضطَرّ قطّ إلى
خَلعِ نقابها ، أو الاختلاط المحرّم بغير بنات جنسها خلال ستِّ سنواتٍ كاملةٍ
متتاليةٍ ، و هذا من توفيق الله و تثبيته لمن يشاء من عباده .
روى أحمد و الترمذي بإسناد قال عنه : ( حسن صحيح ) عَنْ قُرَّةَ المزني رضي
الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « إِذَا
فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلاَ خَيْرَ فِيكُمْ » .
فإذا أمكنكِ تحاشي الوقوع في المحظورات الشرعيّة في الدراسة فأطيعي والدك و
أتمّي دراستك ، أمّا إن تعذّر عليك الالتزام بالشرع الحنيف ، و لم تكن دراستك
متعيّنة عليكِ ( بحسب الاختصاص و الحاجة إليه كما تقدّم ) ، فاعتذري لأبيك
بالتي هي أحسن ، و تذرّعي إليه بالأدب و البرّ و الإحسان ، علّ الله يشرح
صدرَه ؛ فيدعك و شأنك ، و يأذن لك في تغيير الاختصاص أو الانصراف عن الدراسة
إلى ما هو خيرٌ منها .
و الله وليّ التوفيق .