السؤال :
مبلغ أعطاه والدي بإرادته للموظف المسئول عن تخليص المعاش الخاص به ، و الذي
هو حقه ، فهل يعتبر ما يدفعه رشوة ؟
و هل الفلوس المستحقة ( فلوس المعاش ) لا دخل لها بذلك ( أي لا تعتبر حراماً
) و الوزر فقط علي المبلغ المدفوع لتسهيل ذلك . أفيدونا ما العمل ؟
الجواب :
إذا كان المبلَغ المدفوع للموظّف المسئول عن إنجاز المعاملة ، ليس له علاقةٌ
بتيسيرها أو التعجيل فيها ، أو إعطاء صاحبها ( والدك ) أكثر من حقّه ، أو
تقديمه على من هو أولى أو أحقّ منه ، و لم يكن الدفع مشترطاً ( من الموظف أو
من يمثّله ) صراحةً أو عُرفاً ، فليس من الرشوة المحرّمة .
أمّا إن كان فيه بعضُ ما تقدّم أو كلّه فهو من الرشوة ، و هي من كبائر الذنوب
.
قال تعالى : ( وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَ
تُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ
النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [ البقرة : 188 ] .
و روى الترمذي و أحمد و ابن حبّان بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال
: ( لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ
الرَّاشِيَ و َالْمُرْتَشِيَ ) ، و في بعض الروايات ( و الرائش ) و هو
الوسيط بين الطرفين ، و في رواية ( فِي الْحُكْمِ ) أي في القضاء و فصل
الخلاف بين الناس .
و إذا رشا للوصول إلى حقٍّ شرعيٍ له ، و لكن بتقديمه على غيره ، أو التعجيل
في إنجاز معاملته ، فعليه إثم الرشوة ، و لا يَحرُم ماله بسببها ، لأنّه حلال
له في الأصل ، فيبقى على ما كان عليه .
و على صلة بالموضوع مسألة يحسن التذكير بها ، و هي أنّه ينبغي لمن يقوم بعملٍ
عامٍ أن لا يفتح على نفسه باب قبول الهدايا ، و ما يُعرف اليوم بالإكراميّات
( في اللهجة الشامية ) ، فإنّها لا تكاد تخلو من دَخَنٍ و شُبهةٍ ، إذ إنّه
لو لَم يكُن في منصِبِه ذلك لما أهديَ إليه شيءٌ ، و هذا دليل على ارتباط
الهديّة بالمصلحة المرجوّة من ورائها .
روى الشيخان و غيرهماعن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ قَالَ : اسْتَعْمَلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ رَجُلاً مِنْ بَنِي
أَسْدٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الأتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَةٍ فَلَمَّا
قَدِمَ قَالَ : هَذَا لَكُمْ ، وَ هَذَا أُهْدِيَ لِي ، فَقَامَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَحَمِدَ
اللَّهَ وَ أَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : ( مَا بَالُ الْعَامِلِ
نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ هَذَا لَكَ وَ هَذَا لِي ، فَهَلا جَلَسَ فِي
بَيْتِ أَبِيهِ وَ أُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا ؟! وَ الَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً
لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا
عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ أَلا هَلْ بَلَّغْتُ ثَلاثًا ) .
قال الحافظ ابن حجر : ( في الحديث من المسائل المهمّة منع العُمّال من قبول
الهدية ممن له عليه حكم ) .
قلتُ : و يُستثنى من التحريم ما يدفعه المسلم مضطراً للذود عن نفسه أو ماله ،
أو للحصول على حقّه الشرعي و حَسْب ، إذ ليسَ في هذا أكل لحقّ الغير ، و لا
إدلاء للحكام بغير حقّ ، و لا توصّلٌ إلى محظور .
قال ابن الأثير في كتاب الغريب : ( فأما ما يُعطى توصلاً إلى أخذ حق أو دفع
ظلم فغير داخل فيه ، روي أن ابن مسعود أُخِذَ بأرض الحبشة في شيءٍ ، فأعطى
دينارين حتى خُلِّي سبيلُه ، و رُوي عن جماعةٍ من أئمة التابعين قالوا : لا
بأس أن يُصَانع الرجل عن نفسه ، و ماله إذا خاف الظلم ) .
و قال صاحب ( المرقاة شرح المشكاة ) : ( قيل : الرشوة ما يعطى لإبطال حق أو
لإحقاق باطل ، أما إذا أعطى ليتوصل به إلى حق أو ليدفع به عن نفسه ظلما فلا
بأس به ) .
فليتّق الله عبادُه ، و ليكفوا أيديهم عن الحرام ، ففي الحلال غُنية و بُلغة
، و من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ، و الله الموفِّق .