السؤال :
أنا فتاةٌ مسلمة من أبٍ مسلم ، و أم بروتستانتيّة ، و قد طُلِّقَت والدتي
قبلَ فترةٍ طويلة ، فهل لي أن أبَرّها بالاتصال و الزيارة و تقديم الهدايا ،
عِلماً بأنّ ذلك قد يكون سبباً في هدايتها إلى الإسلام ، و لو بعدَ حين .
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
إنّ الإسلام دين البرّ و الصِلة ، و قد وصف الله تعالى عباده الصالحين بأنّهم
( يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
وَ يَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ) [ الرعد : 21 ] .
و أحق الناس بحُسن صحبة المرء و صلته أبواه ، ، لذلك قَرَن تعالى الإحسان
إليهما بعبادته و توحيده في قوله : ( وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا
بِهِ شَيْئًا وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) [ النساء : 36 ] .
و قال سبحانه : ( وَ قَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَ
بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَ
قُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ) [ الإسراء : 23 ] .
و حقّ الأمّ مقدّم في ذلك على حقّ الأب ، لما رواه الشيخان و غيرهماعن أبي
هريرة رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : ( أمك ) ، قال : ثم من ؟ قال
: ( ثم أمك ) ، قال : ثم من ؟ قال : ( ثم أمك ) ، قال : ثم من ؟ قال : ( ثم
أبوك ) .
و هذا الحديث مفسّر ، و المراد منه ظاهره ، و هو تقديم حقّ الأمّ على حقّ
الأب عند تزاحم الحقوق ، أمّا عند الإنفراد فلكلٍّ حقّه من البرّ و الصلة و
الإحسان .
قال الحافظ ابن حجر : ( قال ابن بطال : مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما
للأب من البر ، قال : وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع فهذه تنفرد
بها الأم وتشقى بها ثم تشارك الأب في التربية ، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في
قوله تعالى ( وَ وَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَ فِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ
لِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) [ لقمان : 14 ] ، فسوَّى بينهما في
الوصاية ، وخص الأم بالأمور الثلاثة ، قال القرطبي : المراد أن الأم تستحق
على الولد الحظ الأوفر من البر ، و تقدَّم في ذلك على حق الأب عند المزاحمة ،
وقال عياض : و ذهب الجمهور إلى أن الأم تفضل في البر على الأب ) [ فتح الباري
: 10 : 402 ] .
و ليس هذا خاصاً بالأبوين المسلمَين أو أحدِهِما ، بل يتعدّاه إلى من لم
يُكرمه الله بالإسلام ، إذ إنّ الله تعالى لم ينهنا عمّن لم يحاربوننا من (
لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ
لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) [ الممتحنة : 8 ] .
قُلتُ : إذا كان هذا في حق الكافر غير القريب ، فكيف بذي الرحم ؟! خاصّةً و
قد ذهَب بعض أهل العلم إلى أنّ سبب نزول هذه الآية ما رواه الشيخان و غيرهما
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : قدمتْ عليَّ أمِّي وهي مشركة في
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم
قلت : قدمتْ عليَّ أمِّي وهي راغبة أفأصِل أمي ؟ قال : ( نعم صِلِي أمَّك ) .
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث : ( و قال الخطابي : فيه أن الرحم
الكافرة توصل من المال و نحوه ، كما تُوصَل المسلمة ، و يستنبط منه وجوب نفقة
الأب الكافر و الأم الكافرة و إن كان الولد مسلماً ) .
فصِلي أمّك ما استطعتِ بالاتصال أو الزيارة أو الإهداء أو غير ذلك من وجوه
البرّ ، و سَلي الله لها الهداية و حسن الختام ، و تألفي قلبها قَدرَ
المستطاع ، و تلطّفي في دعوتها إلى الإسلام ، علّ الله يجعل هدايتها على
يدَيك ، و يجمعك بها في مستقرّ رحمته كما جمع بينكما في الدنيا ، و بالله
التوفيق .