السؤال :
ابتليت بالغيبة و الوقوع في أعراض الناس أثناء دراستي في زمن الشباب ، ثم
وقفت على خطورة الأمر ، و أضراره الاجتماعيّة فضلاً عن تحريمه في الشرع ،
فكيف أتوب من الغيبة بعد صدورها مني ؟ هل أطلب السماح ممّن وقعتُ في أعراضهم
، أم يكفي إقلاعي و توبتي بيني و بين الله ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
الغيبة مرض خطير يبخر في بنية المجتمع فيوهن أركانه ، و يغرس العداوة و
البغضاء بين أفراده ، لذلك حذّر منها الإسلام ، و أنكر على مقترفها ، و شنّع
عليه .
قال تعالى : ( وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ
يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ تَوَّابٌ ) [ الحجرات : 12 ] .
و روى مسلم و الترمذي و أبو داود و أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( أَتَدْرُونَ مَا
الْغِيبَةُ ؟ ) قَالُوا : اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : (
ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ ) قِيلَ : أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي
أَخِي مَا أَقُولُ ؟ قَالَ : إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ
اغْتَبْتَهُ وَ إِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ ) .
و الغيبة من كبائر الذنوب ، و على من ابتُليَ بشيءٍ منها أن يُبادر بالتوبة
إلى الله تعالى قبل أن يأتي يوم القيامة و قد تكاثر عليه أصحاب الحقوق يأخذون
من حسناته ، و يُطرحُ عليه من سيّئاتهم ، و ذلك هو الخُسران المبين .
روى مسلم و الترمذي و أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه و سلم قال : ( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ ) قَالُوا
: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ و لا مَتَاعَ ، فَقَالَ : (
إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَ
صِيَامٍ وَ زَكَاةٍ وَ يَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَ قَذَفَ هَذَا ، وَ
أَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَ سَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَ ضَرَبَ هَذَا ؛ فَيُعْطَى
هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ
حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْه ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ
فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ) .
فإذا تقرّر هذا فليُعلم أن الذنوب على أنواع :
•
منها ما هو تقصير في حقّ الله تعالى فقط ، و ليس للعباد حقّ فيه ، كالفطر في
رمضان ، و عدم الحجّ مع القدرة عليه .
و للتوبة من ذنبٍ كهذا لا بدّ من توفّر ثلاثة شروط هي :
1. الإقلاع عن الذنب .
2. الندم على ما فات من فعله .
3. العزم على عدم العودة إليه مستقبلاً .
•
و منها ما فيه استطالة في حقوق العباد ، كالاستيلاء على بعض ما يملكون بالغصب
أو السلب أو نحو ذلك .
و للتوبة من ذنبٍ كهذا لا بدّ من إعادة حقوق العباد إلى أصحابها ، إضافة إلى
الشروط الثلاثة التي سبق ذكرها شرطاً للتوبة العامّة .
•
و منها ما فيه إلحاق ضررٍ مادي ( كالتسبب في عزل العامل من عمله ) أو معنوي (
كالغيبة و النميمة التي لم تؤدي إلى قطيعة أو ضرر بمن أريد منها ، أو لم
تبلغه ) من غير أن يستحوذ المذنب لنفسه ، أو يضع يده على شيءٍ من حقّ غيره .
و على من وقع في شيءٍ من الذنوب المندرجة تحت هذا النوع أن يتوب إلى الله
تعالى توبةً مستوفية الشروط ، ثمّ يسعى إلى إبراء ذمّته ممّن أساء إليه بنفسه
، أو تسبب في جلب الإساءة إليه ، يكون ذلك بطلب الصفح منهم ، إن لم يكن ذلك
مؤدياً إلى مفسدةٍ أكبر ، أو الإحسان إليهم بما يكافئ ما لحقهم على يده أو
بسببه من أذى ، فإن عجز عن هذا و ذاك فليكثر من الدعاء لهم بظهر الغيب .
•
و منها ما فيه حقّ ثابتٌ لله تعالى في الدنيا لا يسقط حتى و إن أسقط العباد
حقوقهم ، و مثاله وجوب الدية لأهل المقتول خطأً ، مع الكفّارة و هي صيام
شهرين متتابعين للقاتل الذي يريد التوبة ، و لا بُدّ له من تحرير رقبةٍ
مؤمنةٍ ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، حتى و إن أسقَطَ أهل القتيل
حقّهم في الدية ، لقوله تعالى : ( وَ إِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ
بَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَ كَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا )
[ النساء : 92 ] .
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية : ( أَيْ فَإِنْ كَانَ الْقَتِيل
أَوْلِيَاؤُهُ أَهْل ذِمَّة أَوْ هُدْنَة فَلَهُمْ دِيَة قَتِيلهمْ فَإِنْ
كَانَ مُؤْمِنًا فَدِيَة كَامِلَة وَ كَذَا إِنْ كَانَ كَافِرًا أَيْضًا
عِنْد طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء ... وَ يَجِب أَيْضًا عَلَى الْقَاتِل
تَحْرِير رَقَبَة مُؤْمِنَة ) .
قلتُ : و الغيبة من النوع الثالث ، و على التائب منها أن يراعي المصلحة و
المفسدة قبل أن يعتذر ممّن أساء إليهم ، فإن لم تكن الغيبة قد بَلَغت المغتاب
فالأولى عدم طلب السماح منه ، و الاكتفاء بالرجوع عن الغيبة أمام من سمعها ،
و تبرئة ساحة من طالته بالرجوع عنها ، و التعريف محاسنه و الثناء عليه بما
فيه .
أمّا إذا كانت الغيبة قد بلغت المقصود بها ، فإن غَلَب على ظنّ الواقع في
الغيبة أنّ من سيعتذر منهم يقبلون اعتذاره بادرهم به ، و إن رأى أنّ إصلاح
ذات البين يمكن تحقيقها بالتلطّف و تقديم الهدايا إليهم فعَل ، و دَرَءَ
سيئاته بحسنات مثلها أو أكبر منها .
و إن غلَب على ظنّه أن اعتذاره لن يُجديَ معهم نفعاً ، أو أنّه قد يؤدي إلى
زيادة الفرقة و الضغينة في النفوس ، فليلجأ إلى الإحسان إليهم بالدعاء ، و
ذكر محاسنهم ، و الكفّ عمّا يسوؤهم أو يسيء إليهم ، لعلّ الله يلهم الصفح ، و
يقيل عثرةَ صاحبهم فيغفر له ، و هو أهل التقوى و أهل المغفرة .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة الحجرات : ( قال الجمهور من
العلماء : طريق المغتاب للناس في توبته أن يُقلع عن ذلك ، و يعزم على أن لا
يعود ، و هل يشترط الندم على ما فات ؟ فيه نزاع ، و أن يتحلل من الذي اغتابه
.
و قال آخرون : لا يُشترط أن يتحلله فإنه إذا أعلمه بذلك ربّما تأذى أشد مما
إذا لم يعلم بما كان منه ، فطريقه إذاً أن يُثني عليه بما فيه في المجالس
التي كان يذمه فيها ، و أن يرد عنه الغيبة بحسبه و طاقته لتكون تلك بتلك ) .
هذا ، و الله الموفّق ، و هو الهادي إلى سواء السبيل .