الحمد لله ، و الصلاة و السلام على نبيّه محمد المصطفى ، و آله و صحبه و من
والاه ، و بعد
فقد سُئِلتُ
عمّا ينفع الأموات و يبلغهم ثوابه من سعي الأحياء ؟ و أيُّ الأعمال التي
يبلغه ثوابها أفضل و أنفع له و لمن يؤديها عنه ، أو يهب ثوابها له ؟
فقُلتُ مستعيناً بالله تعالى :
الأصل في أعمال العباد أنّ ثوابها لفاعِلِها ، أمّا ما أهدى فاعله ثوابَه
لغيره ، أو أدّاه نيابةً عن الغير من الأحياء أو الأموات ، فالحكم بصحة
الإنابة أو عدَمها ، و بلوغ ثوابه لِمَن وُهِبَ إليه أو عدمُه ، يختلف
باختلاف العمَل ، إذ رُخّص في بعض أنواعِه بالنصّ ، و اختُلف في أنواعَ
أُخَرْ ، و فيما يلي بيان ذلك مقروناً بأدلّته :
أوّلاً :
ما لا خلاف في انتفاع الميت به و إن كان من سعي غيره ، و هو :
الصدقة الجارية
، و هي التي حُبِسَ أصلُها ، و أجريَ نفعها ، كحفر الآبار ، و وقف الضياع و
الديار ، و بناء المساجد ، و نحو ذلك من وجوه الخير .
و العلم النافع
( و يدخل فيه التصنيف و التأليف و التحقيق و التعليم و طباعة الكتب النافعة و
نشرها ، و الدعوة إلى الله بأيٍّ وسيلة مشروعة ، و ما إلى ذلك ) .
و دعاء الوَلَد الصالح لوالديه أحدِهما أو كلاهما .
و الدليل على ما تقدّم ما رواه مسلم (1631 ) ، و أصحاب السنن عن أبي هريرة
رضي الله عنه ، أنّ النبي صلى الله عليه و سلّم قال : ( إِذَا مَاتَ
الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنه عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثةٍ إلا من صَدَقَة
جَارِيَة أو عِلْم يُنْتَفَعُ بِهِ أو وَلَدٍ صَالِح يَدْعُو لَهُ ) .
و في سنن ابن ماجة أيضاً بإسنادٍ صحيح (3660 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه ،
قال : قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْه ِ وَ سَلَّمَ : إِنَّ
الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ : أَنَّى هَذَا ؟
فَيُقَالُ :باسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ ) .
و ما رواه ابن ماجة في سننه بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنّ رسول
الله صلى الله عليه و سلّم قال : ( إن مما يلحق المؤمن من عمله و حسناته بعد
موته ، علماً علَّمَه و نشره ، أو ولداً صالحاً تركه ، أو مصحفاً ورَّثه ، أو
مسجداً بناه ، أو بيتاً بناه لابن السبيل ، أو نهراً أجراه ، أو صدقة أخرجها
من ماله في صحته و حياته ، تلحقه من بعد موته ) .
قلتُ :
و من العِلم النافِع الذي ينفع الميت بعد موته ، نشر السنن و إماتة البدع ، و
السعي في ذلك بين الناس عن عِلمٍ و بصيرة ، لما رواه مسلم عن جرير بن عبد
الله البجلي رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( من سن في
الإسلام سنة حسنة ، فله أجرها و أجر من عمل بها من بعده ، من غير أن ينقص من
أجورهم ) .
الصدَقة عن الميّت :
و ينتفع الميت بصدَقة الحيّ عنه ، لما رواه البخاري ( 1388 ) عن أمّ المؤمنين
عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا ، أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا ( أي ماتت
فجأةً ) وَ أَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ
إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا ؟ قَالَ : ( نَعَمْ ) .
و في الصحيح أيضاً ( 2756 ) عن ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا ، أَنَّ
سَعدَ بْنَ عُبَادَةَ رَضِي اللَّه عَنْهما تُوُفِّيَتْ أُمُّهُ وَ هُوَ
غَائِبٌ عَنْهَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَ
أَنَا غَائِبٌ عَنْهَا أَيَنْفَعُهَا شَيْءٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَنْهَا ؟
قَالَ : ( نَعَمْ ) قَالَ : فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِيَ
الْمِخْرَافَ ( اسم لبستان كان له ) صَدَقَة ٌ عَلَيْهَا .
و روى مسلم و ابن ماجة و النسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ
رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : إِنَّ أَبِي
مَاتَ ، وَ تَرَكَ مَالاً وَ لَمْ يُوصِ ، فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ أَنْ
أَتَصَدَّقَ عَنْهُ ؟ قَالَ : ( نَعَمْ ) .
و قد حكى الإمام النووي رحمه الله الإجماع على وصول الدعاء للميت ، و أن أداء
الدين عنه يجزئه ، و كذا سائر الصدقات ، تقع عن الميت و يصله ثوابها من ولده
أو غيره [ شرح صحيح مسلم : 7 / 90 و 8 / 23 ] .
قلتُ :
و الصدَقة عن الميت غير مقيّدة بالصدقة الجارية ، بل الأمر على عمومه ، و
ممّا يدل على ذلك فعله صلى الله عليه و سلم ، حيث أشرَكَ غيره في أضحيته – و
الأضحية ليست من الصدقات الجارية – و قال عند ذبحها : ( بِاسْمِ اللَّهِ ،
اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ ) [ رواه مسلم : 1967
] ، مع أنّ في آله الأطهار أحياءٌ و أموات ، و الأضحية عن الميّت صدقة و ليست
واجبة .
الحجّ عن الميّت :
و يُشرَع الحجّ عن الميّت ، و يجزِئه إذا كان النائب أدّى الفريضة عن نفسه
أوّلاً ، لما رواه مسلم في صحيحه ( 1149 ) عن عَبْد اللَّهِ بْن بُرَيْدَةَ
عَنْ أَبِيهِ رَضِي اللَّه عَنْهما ، قَالَ : بَيْنَما أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ ، إِذْ أَتَتْهُ
امْرَأَةٌ ، فَقَالَتْ : إِنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ ، وَ
إِنَّهَا مَاتَتْ . فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ : ( وَجَبَ
أَجْرُكِ وَ رَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ ) قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أفأصُومُ عَنْهَا ؟ قَالَ : ( صُومِي
عَنْهَا ) ، قَالَتْ : إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا ؟
قَالَ : ( حُجِّي عَنْهَا ) .
قلتُ : و لا فرق في الحكم في الحجّ عن الميّت بين حجّة الفريضة ، و ما أوجبَه
الميت على نفسه بنذر ، لحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ امْرَأَةً
جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَ سَلَّمَ ، فَقَالَتْ :
إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ ، فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَحُجَّ ،
أَفَأَحُجُّ عَنْهَا ؟ قَالَ : ( نَعَمْ ، حُجِّي عَنْهَا ن أَرَأَيْتِ لَوْ
كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ ؟ ) قَالَتْ : نَعَمْ .
فَقَالَ : ( اقْضُوا اللَّهَ الَّذِي لَهُ ، فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ
بِالْوَفَاءِ ) [ رواه البخاري : 7315 ] .
و في هذا الحديث أيضاً دليلٌ على مشروعيّة أداء الدين عن المتوفى و في ذمّته
شيءٌ من حقوق العباد ، و هو من قبيل الصدقة عنه ، إذا لا يجب عن الأحياء إلا
أن يتطوّعوا .
الصوم عن الميّت :
و يُشرَع الصوم عن الميّت ، لما رواه الشيخان ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ،
قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله إن أمي
ماتت ، و عليها صوم شهر أفأقضيه عنها ؟ قال : ( لو كان على أمك دين أكنت
قاضيه عنها ؟ ) قال : نعم . قال : ( فدين الله أحق أن يُقضى ) .
و يدلّ عليه أيضاً حديث بريدة رضي الله عنه الذي رواه مسلمٌ ، و قد تقدّمَ
آنفاً .
و في الحديث المتّفق على صحّته عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قال رسول
الله صلى الله عليه و سلّم : ( من مات و عليه صيامٌ صام عنه وليُّه ) .
و هذا في الصيام الواجب ، كصوم رمضان ، و صوم النذر ، و الكفّارة ، أمّا ما
سقط عن العبد في حياته ، فلا يقضى عنه بعد وفاته ، كَمَن وجب عليه الصوم و هو
زَمِنٌ فمات قبل أن يبرأ ، أو أفطر في سفَرٍ مباحٍ ، و مات في سفَره ذلك ،
فلا قضاء عليه ، و لا على وليّه لكونه معذوراً ، و تجب الكفّارة عِوَضاً عن
القضاء في هذه الحالة .
أمّا الحجّ و الصيام
عن الميّت تنفّلاً ، فلا أعلَمُ دليلاً على مشروعيّته ، و إن قال به جماعة من
أهل العلم .
و خلاصة ما تقدّم
أنّ من الأعمال الصالحة ما يُشرَع أداؤه عن الميت ، و ينتفع به بعد موته
بالاتفاق ؛ كالدعاء و الصدقة مطلقاً ، و الحج و الصوم الواجبين ، و لا فَرقَ
في ذلك كلّه بين أن يؤدّيه عن الميت قريب أو غريب ، لعموم الأدلّة ، و ما
خُصَّ الوَلد الصالح بالذكر إلا لقربه من الميّت ، و لكون ما يقوم به تجاه
والديه من البرّ الواجب عليه تجاههما ، فكان تخصيصه تذكيراً له بحقّ والديه و
تنبيهاً إلى ما ينبغي أن يقوم به من البر بهما بعد موتهما ، و للوالدين
بواجبهما في تنشئته تنشئةً صالحاً ، لأنّ الانتفاع بعد الممات يكون بدعاء
الولد الصالح ( و ليس أيّ ولد ) ، و الله أعلم .
قلتُ :
و من المناسب في هذا المقام أن نتناول بالبيان مسألة قراءة القرآن عن الميت ،
أو التصدّق عليه بثواب القراءة أو مثل ثوابها ، كما هو الشائع في معظم أمصار
المسلمين اليوم .
فهل يصل ثواب قراءة القرآن الكريم إلى الميت ؟
هذه مسألة خلافيّة قديمة ، و لأهل العلم فيها قولان معروفان :
القول الأوّل :
أنّه لا يصل ، و هذا هو المشهور من مذهب الشافعي ، و يؤيّده عدم ورود النص
المجوّز للقراءة عن الميت ، فتكون القراءةٌ بدعة منكرةً ، لأنَّها عبادة ، و
الأصل في العبادات التوقيف ، و عليه فلا يثاب فاعلها ، و لا ينتفع بها من
وُهِبَتْ إليه .
و قد ذهَب إلى هذا القول طائفة من المحققين المعاصرين ، و معظم علماء الدعوة
السلفيّة .
القول الثاني :
أنّ ثواب القراءة يصل إلى الميّت ، و هذا مذهب الجمهور ( الأئمّة الثلاثة ، و
جماعة من أصحاب الشافعي ، و غيرهم ) ، بل زُعمَ على وُصوله الإجماع السكوتي .
ففي المغني لابن قدامة : قال أحمد بن حنبل : الميت يصل إليه كل شيء من الخير
، للنصوص الواردة فيه ، و لأن المسلمين يجتمعون في كل مصر ، و يقرؤون ، و
يُهدون لموتاهم من غير نكير ، فكان إجماعاً . اهـ .
و القول بوصول الثواب إلى الميت هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله
، و قد انتصر له في غير موضع من كتبه ، و تابَعه على ذلك تلميذه ابن القيّم ،
و حجّته عدَم ورود النهي ، و أنّه يقاس على ما أخبر الشارع بانتفاع الأموات
بها ، و بلوغهم ثوابها إذا أُهديَ إليهم ، كالدعاء و الصدقة و الصوم و الحج .
قال شيخ الإسلام :
( أما القراءة ، و الصدقة و غيرهما من أعمال البر ؛ فلا نزاع بين علماء
السُنَّة و الجماعة في وصول ثواب العبادات المالية ؛ كالصدقة و العتق ، كما
يصل إليه أيضاً الدعاء و الاستغفار ، و الصلاة عليه صلاة الجنازة ، و الدعاء
عند قبره .
و تنازعوا في وصول الأعمال البدنية ؛ كالصوم ، و الصلاة ، و القراءة ، و
الصواب : أن الجميع يصل إليه ... و هذا مذهب أحمد ، و أبي حنيفة ، و طائفة من
أصحاب مالك ، و الشافعي .
و أما احتجاج بعضهم بقوله تعالى : ( وَ أنْ لَيْسَ للإنْسانِ إلاَّ ما سَعَى
) [ النجم : 39 ] ؛ فيقال له : قد ثبت بالسنة المتواترة و إجماع الأمة أنه
يصلى عليه ، و يدعى له، و يستغفر له ، و هذا من سعي غيره ، و كذلك قد ثبت ما
سلف من أنه ينتفع بالصدقة عنه و العتق ، و هو من سعي غيره ، و ما كان من
جوابهم في موارد الإجماع ؛ فهو جواب الباقين في مواقع النزاع ، و للناس في
ذلك أجوبة متعددة .
لكن الجواب المحقق في ذلك أن الله تعالى لم يقل :
إن الإنسان لا ينتفع إلا بسعي نفسه ؛ و إنما قال : ( لَيْسَ للإنْسانِ إلاَّ
ما سَعَى ) ؛ فهو لا يملك إلا سعيه و لا يستحق غير ذلك ، و أما سعي غيره ؛
فهو له ، كما أن الإنسان لا يملك إلا مال نفسه و نفع نفسه ، فمال غيره ، و
نفعُ غيره هو كذلك للغير ، لكن إذا تبرع له الغير بذلك جاز .
و هكذا هذا إذا تبرع له الغير بسعيه نفعه الله بذلك ، كما ينفعه بدعائه له و
الصدقة عنه ، و هو ينتفع بكل ما يصل إليه من كل مسلم ، سواء كان من أقاربه أو
غيرهم ، كما ينتفع بصلاة المصلين عليه و دعائهم له عند قبره ) [ مجموع
الفتاوى : 24 / 366 ] .
أمّا عن التفضيل بين العبادات التي تؤدّى عن الميّت ، و يُهدى إليه ثوابُها ،
فالحال على ما هو عليه بالنسبة للحيّ و لا فَرْق .
قال ابن القيم رحمه الله : قيل : الأفضل ما كان أنفع في نفسه ، فالعتق عنه ،
و الصدقة ، أفضل من الصيام عنه ، و أفضل الصدقة ما صادفت حاجة من المتصدق
عليه ، و كانت دائمة مستمرة ، و منه قول النبي صلى الله عليه و سلم :( أفضل
الصدقة سقي الماء ) ، و هذا في موضع يقل فيه الماء ، و يكثر فيه العطش ، و
إلا فسقي الماء على الأنهار و القُنِيِّ لا يكون أفضل من إطعام الطعام عند
الحاجة ، و كذلك الدعاء ، و الاستغفار له ، إذا كان بصدق من الداعي و إخلاص و
تضرع ، فهو في موضعه أفضل من الصدقة عنه كالصلاة على الجنازة ، و الوقوف
للدعاء على قبره .اهـ .
هذا ، و الله الموفّق ، و هو الهادي إلى سواء السبيل .
و الحمد لله ربّ العالمين .