السؤال :
هل يحرم بالرضاع من رضع خمس رضعات من امرأة أجنبيّة عنه ، و لكن بعد أن اشتدّ
عوده ، و بلغ مبلَغ الرجال ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
هذه مسألة دقيقة لأهل العلم فيها مذاهبان ؛ أشهرهما
مذهب الجمهور من السلف و الخلف
، و عليه أكثر الصحابة ، و أمهات المؤمنين عدا عائشة بنت الصدّيق رضي الله
عنهم أجمعين ، و هو اشتراط أن يكون الرضاع للطفل قبل سنّ الفطام ، أي في
الحولين الأولين من عمره عند الجمهور ، و حتى العامين و النصف عند أبي حنيفة
، و الثلاثة أعوام عند زُفَر ، و لا بأس بالأيّام القليلة بعد الحولين عند
الإمام مالك ، و من أدلّتهم :
أوّلاً :
قوله تعالى : ( و الوالدات يُرضِعنَ أولادهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يُتمّ
الرضاعة ) .
و وجه الدلالة في هذه الآية على أن لا رضاعة محرِّمة بعد الحولين أنّها تنص
على تمام الرضاعة فيهما ، و التام لا يقبل الزيادة ، و عليه فكلّ رضاعة بعد
سنّ الفطام لا اعتبار لها في التحريم بالرضاع .
ثانياً :
روى الشيخان و غيرهما عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنّ النبيّ صلى
الله عليه و سلّم دخل عليها و عنده رجل ، فكأنّه تغيّر وجهه ، كأنّه كرِه ذلك
، فقالت : ( إنّه أخي ) فقال صلى الله عليه و سلّم : ( اُنظُرنَ مَن
إخوانُكُنّ فإنّما الرضاعة من المجاعة ) .
قال الحافظ في الفتح ( 9 / 148 ) : قوله ( من المجاعة ) أي : الرضاعة التي
تثبت بها الحرمة ، و تحل بها الخلوة هي حيث يكون الرضيع طفلاً يسد اللبن
جوعته ، لأنّ معدته ضعيفة يكفيها اللبن ، و يُنبِتُ لحمَه فيكون جزءاً من
المُرضِعة ا.هـ .
ثالثاً :
روى الترمذي عن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه و
سلّم : ( لا يحرّم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي ، و كان قبل
الفطام ) .
قال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، و العمل على هذا عند أصحاب النبي
صلى الله عليه و سلّم و غيرهم ؛ أنّ الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين
، و ما كان بعد الحولين الكامِلَين فإنّه لا يحرّم شيئاً .
و الحديث عدا قوله : ( و كان قبل الفطام ) في سنن ابن ماجة أيضاً ، عن عبد
الله بن الزبير رضي الله عنهما بإسناد صحيح .
و القول الثاني هو قول الظاهريّة
بوقوع التحريم بالرضاعة للصغير و الكبير على حدٍّ سواء ، و عَدَم التفريق بين
ما كان في الحولين أو بعدَهما ، و قد ذكر هذا القول ابن حزم الظاهري رحمه
الله فأطال الكلام عنه في المحلى ( 10 / 10 و ما بعدها ) ، و انتصر له ، و هو
مذهب عطاء بن رباح و الليث بن سعد ، و قبلَهما أم المؤمنين عائشة رضي الله
عنها .
و عُمدة ؤلاء ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت :
جاءت سهلة بنت سهيل إلى النبي صلى الله عليه و سلّم ، فقالت : يا رسول الله
إنّي أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم و هو حليفه . فقال رسول الله صلى
الله عليه و سلّم : ( أرضعيه ) فقالت : و كيف أرضعه و هو رجل كبير ؟ فتبسّم
رسول الله صلى الله عليه و سلّم و قال : ( قد علِمتُ أنّه رجل كبير ) .
و في رواية عند مسلم أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أن سالماً مولى أبي حذيفة
كان مع أبي حذيفة و أهله في بيته ، فأتت ابنة سهيل النبي صلى الله عليه و
سلّم فقالت : إنّ سالماً قد بلغ ما بلغ الرجال ، و عَقَل ما عقلوا ، و إنّّه
يدخل علينا ، و إني أظنّ أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً ، فقال لها النبي
صلى الله عليه و سلّم : ( أرضعيه تحرمي عليه ، و يذهب الذي في نفس أبي حذيفة
) فرجَعَت فقالت : إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة .
قلتُ :
و هذا الحديث ظاهر في الدلالة على مذهب الظاهريّة في عدم التفريق بين الصغير
و الكبير في التحريم بالرضاعة ، و لكنّه مُعارض بما تقدّم من أدلّة مذهب
الجمهور ، و إذا كان القول به وجيهاً لذهاب أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها
إليه ، و لعملها به حيث كانت ( كما في سنن أبي داود بإسناد صحيح ) تأمر بنات
أخواتها و بنات إخوتها أن يُرضِعنَ من أحبت عائشة أن يراها ، أو يدخل عليها و
إن كان كبيراً خمس رضعات ثمّ يدخل عليها ، فإنّ هذا مخالف لما ذهَبت إليه
بقيّة أمّهات المؤمنين الطاهرات رضوان الله عليهنّ أجمعين ، حيث لم يكنّ
يُدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً حتى يرضع في المهد ، و قُلن لعائشة : ( و
الله لا ندري لعلّها كانت رخصة من النبيّ صلى الله عليه و سلّم لسالم خاصّة ،
فما هو بداخل علينا أحدٌ بهذه الرضاعة ، و لا رائينا ) كما أخبرت بذلك أم
سلمة فيما رواه عنها مسلم و غيره .
و الظاهر أنّ لتخصيص الرخصة بسالم رضي الله عنه من دون الناس وجه من حيث
اختيار معظم أمهات المؤمنين له ، و ذهاب معظم الصحابة و جمهور العلماء إلى
القول به ، و هو المفهوم من ظاهر النصوص المعارضة لحديث سهلة بنت سهيل ، و لو
كان الأمر على إطلاقه لشاع بين الصحابة الكرام فمن بعدهم من السلف ، و تعدّدت
طرقه ، و رويت أخباره .
و لذلك فالراجح في المسألة هو قول الجمهور باشتراط كون الرضاع قبل الفطام
لتحليل الخلوة و تحريم النكاح ، و الله أعلم .
و قد ذهب بعض أهل العلم إلى الجمع بين القولين السابقين بالترخيص في إرضاع
الكبير و ترتيب أحكام الرضاعة عليه في التحليل و التحريم عند وجود المشقة في
الاحتجاب عنه ، و عدم الاستغناء عن دخوله على النساء ، كما في قصة سالم مولى
أبي حذيفة رضي الله عنهما ، و هذا القول منسوب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله ، و هو بعيد لأنّ المشقّة غير منضبطة ، أما لو كانت ضرورة ،
فللضرورة شأنٌ آخَر ، و الضرورات تقدّر بقَدَرِها .
تنبيه :
أشكل على البعض رضاع الكبير من المرأة ، مع ما يُشعِر به ذلك من تلامس
بشرتيهما رُغم عدم وقوع التحريم قبل تمام الرضاع خمساً ، و من أحسن ما قيل في
توجيه ذلك قول الإمام النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم ( 10 / 31 ) :
( قال القاضي : لعلّها حَلَبَته ثم شرِبَه ، دون أن يمسَّ ثديَها ، و لا
التَقَت بشرتاهُما ، و هذا الذي قاله القاضي حَسَنٌ ، و يُحتَمل أنّه عُفيَ
عن مسّه للحاجة ، كما خُصَّ بالرضاعة مع الكِبَر ، و الله أعلم ) .
و لا يفوتني التنبيه أيضاً
عند الحديث عن رضاع الكبير على ضرورة ذِكر الحكم الراجح في المسألة ، و عدَم
التوسّع إلا عن عِلمٍ و إحاطةٍ بجميع ما روي في هذا الباب و أقوال العلماء
فيه ، و توجيههم للنصوص ، و توفيقهم بينها لسدّ أبواب تطاول الرافضة على أمّ
المؤمنين الطاهرة الصدّيقة بنت الصدّيق ، و تنقّصهم لها .
روى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : ( لا رضاع إلا
ما شدّ العظم ، و أنبت اللحم ) فقال أبو موسى : لا تسألونا و هذا الخبر فيكم
.
قلت :
و هذا حَسنٌ في حسم مادّة الجدل ، و قطع دابر الأقاويل في هذه المسألة ، و
الله أعلم .
هذا و الله المستعان ، و بالله التوفيق .