السؤال :
أسمع كثيراً عن المباهلة ، و لا أعرف المقصود منها و لا بها ، و لا حُكمَها ،
فهل توضحون لي ذلك ؟
الجواب :
أقول مستعيناً بالله تعالى :
المباهلة في اللغة هي الملاعنة ، أي الدعاء بإنزال اللعنة على الكاذب من
المتلاعنَين ، و البَهلةُ اللَعنة [ انظر تحرير ألفاظ التنبيه : 1/247 ] .
و هي مشروعة ، لإحقاق الحق و إزهاق الباطل ، و إلزام الحجة من أعرض عن الحق
بعد قيامها عليه ، و الأصل في مشروعيتها آية المباهلة ، و هي قوله تعالى : (
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ
تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ
وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ
عَلَى الْكَاذِبِينَ ) [ آل عمران : 61 ] .
و سبب نزول هذه الآية الكريمة هو ما كان من وفد نصارى نجران عند قدومهم
المدينة و محاجتهم رسولَ الله صلى الله عليه و سلم بما يعتقدونه من الباطل في
المسيح عيسى بن مريم عليه السلام .
روى البخاري في صحيحه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قوله : جاء العاقب و
السيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يريدان أن يُلاعناه ،
فقال أحدُهُما لصاحبه : لا تفعل فو الله لئن كان نبياً فلاعنا لا تفلح نحن و
لا عقبنا من بعدنا . قالا : إنا نعطيك ما سألتنا و ابعث معنا رجلاً أميناً ،
و لا تبعث معنا إلا أميناً ، فقال : ( لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين )
فاستشرف له أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقال : ( قم يا أبا عُبيدة
بن الجراح ) فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( هذا أمين هذه
الأمة ) .
و قد ذكر الحافظ ابن حجر [ في الفتح :8 / 95 ] بعض ما يُستفاد من هذا الحديث
، و من ذلك قوله : و فيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة ، و
قد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعي ، و وقع ذلك لجماعة من العلماء . و مما
عُرفَ بالتجربة أن من باهَل و كان مبطلاً لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة ،
و وَقَعَ لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة ؛ فلم يقُم بعدها غير شهرين
. اهـ .
قلتُ :
و ليست مشروعية المباهلة خاصة بالنبي صلى الله عليه و سلم ، بل هي له و لأمته
من بعده ، و مما يدخل في ما أمرنا بالتأسي به فيه من أمور الدين .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله : ( إن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت
عليهم حجة الله ، و لم يرجعوا ، بل أصروا على العناد ، أن يدعوهم إلى
المباهلة ، و قد أمر الله سبحانه ، بذلك رسوله صلى الله عليه و سلم ، و لم
يقُل : إن ذلك ليس لأمتك من بعدك . و دعا إليها ابنُ عمه عبد الله بن عباس ،
من أنكر عليه بعض مسائل الفروع ، و لم يُنكر عليه الصحابة ، و دعا إليه
الأوزاعي سفيان الثوري في مسألة رفع اليدين ، و لم يُنكَر عليه ذلك ، و هذا
من تمام الحجة ) [ زاد المعاد : 3 /643 ] .
و بهذا يتبين أن مباهلة أهل الباطل أمر مشروع ، غير أنه لا يُصار إليه إلا مع
الجزم بصحة ما عليه المباهل و صدقه فيه ، و ترتب مصلحة شرعية على المباهلة
كإحقاق الحق ، و إقامة الحجة ، و ليس الانتصار للنفس أو الغضب لغير الله ، أو
لأمر من أمور الدنيا .
و نظراً لخطورة الدعوة إلى المباهلة أو قبول الدعوة إليها فالأولى عدم التوسع
في هذا الباب ، و الاحتراز مما قد يترتب على المباهلة من مفاسد كتعلق العوام
بأحد المتباهلين ، أو إظهار باطل لم يكن ليظهر لولاها ، أو إصابة المباهل
الصادق بالرياء أو غير ذلك من المفاسد .
جاء في شرح قصيدة ابن القيم [ 1/37 ] : ( و أما حكم المباهلة فقد كتب بعض
العلماء رسالة في شروطها المستنبطة من الكتاب و السنة و الآثار و كلام الأئمة
، و حاصل كلامه فيها أنها لا تجوز إلا في أمر مهم شرعاً وقَع فيه اشتباه و
عناد لا يتيسر دفعه إلا بالمباهلة ، فيُشتَرط كونها بعد إقامة الحجة و السعي
في إزالة الشبه و تقديم النصح و الإنذار و عدم نفع ذلك و مساس الضرورة إليها
) .
هذا و الله المستعان ، و بالله التوفيق .