( كتبتُ هذه المقالة في العاشر من أيار عام
واحدٍ و ألفين أثناء متابعتي لتسجيلٍ لما عُرِفَ بأنَّه جنازة القرن لكثرة من
شهدها من الجماهير و الزعماء )
الكل يرقصُ ( على ما يحلو له ) أحياناً ، كما أنَّ كلاً يغني على ليلاه .
و ليس لزاماً أن يكون الرقص و الغناء طَرَباً ، فقد قال الأوَّل ( المتنبي )
:
إذا رأيتَ نيـوب الليـث بارزةً *** فلا
تظنَّـنَّ أنَّ الليـثَ يبتسـمُ
و قال الآخَرُ :
و لا تظنوا رقصي بينكـم طَرباً *** فالطير
يرقصُ مذبوحاً من الألَمِ
و قُلتُ مُعقِّباً :
تأمَّلتُ حال رعايا دول العالَم ( الثالث ) فرَأيتُ عَجَباً من تدافُعِهِم
على صناديقِ الاقتراع ( أو الاستفتاء ) إن وُجِدَت في بلادِهِم ليقولوا : (
نَعَم ) لزُعمائهم المُلهَمين ، الذين لم يسمعوا كلمة ( لا ) قط ، رُغمَ أنَّ
قائلَها قد يصير بها من سادة الشهداء ؛ إن منَّ الله عليه بالشهادة بسببها .
و رأيْتُ الشوارِعَ تغصُّ بالجماهير عند التجديد لأحَدِ الزُعماء أو فقدِه (
بالموت على فراشه طبعاً ) و هُم يتدافعون بمئات الألوف أو الملايين في وداعِ
قائدِهم الرمز ، ثم لا تلبث ملايينهم أن تَخرُجَ متدافعةً أيضاً لتُبايِعَ
الخَلَف ، ملوِّحةً له بشارات النصر و التأييد .
و ربَّما كان لزاماً عليهم أن يَخرُجوا ( عفوياً كما يُقال ) في مواكب تجمع
المتناقضات و الأضداد ؛ ليُعبِّروا عن حزنهم العميق لفراق الراحل ، و تأييدهم
المطلق للمُلهَم الجديد ؛ الذي قد يكون امتداداً لسلفه ( الصالح ) نسباً أو
منهجاً .
و لو استطاع هؤلاء لذَرفوا الدموع من عينٍ واحدةٍ حُزناً ، و رنوا بالأخرى
إلى المُستَقبَل فرحاً و ابتهاجاً ، و لكن قُدرتهم على تصنُّع المشاعر لم
تبلغ هذا الحد بعد .
ذكَّرَتني هذه الصورة التي لا تكاد تُفارِق ذهني من كثرة تكرارها ، و مرارة
آثارها ، و اعتصار قلبي ألماً بسببها بقصَّه رقص الدِيَكة ( جمعُ ديكٍ ؛ و هو
ذكر الدجاج ) .
فقد قال لي والدي ( يرحمه الله ) يوماً : إنَّه كان فيما كان قبلنا ( أو قبل
جيلنا على الأقل ) يُؤتى بالدِيَكَة ، و توضع على صفائح تشتعل تحتها المواقد
ناراً ، فإذا ألهب لظاها الصفائح ، و لَسَعَت بحَرارَتها البالغة الأرجُل أخذ
كل ديك يرفع رجلاً و يضع أخرى بشكل متسارع و متزامن مع أنغام معازف المتابعين
و قرع طبول المدرِّبين المنبعث من مكانٍ قريب .
و مَع مرور الزمن ، و ازدياد الحال سوءاً ، يتبلَّد إحساس الديَكة ، و تموت
مشاعِرُها ، و تُصبح – بلا و عي – تقفز على رجلٍ واحدةٍ ، أو ترفَع رجلاً و
تضعُ أخرى ، و تُصفِّق بأجنحتها ( كما يظن من لم تلسعه النيران التي تلسعها )
كلَّما لامست مسامعها نغمة عازف أو رنَّة طبل .
و ليست الحال التي صارت إليها الدِيَكة المدرَّبة بأسوء من حال شعوب معظم ما
يُعَرَّف بأنَّه عالم ثالث ( بما فيه من ديار للعرب و المسلمين ) الذين
يجيدون الوقوف لساعاتٍ طويلةٍ ، و كأنَّ على رؤوسهم الطير في مواكب الحداد و
العويل ، أو التأييد و التبجيل ، و قد ينتهون و هم خاشعون من الذُلِّ – كما
رأيت في بعض البلدان – إلى الانكباب على أيدي الولاة باللثم و التقبيل ؛ على
نحوٍ يجيدون القيام به بانتظام أكثر من إجادة الوقوف بانتظامٍ لبِضع دقائق في
مكانٍ عامٍ كغُرَف انتظار الأطبَّاء ، و أمام المتاجر و المصارف ، أو في
مواقف الحافِلات .
ربَّما كان السبب في ذلك أنَّ نسيان لسعة تأنيب الضمير عند المسير في مواكب
النفاق ، أو حرارة الشمس عند الوقوف في المواقف العامَّة أسهل بكثير من نسيان
لسعة السياط التي تُلهِبُ الظهور و الأقدام عند التقاعُس ( و لو عَجْزاً ) عن
القيام بواجب ( وطني ) في المواسم الرسميَّة ، التي لا يُقال فيها قط ( ليسَ
على المريض حرَج ) .
فليهنأ من ( استخفَّ قومه فأطاعوه ) بولاءٍ لا حُدودَ له ، مِن شُعوبٍ لا
إرادةَ لها .