الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد :
فقد كثُر السؤال عن ورقة تداولها
الناس ، كما نُشر مضمونها في " الشبكة العنكبوتية " ، وحاصلها الربط بين آية
من سورة براءة وبين ما حدث لبرجي التجارة في إمريكا .
ومع تهافت محتوى تلك الورقة في ميزان العلم الصحيح إلا أن كثيرا من الناس
اغتروا بها ، واعتبروا ذلك من أدلة إعجاز القرآن حيث أخبر عن هذا الأمر قبل
وقوعه بما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمان !! وفي آخر الورقة حثٌ على
تصويرها ونشرها !
وقد عجبت من جُرأة كاتبها على الله وعلى كتابه ، والله يقول : " قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ
وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا
لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا
تَعْلَمُونَ " . [ الأعراف : 33 ] ، وقال : " وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " . [ يونس : 60 ]
، وقال : " قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا
يُفْلِحُونَ " . [ يونس : 69 ] ، وقال : " إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ
" . [ النحل : 105 ] .
ولما كان إيمان السلف رضي الله عنهم وافراً ، وعلومهم راسخة اشتد تحرجهم من
القول على الله بلا علم ، وكانوا أبعد الناس عن التكلف ، فهذا عمر بن الخطاب
رضي الله عنه يقرأ على المنبر : " وَفَاكِهَةً وَأَبًّا " [ عبس : 31 ] فقال
: هذه الفاكهة عرفناها فما الأبُّ ؟ ثم رجع إلى نفسه فقال : إن هذا لهو
التكلف يا عمر ! (1) .
وفي رواية عن أنس رضي الله عنه قال : كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي
ظهر قميصه أربع رقاع ، فقرأ : " وَفَاكِهَةً وَأَبًّا " [ عبس : 31 ] فقال :
فما الأبُّ ؟ ثم قال : إن هذا لهم التكلف !! فما عليك أن لا تدريه ؟
(2)
وهذا ابن عباس حَبْرُ الأمة ، وترجمان القرآن – كما روى عنه ابن أبي مليكة –
أنه سُئل عن آية لو سُئل عنها بعضكم لقال فيها ، فأبى أن يقول فيها .
(3)
وسأله رجل عن " يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ " [ السجدة : 5 ]
فقال له ابن عباس : فما " يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ
[ المعارج : 4 ] ؟ فقال له الرجل : إنما سألتك لتحدثني !! فقال ابن عباس :
هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما ، فكره أن يقول في كتاب الله
ما لا يعلم . (4)
وهذا جندب بن عبد الله رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه
طلق بن حبيب فيسأله عن آية من القرآن ، فقال : أُحَرِّجُ عليك إن كنت مسلما
لَما قمت عني – أو قال - : أن تُجالسني . (5)
ولم يكن هذا الورع والتحرز مقتصراً على الصحابة رضي الله عنهم بل كان خُلُقاً
لمن جاء بعدهم من أهل الرسوخ والتُّقى ، فهذا سعيد بن المسيب رحمه الله وهو
من خيار علما التابعين يُسئل عن تفسير آية من القرآن فبقول : إنَّا لا نقول
في القرآن شيئا . (6)
وذكر عنه يحيى بن سعيد أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن .
(7)
وسأله رجل عن آية من القرآن فقال : " لا تسألني عن القرآن ... "
(8)
وقال يزيد بن أبي يزيد : كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحرام والحلال وكان
أعلم الناس ، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع .
(9)
وأخرج ابن جرير عن عبيد الله بن عمر قال : أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون
القول في التفسير ، منهم سالم بن عبيد الله ، والقاسم بن محمد ، وسعيد بن
المسيب ، ونافع . (10)
وقال هشام بن عروة بن الزبير : ما سمعت أبي يؤول آية من كتاب الله قط .
(11)
وسأل محمد بن سيرين عَبِيْدَةَ السلماني عن آية من القرآن فأجابه بقوله : "
ذهب الذين كانوا يعلمون فِيْمَ أُنْزِلَ القرآن . فاتق الله ، وعليك بالسداد
. (12)
وهذا إبراهيم النخعي يقول : كان أصحابنا – يعني أصحاب ابن مسعود كعلقمة
والأسود وغيرهم من أصحاب ابن مسعود – يتقون التفسير ويهابونه .
(13)
وقال الشعبي رحمه الله : والله ما من آية إلا وقد سألت عنها ، ولكنَّها
الرواية عن الله عز وجل . (14) وقال ابن مسروق : اتقوا
التفسير ، فإنما هو الرواية عن الله . (15)
وهذا شيح الإسلام ابن تيمية مع تَبَحُّرِهِ في العلم وسعة اطلاعه حتى إنه إذا
سُئل عن فن ظن الرائي والسامع أنه لا يَعرف غير ذلك الفن ، وحَكَم بأن لا
يعرفه أحد مثله ، وله يد طُولَى في التفسير مع قوة عجيبة في استحضار الأدلة
من الكتاب والسنة (16)، فمع هذا كله كان رحمه الله يقول
: ربما طالعت الآية الواحدة نحو مائة تفسير ، ثم أسأل الله الفهم وأقول : يا
معلم آدم وإبراهيم علمني ، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة ونحوها وأُمَرِّغ
وجهي في التراب ، وأسأل الله تعالى وأقول : يا معلم إبراهيم فهمني .
(17)
وهذا طرف يسير من شدة تحرزهم في الكلام على التفسير ، وأما ما ورد عنهم من
عظم الورع في الفتيا والجواب على المسائل الموجهة إليهم فهذا أمر يطول وصفه
ولا تحتمله هذه المقدمة . (18)
وبعد هذا أقول : أين حال هؤلاء المجترئين على الله تعالى من حال هؤلاء السلف
رضي الله عنهم ؟
وأما الرد على مضمون تلك الورقة
المشار إليها فمن ثمانية أوجه هي :
الأول :
أن مدار هذه الفرية يعود إلى ما يسمونه بـ ( الإعجاز العددي في القرآن ) .
وهذا النوع من الإعجاز باطل جملة وتفصيلا ، إذ لم يكن معهوداً لدى المخاطبين
بالقرآن من أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم ، وهم أعلم الأمة بكتاب الله ،
وأبرها قلوباً ، وأكثرها صواباً ، فلم يُنقل عن أحد منهم بإسناد صحيح شيء من
هذا القبيل إطلاقا ، ولو كان هذا من العلم المُعتبر لكانوا أسبق الناس إليه ،
وأعلم الأمة به ، وذلك أن هذا الأمر لا يتطلب آلات وتقنيات حتى يتمكن الإنسان
من اكتشافه ، وإنما هو مجرد إحصاء وعدد ، وهذا أمرٌ لا يُعْوِزُ أحداً ، وقد
عَدَّ السلفُ جميع كلمات القرآن ، وجميع حروفه ، وعرفوا بذلك أعشاره ،
وأرباعه ، وأثلاثه ، وأخماسه ، وأسداسه ، وأسباعه ، وأثمانه ، وأتساعه ،
وأنصاف ذلك كله ، وغير ذلك بدقة متناهية كما هو معروف في محله .
(19)
فكيف خفي عليهم هذا العلم جملة
وتفصيلا وعرفه من بعدهم ؟
هذا لا يكون أبداً ، وما يذكره بعضهم
من أمثلة على هذا الإعجاز المزعوم كثير منه لا يصح فيه العد أصلاً – كما في
موضوعنا هذا كما سيأتي – وما كان العَدُّ فيه صحيحاً فإن ما يُذكر معه إنما
هو من باب الموافقة والمصادفة ، ولا يَعْجَزُ الإنسان إذا أحصى أموراً كثيرة
مما ورد في القرآن – مثلاً – كعدد المرات التي ذُكرت فيها الجنة ، والنار ،
والبر ، والأبرار ، والخير ، والشر ، والنعيم ، والجزاء ، والعذاب ، والمحبة
، والبغض ، والكفار ، وأصحاب الجنة ، وأصحاب النار ، والمؤمنون ، والكفار ،
والمنافقون ، والكفر ، والإيمان ، والنفاق ... إلخ .
فإذا أحصيت ذلك كله ستجد أشياء منه تستطيع أن تلفق منها بعض الفِرَى ، فقد
تتساوى بعض الأعداد ، أو يكون بعضها على النصف بالنسبة لغيره ، وهكذا مما لا
يعجز معه أهل التلبيس من إيجاد وجوه للربط بينها يطرب لها بعض السذج
والمغفلين .
وليس المقصود هنا التفصيل فيما يُسمى بـ ( الإعجاز العددي ) وإنما المقصود
الإشارة إلى بطلان هذا الأمر الذي تدور حوله تلك الورقة المشار إليها .
(20)
الثاني :
زعم هذا الكاتب أن رقم السورة - وهو تسعة – موافق للشهر الذي وقع فيه الحدث ،
وهو الشهر التاسع .
والجواب عن هذا لا يخفى إذ إن ترتيب السور في المصحف لم يكن عن توقيف من
النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما كان عن اجتهاد صدر عن الصحابة رضي الله
عنهم في زمن عثمان رضي الله عنه حينما جمع الناس على مصحف واحد
(21) . وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز أن يُرتب على هذا
الترتيب للسور استنباطات في المعاني ولا غيرها ، ومعلوم أن الصحابة رضي الله
عنهم قبل جمع عثمان رضي الله عنه للمصاحف كانوا يتفاوتون في ترتيب مصاحفهم ،
فبعضهم كان يرتب السور حسب النزول ، وبعضهم على غير ذلك ، وبهذا تعرف قيمة ما
بناه ذلك الكاتب على هذا الرقم (9) .
الثالث :
زعم كاتب الورقة أن سورة براءة تقع في الجزء الحادي عشر من أجزاء القرآن
الكريم ، وأن هذا يوافق اليوم الذي وقع فيه الحدث ، وهو اليوم الحادي عشر .
والجواب
عن هذا يتبين مما قبله ، إذ لو لم تُرتب السور في المصحف على هذا الترتيب
الذي أجمع عليه أصحاب النبي صلى الله عليه زمن عثمان رضي الله عنه لما وقعت
السورة في الجزء المشار إليه .
هذا من جهة ، ومن جهة أخرى نقول : إن تجزئة القرآن على ثلاثين جزءاً لم تكن
معروفة زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا في زمن الصحابة ، لا في زمن عثمان
رضي الله عنه ولا قبله ولا بعده ، وإنما وقع ذلك بعدهم ، وكان الصحابة رضي
الله عنهم يحزبون القرآن بطريقة أُخرى حسب السور على النحو التالي :
1 – السبع الطوال . 2 – المئين . 3 – المثاني . 4 – المفصل .
ولا شك أن هذا الترتيب الذي كانوا عليه أدق وأفضل ، إذ إن ترتيب القرآن على
الأجزاء يفضي إلى انتهاء الجزء قبل تمام المعنى ، حيث يفصل بين أجزاء الموضوع
الواحد .
أما طريقة الصحابة رضي الله عنهم فهي – كما سبق – على السور ، وبناء على ذلك
تكون المعاني تامة . وإذا كان الأمر كذلك فليس لأحد أن يتمسك برقم الجزء الذي
وقعت فيه السورة ليربط بينه وبين أمر آخر ليخرج لنا بمعنى كهذا .
الرابع :
في البداية كانت الآية التي تعلق بها الكاتب هي الآية رقم (110) من سورة
التوبة ، وهي قوله تعالى : " لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا
رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ " وإنما تعلق بهذه الآية لتوافق عدد الأدوار في الأبراج حيث
تبلغ هذا العدد ، ولكن مضمون الآية لا يساعده ، وإنما المناسب أن تكون الآية
التي قبلها وهي (109) وذلك قوله تعالى : " أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ
عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ
بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ
... " ثم رأيت في الأوراق المنشورة مؤخراً الإحالة إلى هذه الآية (109) لكن
هذه يتطلب كذبة إضافية لحبك الدعوى ، ولم يتطلب هذا من الكاتب كبير جهد حيث
زعم أن عدد الأدوار (109) فأسقط دوراً ليوافق ذلك مُدَّعاه ، وهذا من أعجب
الأمور !! ولا أدري كيف يسمح الناس لمثل هذا أن يستخف بعقولهم إلى هذا الحد ؟
الخامس :
أن مبنى هذه الارتباطات على الحساب الشمسي ، وهو حساب متوارث عن أُمم وثنية ،
ولم يكن معتبراً لدى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وإنما الحساب المعتبر
في الشرع هو الحساب بالقمر والأهلة ، وهو الأدق والأضبط ، ومما يدل على أن
المعروف في شرائع الأنبياء هو الحساب بالقمر والأهلة حديث واثلة بن الأسقع
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أُنْزِلَتْ صُحُفُ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ ،
وَأُنْزِلَتْ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ ، وَالْإِنْجِيلُ
لِثَلَاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ ، وَأُنْزِلَ الْفُرْقَانُ
لِأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ . (22)
وهذا لا يعرف إلا إذا كان الحساب بالقمر والأهلة ، ويدل عليه أيضا الحديث
المخرج في الصحيحين عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
قَالَ : قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَقَالَ
: مَا هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى
اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى ...
الحديث . (23) ، وقد صرح الحافظ رحمه الله أنهم كانوا لا
يعتبرون الحساب بالشمس (24) .
وقال ابن القيم رحمه الله تعليقا على قوله تعالى : " هُوَ الَّذِي جَعَلَ
الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ " [ يونس : 5 ]
، وقوله تعالى : " وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ . وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ
كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ " [ يس : 38-39 ] : ولذلك كان الحساب القمري أشهر
وأعرف عند الأمم وأبعد من الغلط ، وأصح للضبط من الحساب الشمسي ، ويشترك فيه
الناس دون الحساب ، ولهذا قال تعالى : " وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا
عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ " [ يونس : 5 ] ولم يقل ذلك في الشمس ، ولهذا
كانت أشهر الحج والصوم والأعياد ومواسم الإسلام إنما هي على حساب الشمس
وسيرها حكمة من الله ورحمة وحفظا لدينه لاشتراك الناس في هذا الحساب ، وتعذر
الغلط والخطأ فيه ، فلا يدخل في الدين من الاختلاف والتخليط ما دخل في دين
أهل الكتاب (25) .
وربما يُفهم من العبارة الأخيرة لابن القيم رحمه الله أن أهل الكتاب كانوا
يعتمدون الحساب بالشمس ، وهذا قد صرح الحافظ ابن حجر رحمه الله برده بعد أن
نسبه لابن القيم (26) .
والواقع أنه لم يكن معتبرا في شرعهم وإنما وقع لهم بعد ذلك لدى جهلتهم ،
ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : " لَيْسَ يَوْم
عَاشُورَاء بِالْيَوْمِ الَّذِي يَقُولهُ النَّاس , إِنَّمَا كَانَ يَوْم
تُسْتَر فِيهِ الْكَعْبَة , وَكَانَ يَدُور فِي السَّنَة , وَكَانُوا
يَأْتُونَ فُلَانًا الْيَهُودِيَّ - يَعْنِي لِيَحْسِبَ لَهُمْ - فَلَمَّا
مَاتَ أَتَوْا زَيْدَ اِبْنَ ثَابِتٍ فَسَأَلُوهُ " (27)
وقد فسره الحافظ رحمه الله بما نقله من كتاب " الآثار القديمة " للبيروني ما
حاصله : أن جهلة اليهود يعتمدون في صيامهم وأعيادهم حساب النجوم ، فالسنة
عندهم شمسية لا هلالية . قال الحافظ : فَمِنْ ثَمَّ اِحْتَاجُوا إِلَى مَنْ
يَعْرِف الْحِسَاب لِيَعْتَمِدُوا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ (28)
.
السادس :
أن الآية المشار إليها تتحدث مع ما قبلها وبعدها عن مسجد الضرار الذي بناه
المنافقون ، ورَبْطها بالحدث الجديد تلاعب بكتاب الله تعالى ، وتحميل له ما
لا يحتمل إطلاقا من أي وجه من وجوه الدلالة المعروفة لدى العلماء . وهذا أمر
أوضح من أن يشرح .
السابع :
زعم كاتب الورقة أن عدد الحروف من بداية السورة إلى الآية (109) = (2001)
حرفا .
وهذا إضافة إلى الأوجه السابقة الدالة على عدم الاعتداد به فإنه كذب محض ،
ذلك أن كل وجهين ( صفحتين ) من المصحف الكريم تحويان ما يقرب من ألف حرف ،
وعدد الأوجه من أول السورة إلى الآية المشار إليها يبلغ (17.5) تقريبا ، فإذا
اعتبرت هذا العدد عرفت البون الشاسع بين ما ذكره الكاتب وبين الحقيقة ؛ ولذا
رأيت في بعض طبعات تلك الورقة المعدلة أن هذا الرقم (2001) هو عدد الكلمات من
أول السورة إلى الآية المشار إليها ، وهذا أيضا غير صحيح ذلك أن العدد
الحقيقي للكلمات هناك يزيد على (2920) كلمة .
وإذا أحسنَّا الظن بالكاتب قلنا إنه لا يحسن العَدَّ ، ذلك أن الكلمة عند أهل
العربية على ثلاثة أقسام :
1 – الاسم .
2 – الفعل .
3 – الحرف الذي جاء لمعنى نحو : من ، على ، إلى ، والباء وغيرها من حروف الجر
وما في حكمها ، وهكذا الضمائر سواء كانت متصلة أو منفصلة فإنها تُعد كلمات
أيضا .
الثامن :
زعم الكاتب أن المركز المشار إليه يقع على شارع اسمه : " جرف هار " .
وهكذا كذب مُلَفَّق ، وقد سألت من يعرفون تلك البلاد فلم يعرفوا هذا الاسم ،
كما اطلعت على بعض المعلومات والخرائط التي توضح الموقع وما حوله عبر الشبكة
العنكبوتية ، وليس لهذا الاسم ذكر في شيء من ذلك .
ثم لو فرضنا جدلا أن هذا هو الاسم الحقيقي لشارع فنقول : إن هذا الاسم أعجمي
، والقرآن بلسان عربي مبين ، ومعلوم أن الألفاظ قوالب المعاني ، وإنما
تُفَسَّر الألفاظ بحسب ما وُضِعَت له من المعاني في اللغة التي تضاف إليها ،
فكم من لفظة أعجمية توافق لفظا كلمة عربية وتناقضها في معناها ومدلولها ، ولا
يقول أحد له أدنى مسكة من عقل بأن هذه الألفاظ المتوافقة في مجرد اللفظ أنها
تُحمل على مدلول واحد .
ومعلوم أن ( الجرف ) في العربية هو المكان الذي يأكله السيل
(29) .
وأما ( الهار ) فإن أصل الكلمة هذه الكلمة يدور على معنى واحد وهو السقوط
والانهدام (30) .
ولا يبعد على هذا الكاتب وأمثاله أن يخرج علينا باستنباط جديد بعد أن عرف
معنى هاتين الفظتين في لغة العرب ، وهو أن يقول بأن المبنى المشار إليه يمر
بجانبه نهر ، فهو يقع على ضفافه وبالتالي فهو على جرف هار ، والدجل ليس له حد
ينتهي إليه .
وفي الختام
أنبه القارىء الكريم أن المقصود الأهم من كتابة هذه الورقات إنما هو التنبيه
على حال هذه المُخْتَلَقَات وهي كثيرة ومتنوعة وذلك بعرضها على ميزان العلم
فينكشف أمرها ، وهذا الذي بين يديك يمكنك أن تعتبر به حال كثير مما يمر بك
مما قد يستهوي بعض السذج والبسطاء ، والله الموفق .
كتبه
د . خالد بن عثمان السبت
2/3/1423 هـ
الـــحـــاشـــيـــة :
(1) إسناده صحيح . أخرجه
أبو عبيد (1/58) ، وابنُ أبي شيبة (10/512 – 513) ، وسعيد بن منصور في تفسيره
(1/181) ، والحاكم (2/514) ، والبيهقي في الشعب (2084) .
(2) إسناده صحيح . أخرجه عبد بن حميد في تفسيره كما في
الفتح (13/271) ، وابن سعد (3/327) ، وابن جرير (30/60-61) ، والبيهقي في
الشعب (2084) ، وأصله في البخاري مختصرا .
(3) إسناده صحيح . أخرجه ابن جرير .
(4) إسناده صحيح . أخرجه أبو عبيد ، وابن جرير .
(5) إسناده صحيح . أحرجه ابن جرير . ولعل السائل أورد عليه
مسألة مُتَكَلَّفَة ، وإلا فمن المعلوم أن السؤال عما يعني في التفسير وغيره
أمرٌ غير مُسْتَنكَر .
(6) إسناده صحيح . أخرجه ابن جرير ، وابن سعد .
(7) إسناده صحيح . أخرجه أبو عبيد ، وابن جرير .
(8) إسناده صحيح . أخرجه أبو عبيد ، وابن جرير ، وابن أبي
شيبة .
(9) إسناده صحيح . أخرجه ابن جرير .
(10) إسناده صحيح .
(11) إسناده جيد . أخرجه أبو عبيد .
(12) إسناده صحيح . أخرجه أبو عبيد ، وابن أبي شيبة ،
وسعيد بن منصور ، والبيهقي في الشعب .
(13) إسناده صحيح . أخرجه ابن أبي شيبة ، والبيهقي في
الشعب ، وأبو نعيم في الحلية .
(14) إسناده صحيح . أخرجه ابن جرير .
(15) إسناده صحيح . أخرجه أبو عبيد .
(16) انظر : الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية ص 706 .
(17) العقود الدرية ص 26، وهو في الكواكب ص 78 .
(18) للتوسع انظر على سبيل المثال : سنن الدارمي (1/53)
فما بعدها ، الموافقات (4/286) .
(19) انظر في ذلك على سبيل المثال : فنون الأفنان لابن
الجوزي ص 245 فما بعدها ، البرهان للزركشي (1/249) ، الإتقان للسيوطي (1/197)
، جمال القراء للسخاوي (1/231) .
(20) ورأيت بعضهم يحتج له بأن الله جعل خزنة النار تسعة
عشر .
وهذا لحكمة يعلمها الله تعالى ولكن ما وجه الإعجاز في ذلك ؟ وهكذا سائر
الأعداد المذكورة في القرآن كابواب النار وغير ذلك وسيكون بيان ذلك كله – إن
شاء الله – في غير هذه الورقات عند الكلام على التفسير العلمي للقرآن .
(21) مع أننا نقول في الوقت نفسه : إن هذا الترتيب وقع
عليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم في زمن عثمان رضي الله عنه ، فينبغي اتباعه
في طباعة المصاحف ، ولا تصح مخالفته .
(22) أخرجه أحمد (4/107) ، والبيهقي في السنن (9/188) ،
وسنده حسن ، وذكره الألباني في الصحيحة (1575) .
(23) أخرجه البخاري (2004) ، ومسلم (1130) .
(24) انظر : الفتح (4/291) ، وانظر (7/323) .
(25) مفتاح الدار السعادة ص 538 – 539 .
(26) انظر : الفتح (7/323) .
(27) قال في الفتح (4/248) : وسنده حسن " .
(28) السابق ، وللتوسع في هذا الحساب راجع : صبح الأعشى
(2/382-401) .
(29) انظر : المفردات للراغب ( مادة : جرف ) .
(30) انظر : المقاييس في اللغة ، كتاب الهاء ، باب الهاء
والواو وما يثلثها .