اطبع هذه الصفحة


هل يُعلنُ عن الكسوفِ أو الخسوفِ في وسائلِ الإعلامِ قبل حدوثهِ ؟

عَبْداللَّه بن محمد زُقَيْل


الحمد لله وبعد ؛

لقد أصبح الإعلان عن وقوع الكسوف أو الخسوف في وسائل الإعلام من الأمور المعروفة في العصور المتأخرة ، وخاصة بعد أن جعلت وسائلُ الاتصالِ العالمَ قريةً واحدةً في سرعة انتشار خبر الكسوف أو الخسوف أو غيرها من الأخبار .

وفي هذا المقال نريد الوقوف على رأي أهل العلم من العلماء العاملين في مثل هذه الظاهرة ، وأعلمُ مسبقاً أن بعض الناس لن يرتاح لرأي أهل العلم ، بل قد يشنع بعضهم ، ولكن لابد لنا أن نحترم آراء علمائنا ، فهم ورثة علم النبوة ، وأن نفهم أيضا السبب الذي من أجله ظهر رأيهم في هذه القضية ، فأرجو أن يؤخذ كلامهم بأدب واحترام ، وأن يكون النقاش في المسألة من منظور شرعي ، لا من وجهة نظر عقلية محضة .

وقبل البدء في ذكر كلام العلماء أود أن أقف وقفاتٍ مع أحاديث مهمة من صحيح البخاري تتعلق بهذا الخصوص ، وأنقل كلام أهل العلم على الحديث .

الحديث الأول :
عَنْ ‏‏أَبِي بَكْرَةَ ‏‏قَالَ :‏ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏‏فَانْكَسَفَتْ الشَّمْسُ ، فَقَامَ النَّبِيُّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏ ‏يَجُرُّ رِدَاءَهُ ؛ حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَدَخَلْنَا ، فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ؛ حَتَّى انْجَلَتْ الشَّمْسُ فَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏: ‏إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَصَلُّوا ، وَادْعُوا ؛ حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِكُمْ . وَذَلِكَ أَنَّ اِبْنًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَال لَهُ إِبْرَاهِيم مَاتَ فَقَالَ النَّاس فِي ذَلِكَ .

من فوائد الحديث :
1 - قال الحافظ ابن حجر في الفتح (2/613) : وَفِي هَذَا الْحَدِيث إِبْطَال مَا كَانَ أَهْل الْجَاهِلِيَّة يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ تَأْثِير الْكَوَاكِب فِي الْأَرْض , وَهُوَ نَحْو قَوْله فِي الْحَدِيث الْمَاضِي فِي الِاسْتِسْقَاء " يَقُولُونَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا " .

قَالَ الْخَطَّابِيُّ : كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْكُسُوف يُوجِب حُدُوث تَغَيُّر فِي الْأَرْض مِنْ مَوْت أَوْ ضَرَر , فَأَعْلَمَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اِعْتِقَاد بَاطِل , وَأَنَّ الشَّمْس وَالْقَمَر خَلْقَانِ مُسَخَّرَانِ لِلَّهِ لَيْسَ لَهُمَا سُلْطَان فِي غَيْرهمَا وَلَا قُدْرَة عَلَى الدَّفْع عَنْ أَنْفُسهمَا .ا.هـ.

2 - وقال أيضا : وَفِيهِ – أي الحديث - مَا كَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْ الشَّفَقَة عَلَى أُمَّته وَشِدَّة الْخَوْف مِنْ رَبّه .ا.هـ.

الحديث الثاني :
عَنْ ‏ ‏قَيْسٍ ‏‏قَالَ : سَمِعْتُ ‏‏أَبَا مَسْعُودٍ ‏‏يَقُولُ : ‏قَالَ النَّبِيُّ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :‏ ‏إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا فَقُومُوا فَصَلُّوا

من فوائد الحديث :
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (2/614) : ( مِنْ آيَات اللَّه ) : ‏أَيْ الدَّالَّة عَلَى وَحْدَانِيَّة اللَّه وَعَظِيم قُدْرَته أَوْ عَلَى تَخْوِيف الْعِبَاد مِنْ بَأْس اللَّه وَسَطَوْته , وَيُؤَيِّدهُ قَوْله تَعَالَى " وَمَا نُرْسِل بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا " .ا.هـ.

الحديث الثالث :
عَنْ ‏‏ابْنِ عُمَرَ ‏‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ‏‏أَنَّهُ كَانَ يُخْبِرُ ‏عَنْ النَّبِيِّ ‏‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ : ‏إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ ، وَلَكِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَصَلُّوا .

من فوائد الحديث :
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (2/614) :
( وَلَا لِحَيَاتِهِ ) : ‏اِسْتُشْكِلَتْ هَذِهِ الزِّيَادَة لِأَنَّ السِّيَاق إِنَّمَا وَرَدَ فِي حَقّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيم وَلَمْ يَذْكُرُوا الْحَيَاة . وَالْجَوَاب أَنَّ فَائِدَة ذِكْر الْحَيَاة دَفْع تَوَهُّم مَنْ يَقُول لَا يَلْزَم مِنْ نَفْي كَوْنه سَبَبًا لِلْفَقْدِ أَنْ لَا يَكُون سَبَبًا لِلْإِيجَادِ , فَعَمَّمَ الشَّارِع النَّفْي لِدَفْعِ هَذَا التَّوَهُّم .ا.هـ.

اكتفي بهذا القدر من الأحاديث وسيأتي معنا كلام للعلماء يعد ذلك .

كلام العلماء في إعلان الكسوف قبل حدوثه :

تكلم بعض أهل العلماء في إعلان الكسوف قبل حدوثه بكلام جيد ، نأتي عليه بتمامه .

1 – شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوي (24/254 – 262) سؤالا نصه :
عَنْ قَوْلِ أَهْلِ التَّقَاوِيمِ : فِي أَنَّ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ يَخْسِفُ الْقَمَرُ وَفِي التَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ تَكْسِفُ الشَّمْسُ فَهَلْ يُصَدَّقُونَ فِي ذَلِكَ ؟ وَإِذَا خَسَفَا هَلْ يُصَلَّى لَهُمَا ؟ أَمْ يُسَبَّحُ ؟ وَإِذَا صَلَّى كَيْفَ صِفَةُ الصَّلَاةِ ؟ وَيَذْكُرُ لَنَا أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ .

فأجاب بجواب سأختار ما يهمنا في موضوعنا :
" ... وَأَمَّا مَا يُعْلَمُ بِالْحِسَابِ فَهُوَ مِثْلُ الْعِلْمِ بِأَوْقَاتِ الْفُصُولِ كَأَوَّلِ الرَّبِيعِ وَالصَّيْفِ وَالْخَرِيفِ وَالشِّتَاءِ لِمُحَاذَاةِ الشَّمْسِ أَوَائِلَ الْبُرُوجِ الَّتِي يَقُولُونَ فِيهَا إنَّ الشَّمْسَ نَزَلَتْ فِي بُرْجِ كَذَا : أَيْ حَاذَتْهُ ... وَالْعِلْمُ بِوَقْتِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لَكِنَّ هَذَا الْمُخْبِرَ الْمُعَيَّنَ قَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِذَلِكَ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَقَدْ يَكُونُ ثِقَةً فِي خَبَرِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ . وَخَبَرُ الْمَجْهُولِ الَّذِي لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِ وَصِدْقِهِ وَلَا يُعْرَفُ كَذِبُهُ مَوْقُوفٌ . وَلَوْ أَخْبَرَ مُخْبِرٌ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَجْهُولٌ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ وَلَكِنْ إذَا تَوَاطَأَ خَبَرُ أَهْلِ الْحِسَابِ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ وَمَعَ هَذَا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى خَبَرِهِمْ عِلْمٌ شَرْعِيٌّ فَإِنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ لَا تُصَلَّى إلَّا إذَا شَاهَدْنَا ذَلِكَ وَإِذَا جَوَّزَ الْإِنْسَانُ صِدْقَ الْمُخْبِرِ بِذَلِكَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ فَنَوَى أَنْ يُصَلِّيَ الْكُسُوفَ وَالْخُسُوفَ عِنْدَ ذَلِكَ وَاسْتَعَدَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ لِرُؤْيَةِ ذَلِكَ كَانَ هَذَا حَثًّا مِنْ بَابِ الْمُسَارَعَةِ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِبَادَتِهِ فَإِنَّ الصَّلَاةَ عِنْدَ الْكُسُوفِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ تَوَاتَرَتْ بِهَا السُّنَنُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهَا أَهْلُ الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ...ا.هـ.

2 – الحافظ ابن حجر - رحمه الله - :
أما الحافظ ابن حجر فقد رد على أهل الهيئة فقال في الفتح (2/624) :
‏قَوْله : ( يُخَوِّف ) فِيهِ رَدّ عَلَى مَنْ يَزْعُم مِنْ أَهْل الْهَيْئَة أَنَّ الْكُسُوف أَمْر عَادِيّ لَا يَتَأَخَّر وَلَا يَتَقَدَّم , إِذْ لَوْ كَانَ كَمَا يَقُولُونَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَخْوِيف وَيَصِير بِمَنْزِلَةِ الْجَزْر وَالْمَدّ فِي الْبَحْر , وَقَدْ رَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ اِبْن الْعَرَبِيّ وَغَيْر وَاحِد مِنْ أَهْل الْعِلْم ... وَقَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد : رُبَّمَا يَعْتَقِد بَعْضهمْ أَنَّ الَّذِي يَذْكُرهُ أَهْل الْحِسَاب يُنَافِي قَوْله " يُخَوِّف اللَّه بِهِمَا عِبَاده " وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ اللَّه أَفْعَالًا عَلَى حَسَب الْعَادَة , وَأَفْعَالًا خَارِجَة عَنْ ذَلِكَ , وَقُدْرَته حَاكِمَة عَلَى كُلّ سَبَب , فَلَهُ أَنْ يَقْتَطِع مَا يَشَاء مِنْ الْأَسْبَاب وَالْمُسَبِّبَات بَعْضهَا عَنْ بَعْض . وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَالْعُلَمَاء بِاَللَّهِ لِقُوَّةِ اِعْتِقَادهمْ فِي عُمُوم قُدْرَته عَلَى خَرْق الْعَادَة وَأَنَّهُ يَفْعَل مَا يَشَاء إِذَا وَقَعَ شَيْء غَرِيب حَدَثَ عِنْدهمْ الْخَوْف لِقُوَّةِ ذَلِكَ الِاعْتِقَاد , وَذَلِكَ لَا يَمْنَع أَنْ يَكُون هُنَاكَ أَسْبَاب تَجْرِي عَلَيْهَا الْعَادَة إِلَى أَنْ يَشَاء اللَّه خَرْقهَا . وَحَاصِله أَنَّ الَّذِي يَذْكُرهُ أَهْل الْحِسَاب حَقًّا فِي نَفْس الْأَمْر لَا يُنَافِي كَوْن ذَلِكَ مُخَوِّفًا لِعِبَادِ اللَّه تَعَالَى .ا.هـ.

وقد قال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – تعليقا على كلام ابن دقيق العيد :
ما قاله ابن دقيق العيد هنا جيد . وقد ذكر كثير من المحققين – كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم – ما يوافق ذلك ، وأن الله سبحانه قد جرى العادة بخسوف الشمس والقمر لأسباب معلومة يعقلها أهل الحساب ، والواقع شاهد بذلك . ولكن لا يلزم من ذلك أن يصيب أهل الحساب في كل ما يقولون ، بل قد يخطئون في حسابهم ، فلا ينبغي أن يصدقوا ولا أن يكذبوا ، والتخويف بذلك حاصل على كل تقدير لمن يؤمن بالله واليوم الآخر .ا.هـ.

3 - الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - :
قال العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم في " مجموع فتاويه " ( 3/128) :
838 – الكسوف يدرك بالحساب ، وليس توثبا على علم مستقبل ، بل هو أخذ مستقبل ماض عادة ضبطت به بالنسبة إلى المنازل والبروج إلا أنه لا يجزم بقولهم ، فلا يصدقون ولا يكذبون ، لأنه أمر حسابي قد يصيبون وقد يخطئون ، كأخبار بني إسرائيل ، يُعْرَض عنه ويغلطون في جزمهم به إذا تفوهوا بذلك ، وتوضؤ الإنسان وتهيؤه هو تصديق وهو مخطىء وغلطان .

وقول أهل الفلك في سبب الكسوف والخسوف لا ينافي كون ذلك تخويفا ، ليس من شرط التخويف ألا يكون له سبب ، فإن الله كون العالم على هذا الشكل الذي يوجد فيه كسوف ، ولو شاء لكونه على خلاف ذلك .ا.هـ.

4 – الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - :
قال الشيخ ابن عثيمين في " الشرح الممتع " في الجزء الخامس عند بداية كلامه عن أحكام الكسوف :
لكن هناك سبب شرعي لا يُعلم إلا عن طريق الوحي ، ويجهله أكثر الفلكيين ومن سار على منهاجهم .

والسبب الشرعي هو تخويف الله لعباده ، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما يخوف الله بهما عباده " ؛ ولهذا أمرنا بالصلاة والدعاء والذكر وغير ذلك كما سيأتي إن شاء الله .

فهذا السبب الشرعي هو الذي يفيد العباد ؛ ليرجعوا إلى الله ، أما السبب الحسي فليس ذا فائدة كبيرة ، ولهذا لم يبينه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولو كان فيه فائدة كبيرة للناس لبيّنه عن طريق الوحي ؛ لأن الله يعلم سبب الكسوف الحسي ، ولكن لا حاجة لنا به ، ومثل هذه الأمور الحسية يكل الله أمر معرفتها إلى الناس ، وإلى تجاربهم حتى يدركوا ما أودع الله في هذا الكون من الآيات الباهرة بأنفسهم .

أما الأسباب الشرعية ، أو الأمور الشرعية التي لا يمكن أن تدركها العقول ولا الحواس ، فهي التي يبيّنها الله للعباد .

فإن قال قائل : كيف يجتمع السبب الحسي والشرعي ، ويكون الحسي معلوماً معروفاً للناس قبل أن يقع ، والشرعي معلوم بطريق الوحي ، فكيف يمكن أن نجمع بينهما ؟
فالجواب : أن لا تنافي بينهما ؛ لأن الأمور العظيمة كالخسف بالأرض ، والزلازل ، والصواعق ، وشبهها التي يحس الناس بضررها ، وأنها عقوبة ، لها أسباب طبيعية ، يقدرها الله حتى تكون المسببات ، وتكون الحكمة من ذلك هي تخويف العباد ، فالزلازل لها أسباب ، والصواعق لها أسباب ، والبراكين لها أسباب ، والعواصف لها أسباب ، لكن يقدر الله هذه الأسباب من أجل استقامة الناس على دين الله. قال تعالى : " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ " [ الروم :41 ] ، ولكن تضيق قلوب كثير من الناس عن الجمع بين السبب الحسي والسبب الشرعي ، وأكثر الناس أصحاب ظواهر لا يعتبرون إلا بالشيء الظاهر ، ولهذا تجد الكسوف والخسوف لما علم الناس أسبابهما الحسية ضعف أمرهما في قلوب الناس حتى كأنه صار أمراً عادياً ، ونحن نذكر قبل أن نعلم بهذه الأمور أنه إذا حصل الكسوف رعب الناس رعباً شديداً ، وصاروا يبكون بكاءً شديداً ، ويذهبون إلى المساجد خائفين مذعورين ، كما وقع ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام لما كسفت الشمس أول مرة في عهده وكان ذلك بعد أن ارتفعت بمقدار رمح بعد طلوعها وأظلمت الدنيا ، ففزع الناس ، وفزع النبي عليه الصلاة والسلام فزعاً عظيماً حتى إنه أدرك بردائه ، أي : من شدة فزعه قام بالإزار قاصداً المسجد حتى تبعوه بالرداء، فارتدى به ، وجعل يجره ، أي : لم يستقر ليوازن الرداء من شدة فزعه ، وأمر أن ينادى الصلاة جامعة ؛ من أجل أن يجتمع الناس كلهم . فاجتمعت الأمة من رجال ونساء، وصلى بهم النبي عليه الصلاة والسلام صلاة لا نظير لها؛ لأنها لآية لا نظير لها .

آية شرعية لآية كونية، أطال فيها إطالة عظيمة ، حتى إن بعض الصحابة - مع نشاطهم وقوتهم ورغبتهم في الخير - تعبوا تعباً شديداً من طول قيامه عليه الصلاة والسلام ، وركع ركوعاً طويلاً ، وكذلك السجود، فصلى صلاة عظيمة ، والناس يبكون يفزعون إلى الله ، وعرضت على النبي عليه الصلاة والسلام الجنة والنار في هذا المقام ، يقول : " فلم أرَ يوماً قط أفظع من هذا اليوم " ؛ حيث عرضت النار عليه حتى صارت قريبة فتنحى عنها ، أي : رجع القهقهرى خوفاً من لفحها ، سبحان الله ! فالأمر عظيم ! أمر الكسوف ليس بالأمر الهين ، كما يتصوره الناس اليوم ، وكما يصوره أعداء المسلمين حتى تبقى قلوب المسلمين كالحجارة، أو أشد قسوة والعياذ بالله .

يكسف القمر أو الشمس والناس في دنياهم ، فالأغاني تسمع ، وكل شيء على ما هو عليه لا تجد إلا الشباب المقبل على دين الله أو بعض الشيوخ والعجائز ، وإلا فالناس سادرون لاهون ، ولهذا لا يتعظ الناس بهذا الكسوف لا بالشمس ولا بالقمر مع أنه أمر هام ، ويجب الاهتمام به .

مسألة : هل من الأفضل أن يخبر الناس به قبل أن يقع ؟
الجواب: لا شك أن إتيانه بغتة أشد وقعاً في النفوس ، وإذا تحدث الناس عنه قبل وقوعه ، وتروضت النفوس له ، واستعدت له صار كأنه أمر طبيعي ، كأنها صلاة عيد يجتمع الناس لها.

ولهذا لا تجد في الإخبار به فائدة إطلاقاً بل هو إلى المضرة أقرب منه إلى الفائدة .

ولو قال قائل : ألا نخبر الناس ليستعدوا لهذا الشيء ؟
فالجواب : نقول : لا تتمنوا لقاء العدو ، واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، بل إذا وقع ورأيناه بأعيننا فحينئذٍ نفعل ما أمرنا به .

مسألة : إذا قال الفلكيون : إنه سيقع كسوف أو خسوف فلا نصلي حتى نراه رؤية عادية ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " إذا رأيتم ذلك فصلوا " ، أما إذا منّ الله علينا بأن صار لا يرى في بلدنا إلا بمكبر أو نظارات فلا نصلي .ا.هـ.

وسئل رحمه في " مجموع فتاويه (16/298 – 300) ما نصه :
1393 - الكسوف والخسوف آية من آيات الله تعالى لتخويف العباد ، وتذكيرهم بالله ـ عز وجل ـ كي يجتنبوا المعاصي التي يقعون فيها ليلاً ونهاراً ، وقد أصبح علماء الفلك يقولون : بأنها حادثة طبيعية تحصل في السنة مرة ، أو أكثر من مرة بطريقة معينة ، فكيف يكون التخويف ؟
وأصبحوا أيضاً يعلنون عنها سواء في الصحف أو غيرها ، فإذا حدثت أصبح الناس لا يخافون ولا يتعظون وأصبح لديهم تبلد في الحس فما قولكم في هذا ؟ وكيف يكون التخويف في هذه الآية ؟

فأجاب فضيلته بقوله : يكون التخويف في هذه الآية لمن كمل إيمانه بالله ـ عز وجل ـ وبما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .

والكسوف ، أو الخسوف له سببان :
سبب طبيعي : يدرك بالحس والحساب، فهذا يعلم لأهل الحساب ويعرفونه ويقدرون ذلك بالدقيقة .

وسبب شرعي : لا يعلم إلا بطريق الوحي ، وهو أن الله يُقدر هذا الشيء تخويفاً للعباد ، فنسأل من الذي قدر السبب الطبيعي حتى حصل الكسوف ، أو الخسوف ؟ إنه الله . لماذا ؟ ليخاف الناس ويحذروا ، ولهذا خرج النبي عليه الصلاة والسلام حين رأى الشمس كاسفة ، خرج فزعاً حتى لحق بردائه وجعل يجره ، وفزع الناس، وأمر من ينادي بالصلاة جامعة ، واجتمع المسلمون في مسجد واحد يدعون الله ـ عز وجل ـ ويفزعون إليه ، فالمؤمن حقًّا يفزع، ومن تبلد ذهنه ، أو ضعف إيمانه فإنه لا يهتم بهذا الشيء .

وأما إخبار الناس بها قبل حدوثها ، فأنا أرى أنه لا ينبغي أن يخبروا بها ، لأنهم إذا أخبروا بها استعدوا لها وكأنها صلاة رغبة ، كأنهم يستعدون لصلاة العيد ، وصارت تأتيهم على استعداد للفعل لا على تخوف، لكن إذا حدثت فجأة ، حصل من الرهبة والخوف ما لا يحصل لمن كان عالماً .

وأضرب مثلاً بأمر محسوس . لو نزلت من عتبة وأنت مستعد متأهب وتعرف أن تحتك عتبة هل تتأثر بشيء ؟ لكن لو كنت غافلاً لا تدري ، ثم وقعت في العتبة صار لها أثر في قلبك وأثر عليك .

فلهذا أتمنى أن لا تذكر ولا تنشر بين الناس ، حتى لو نشرت في الصحف لا تنشرها بين الناس ، دع الناس حتى يأتيهم الأمر وهم غير مستعدين له وغير متأهبين له ، ليكون ذلك أوقع في النفوس .ا.هـ.

وسئل أيضا (16/303) :
1395 - هل الأولى الإخبار بموعد الكسوف حتى يستعد الناس ؟
فأجاب فضيلته بقوله : الأولى فيما أرى عدم الإخبار ، لأن إتيان الكسوف بغتة أشد وقعاً في النفوس ، ولهذا نجد أن الناس لما علموا الأسباب الحسية للكسوف ، وعلموا به قبل وقوعه ، ضعف أمره في قلوب الناس ، ولهذا كان الناس قبل العلم بهذه الأمور ، إذا حصل كسوف خافوا خوفاً شديداً ، وبكوا وانطلقوا إلى المساجد خائفين وجلين ، والله المستعان .ا.هـ.

ومن كان لديه إضافة لبعض كلام أهل العلم عن هذه المسألة أكون له من الشاكرين .

 

عَبْد اللَّه زُقَيْل
  • مسائل في العقيدة
  • مسائل فقهية
  • فوائد في الحديث
  • فوائد في التفسير
  • فوائد في التاريخ
  • فـتـاوى
  • مشاركات صحفية
  • تـراجــم
  • متفرقات
  • كتب تحت المجهر
  • دروس صوتية
  • الصفحة الرئيسية