بسم الله الرحمن الرحيم

تَطَاولُ الْأَقْزامِ عَلَى الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ


الحَمْدُ للهِ وَبَعْدُ ،

كَتَبَ المَدْعُو خَالِدٌ الغنامي مَقَالاً فِي جريدةِ " الوَثَنِ " عَنْوَنَ لَهُ : " تتبع الرخص ... هل صحيح من تتبع الرخص تزندق " ، وَكَعَادتِهِ جَاءَ فِيهِ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ اعتِمَادٌ ، وَلا لَهُ عِمَادٌ ، بَل مِنْ شِدَّةِ كَذِبِهِ أَنَّهُ جَعَلَ مَسْأَلَةَ تَتَبُّعِ الرُّخَصَ مَوْضُوْعاً حَسَّاساً فِي نَجدٍ ، وَ لاَ أَدْرِي مَا السِّرُّ فِي الهُجُومِ وَ الكَذِبِ عَلَى أَهلِ نَجْدٍ ؟!

وهذا دليلٌ واضحٌ على جهلِهِ بمثلِ هذهِ المسائلِ التي لا يخلو منها كتابٌ من كتبِ أصولِ الفقهِ أو كتبِ الأشباهِ والنظائرِ لجميعِ المذاهبِ الإسلاميةِ المعتبرةِ ، إلى جانب المؤلفاتِ الكثيرةِ التي سُطرت بخصوصِ تتبعِ الرخصِ .

وأما كاتبُ المقالِ فقد وجد سوقاً رائجةً لأفكاره في جريدةٍ تنشرُ لمثلِ أفكارهِ ، وَالتي تدلُ دلالةً واضحةً لمن أنار الله بصيرتهُ بالعلمِ أنه صاحبُ هوى ولا شك ولا ريب ، بل وترحبُ بمقالاتهِ لأنها معولُ هدمٍ عن طريق المسمى الغنامي ، ولكن إذا أغلقت الأبوابُ لأهلِ الردِّ على مثلِ هذهِ الأفكارِ فإن اللهَ يفتحُ لهم أبواباً أخرى لدحضِها وبيان عوارها - وللهِ الحمدُ والمنةُ - ومنها الشبكةُ العنكبوتيةُ .

مُقَدَّمَةِ :
يَصْدُقُ في مثلِ الغنامي قولُ القائلِ: " ولا يزالُ أمرُ الأمةِ في انحدارٍ وسفالٍ حتى ظهر الرويبضةُ التافهُ يتكلمُ في أمورِ العامةِ ، واندثر عصرُ المفتين ، وجاء عصرُ المفتونين ، وذهب زمنُ العلماءِ وجاء زمنُ المثقفين ؛ بل وأنصاف المثقفين ! وصار يفتي من ليس بِفتِي ، وأصبحت مسائلُ الشرعِ وأحكامُ الملةِ كالكلأِ ترتعُ فيه كلُ سائمةٍ ، وحتى مصنفاتُ الأئمةِ ودواوينُ الإسلامِ لم تسلم من عبثِ الأقزامِ ؛ بل من ذا الذي لم يعد يفهمِ الدين أصولاً وفروعاً في هذا الزمان ؟!

أليست المدارسُ ، قد انتشرت والكتب الشرعية قد طبعت ؟!

إذن لماذا الكبتُ على حرياتِ الناسِ ، وتكميم الأفواه عن الكلامِ في الشريعةِ ؟!

لماذا التسلط على عقولِ الآخرين والحجرِ على أفكارهم ؟!

وهل هذه إلا رهبنةٌ ، ولا رهبانيةٌ في الإسلامِ !! " اللهم إنا نشكو إليك هذا الغثاء " .

وما نراه اليوم في الفضائياتِ من فضائح على هيئةِ نصائح ، ومواقف مخزية وفتاوى مردية ، وأقوال مخجلة ، وآراء مجلجلة ، " مبنية على التجري لا التحري ، تعنت الخلق ، و تشجي الحلق ، من قبل مفتي الجمهور ، و العالم الهامور ، الذي يفتي في وقت أضيق من بياض الميم ، أو من صدر اللئيم ، بما يتوقف فيه شيوخ الإسلام ، وأئمته الأعلام " .ا.هـ.

وهذه حقيقةٌ يلمسها من عايش الاختلافَ بين فترةِ حياةِ العلماءِ في بلادنا وبعد موتهم من أمثالِ سماحةِ الوالدِ عبدِ العزيزِ بنِ بازٍ رحمهُ الله ، ومحمدِ بنِ صالحٍ العثيمين رحمهُ اللهُ ، فبعد موتهم رحمهم الله أجمعين رفع أهلُ الأهواءِ والبدعِ والمنافقين عقيرتهم ، وقاموا يضربون المتبعين للكتابِ والسنةِ على فهمِ سلفِ الأمة عن قوسٍ واحدٍ ، ولكن نعلمُ يقيناً أن دينَ اللهِ باقٍ ، نسألُ اللهَ أن يرد كيدهم في نحورهم .

عِبَارَاتٌ لِلسَّلَفِ عَنْ خُطُورَةِ تَتَبُّعِ الرُّخَصَ :

تعالوا بنا نستعرضُ نصوصاً عن موضوعِ تتبعِ الرخصِ والتي عدها المدعو الغنامي بزعمه " مقولة من المقولات الشائعة " ، وكيف أن هذا الموضوعَ شغل سلف الأمةَ والعلماءَ العاملين ؟ الذين حذروا الأمةَ من الوقوعِ في منزلق تتبعِ الرخصِ .

وأبدأُ بقصةٍ ذكرها الإمامُ البيهقي في " سننه " (10/211) بسندهِ ، والذهبي في " السيرِ " (13/465) لعالمٍ حكم على صاحبِ كتابٍ بأنهُ زنديقٌ ، وماسبب ذلك ، أترككم مع القصةِ .

رَوَى أَبُو العَبَّاسِ بن سُرَيْج ، عَنْ إِسْمَاعِيْلَ القَاضِي ، قَالَ : وَدَخَلْتُ مرَّةً ، فَدَفَعَ إِليَّ كِتَاباً ، فنظرتُ فِيْهِ ، فَإِذَا قَدْ جَمَعَ لَهُ فِيْهِ الرُّخَص مِنْ زلل العُلَمَاء ، فَقُلْتُ : مُصَنِّفُ هَذَا زِنْدِيْقٌ . فَقَالَ : أَلم تَصِحَّ هَذِهِ الأَحَادِيْث ؟ قُلْتُ : بَلَى ، وَلَكِنْ مَنْ أَبَاحَ المُسْكر لَمْ يُبح المُتْعَة ، وَمَنْ أَبَاحَ المُتْعَة لَمْ يُبِحِ الغِنَاء ، وَمَا مِنْ عَالِمٍ إِلاَّ وَلَهُ زَلَّة ، وَمن أَخَذَ بِكُلِّ زَلَل العُلَمَاء ذهبَ دِينُه . فَأَمَرَ بِالكِتَابِ فَأُحْرِق .

اللهُ أكبرُ ؛ هل إِسْمَاعِيْلُ القَاضِي مِنْ نجدٍ ؟! هل كان ضيقَ الأفقِ ؟! هل كان متعصباً للمذهبِ ؟!

وهذا نصٌ آخر لعالمٍ إمامٍ جهبذٍ ليس من نجدٍ بل من بلادِ الشامِ ، قال عنهُ الذهبي في " السير " (7/108) : " شَيْخُ الإِسْلاَمِ ، وَعَالِمُ أَهْلِ الشَّامِ ، أَبُو عَمْرٍو الأَوْزَاعِيُّ ، انظروا ماذا قال في حق من تتبع الرخص !

قال الذهبي في " السير " (7/126) : " قَالَ مُحَمَّدُ بنُ شُعَيْبٍ : سَمِعْتُ الأَوْزَاعِيَّ يَقُوْلُ : " مَنْ أَخَذَ بِنوَادِرِ العُلَمَاءِ ، خَرَجَ مِنَ الإِسْلاَمِ " .ا.هـ.

وهذا إمامٌ ثالثٌ يقررُ خطورةَ تتبعِ الرخصِ ليس من نجدٍ أيضاً ، نعتهُ الإمامُ الذهبي في " السيرِ " (6/197) : " الإِمَامُ ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ ، أَبُو المُعْتَمِرِ التَّيْمِيُّ ، البَصْرِيُّ " .

قال الإمامُ الذهبي (6/199) : " قَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ : لَوْ أَخَذتَ بِرُخصَةِ كُلِّ عَالِمٍ ، اجْتَمَعَ فِيْكَ الشَّرُّ كُلُّهُ " .ا.هـ.

وقال إبراهيمُ بنُ أبي عبلةَ : " مَنْ تَبَعَ شَواذَّ العُلَمَاءِ ضَل " .

فهل هذه مقولةٌ شائعةٌ يا الغنامي ؟! وهل هي لأهلِ نجدٍ يا العزيزي ؟!

الإمامُ ابنُ عبدِ البرِ حكى الإجماعَ على تحريمِ تتبعِ الرخص في " جامعِ بيانِ العلمِ " (2/91) فقالَ : " لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ تَتَبُّعُ الرُّخَصِ إجْمَاعًا " .ا.هـ.

فهل ابنُ عبدِ البرِ نجدي ؟

وقال الإمامُ النووي في " فتاويه " التي جمعها العلامةُ علاءُ الدينِ العطار : " لا يجوزُ تتبعُ الرخصِ ، واللهُ أعلمُ " .

هل النوويُّ نَجْديٌّ أيضاً ؟

وبعد هذه النقولِ ظهر من مقالك يا الغنامي أنك تريد أن تصلَ إلى أمرٍ لبست فيه ودلست على القراءِ وهو قولك : " فإنه يكون بذلك قد أصبح زنديقاً أي كافراً " .

أقول : ألا تخافُ من اللهِ ، تريد أن توهمَ القراءَ بهذهِ العبارةِ أن أئمةَ أهلِ السنةِ ممن ذكروا آنفاً يكفرون الخلقَ بسببِ تتبعِ الرخص !!! سبحانك هذا بهتانٌ عظيمٌ .

لماذا هذا التدليسُ على الناسِ ؟ هل تعرفُ ما المقصودُ بالزندقةِ في أقوالِ الأئمةِ ؟

وسأنقلُ لك من كلامِ الأئمةِ والعلماءِ ماذا يقصدونَ بالزندقةِ في تتبعِ الرخص ؟

اللهم أرنا الحقَ حقاً وارزقنا اتباعه ، وارنا الباطلَ باطلاً وارزقنا اجتنابهُ . آمين .


الحَمْدُ للهِ وَبَعْدُ ،

أَبْدَأُ بِالرَّدِّ عَلَى السُّؤَالِ المَطْروحِ : " مَاذَا يَقْصِدُ العُلَمَاءُ بِالزَّنْدَقَةِ عِندْ كَلامِهِمْ عَنْ تَتَبَّعِ الرُّخَصِ ؟ " .

وَقَبْلَ الإِجَابَةِ عَلَى السُّؤَالِ ، أَنْقُلُ مِنْ " سِيَرِ أَعْلاَمِ النُّبَلاَءِ " (18/190 - 193) لِلإِمَامِ الذَّهَبِيِّ قِصَّةً وَتَعْلِيْقاً لِلذَّهَبِيِّ عَلَيْهَا عِندْ تَرْجَمَةِ الإِمَامِ ابنِ حَزْمٍ ، وَهُو وَتَعْلِيْقٌ نَفِيْسٌ ، نَحْتَاجُه لِيَعْلَمَ الوَاحِدُ مِنَّا قَدْرَ نَفْسِهِ أَمَامَ هَؤُلاَءِ الأَعْلاَمِ .

قَالَ الذَّهَبِيُّ : وَحَدَّثَنِي عَنْهُ عُمَرُ بنُ وَاجِب قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْد أَبِي بِبَلَنْسِيةَ وَهُوَ يُدَرِّسُ المَذْهَب ، إِذَا بِأَبِي مُحَمَّدٍ بن حَزْم يَسْمَعُنَا ، وَيَتَعَجَّب ، ثُمَّ سَأَلَ الحَاضِرِيْنَ مَسْأَلَةً مِنَ الفِقْهِ ، جُووب فِيْهَا ، فَاعْترَض فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الحُضَّار : هَذَا العِلْمُ لَيْسَ مِنْ مُنْتَحَلاَتِكَ ، فَقَامَ وَقَعَدَ ، وَدَخَلَ مَنْزِله فَعكَف ، وَوَكَفَ مِنْهُ وَابِلٌ فَمَا كَفَّ ، وَمَا كَانَ بَعْدَ أَشْهُرٍ قَرِيْبَة حَتَّى قَصَدْنَا إِلَى ذَلِكَ المَوْضِع، فَنَاظر أَحْسَن منَاظرَة ، وَقَالَ فِيْهَا : أَنَا أَتبع الحَقَّ ، وَأَجتهد ، وَلاَ أَتَقَيَّدُ بِمَذْهَب .

قُلْتُ - الذَّهَبِيُّ - : نَعم ، مَنْ بَلَغَ رُتْبَة الاجْتِهَاد ، وَشَهِد لَهُ بِذَلِكَ عِدَّة مِنَ الأَئِمَّةِ ، لَمْ يَسُغْ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ ، كَمَا أَنَّ الفَقِيْه المُبتدئ وَالعَامِي الَّذِي يَحفظ القُرْآن أَوْ كَثِيْراً مِنْهُ لاَ يَسوَغُ لَهُ الاجْتِهَاد أَبَداً ، فَكَيْفَ يَجْتَهِدُ ، وَمَا الَّذِي يَقُوْلُ ؟ وَعلاَم يَبنِي ؟ وَكَيْفَ يَطيرُ وَلَمَّا يُرَيِّش ؟

وَالقِسم الثَّالِث : الفَقِيْهُ المنتهِي اليَقظ الفَهِم المُحَدِّث ، الَّذِي قَدْ حَفِظ مُخْتَصَراً فِي الفروع ، وَكِتَاباً فِي قوَاعد الأُصُوْل ، وَقرَأَ النَّحْو ، وَشَاركَ فِي الفضَائِل مَعَ حِفْظِهِ لِكِتَابِ اللهِ وَتشَاغله بتَفْسِيْره وَقوَةِ مُنَاظرتِهِ ، فَهَذِهِ رُتْبَة مِنْ بلغَ الاجْتِهَاد المُقيَّد ، وَتَأَهَّل لِلنظر فِي دلاَئِل الأَئِمَّة ، فَمتَى وَضحَ لَهُ الحَقُّ فِي مَسْأَلَة ، وَثبت فِيْهَا النَّصّ ، وَعَمِلَ بِهَا أَحَدُ الأَئِمَّةِ الأَعْلاَمِ كَأَبِي حَنِيْفَةَ مِثْلاً ، أَوْ كَمَالِك ، أَوِ الثَّوْرِيِّ ، أَوِ الأَوْزَاعِيِّ ، أَوِ الشَّافِعِيِّ ، وَأَبِي عُبَيْدٍ ، وَأَحْمَدَ ، وَإِسْحَاق ، فَلْيَتَّبع فِيْهَا الحَقّ وَلاَ يَسْلُكِ الرّخصَ ، وَلِيَتَوَرَّع ، وَلاَ يَسَعُه فِيْهَا بَعْدَ قيَام الحُجَّة عَلَيْهِ تَقليدٌ .

فَإِن خَاف مِمَّنْ يُشَغِّب عَلَيْهِ مِنَ الفُقَهَاء فَلْيَتَكَتَّم بِهَا وَلاَ يَترَاءى بِفعلهَا ، فَرُبَّمَا أَعْجَبته نَفْسُهُ ، وَأَحَبّ الظُهُوْر ، فَيُعَاقب ، وَيَدخل عَلَيْهِ الدَّاخلُ مِنْ نَفْسِهِ ، فَكم مِنْ رَجُلٍ نَطَقَ بِالْحَقِّ ، وَأَمر بِالمَعْرُوف ، فَيُسَلِّطُ اللهُ عَلَيْهِ مَنْ يُؤذِيْه لِسوء قَصدهِ ، وَحُبِّهِ لِلرِّئَاسَة الدِّينِيَّة ، فَهَذَا دَاءٌ خَفِيٌّ سَارٍ فِي نُفُوْسِ الفُقَهَاء ، كَمَا أَنَّهُ دَاءٌ سَارٍ فِي نُفُوْسِ المُنْفِقِين مِنَ الأَغنِيَاء وَأَربَاب الوُقُوْف وَالتُّرب المُزَخْرَفَة ، وَهُوَ دَاءٌ خفِيٌّ يَسرِي فِي نُفُوْس الجُنْد وَالأُمَرَاء وَالمُجَاهِدِيْنَ ، فَترَاهم يَلتقُوْنَ العَدُوَّ ، وَيَصْطَدِمُ الجمعَان وَفِي نُفُوْس المُجَاهِدِيْنَ مُخَبّآتُ وَكمَائِنُ مِنَ الاختيَالِ وَإِظهَار الشَّجَاعَةِ ليُقَالَ ، وَالعجبِ ، وَلُبْسِ القرَاقل المُذَهَّبَة ، وَالخُوذ المزخرفَة ، وَالعُدد المُحلاَّة عَلَى نُفُوْس مُتكبّرَةٍ ، وَفُرْسَان مُتجبِّرَة ، وَيَنضَافُ إِلَى ذَلِكَ إِخلاَلٌ بِالصَّلاَةِ ، وَظُلمٌ لِلرَّعيَّةِ ، وَشُربٌ لِلمسكرِ ، فَأَنَّى يُنْصرُوْن ؟ وَكَيْفَ لاَ يُخذلُوْن ؟ اللَّهُمَّ : فَانصر دينَك ، وَوَفِّق عِبَادك .

فَمَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِلعمل كسره العِلْمُ ، وَبَكَى عَلَى نَفْسِهِ ، وَمِنْ طلب العِلْم لِلمدَارس وَالإِفتَاء وَالفخر وَالرِّيَاء ، تحَامقَ ، وَاختَالَ ، وَازدرَى بِالنَّاسِ ، وَأَهْلكه العُجْبُ ، وَمَقَتَتْهُ الأَنْفُس : " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا " [ الشَّمْس : 9 - 10 ] أَي دسَّسَهَا بِالفجُور وَالمَعْصِيَةِ . قُلِبَتْ فِيْهِ السِّينُ أَلِفاً " ا.هـ.

أَرْجُو أَنْ يَتَأَمَّلَ كُلٌ مِنَّا تَعلِيقَ الذَّهَبِيِّ ، وَيُطَبّقَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَاللهُ المُسْتَعَانُ .

وَنَأْتِي عَلَى المَقْصُوْدِ مِنْ البَحثِ .

لَقَدْ أَوْضَحَ الإِمَامُ ابنُ القَيِّمِ فِي " إِعلاَمِ المُوقِعِينَ " (4/185) فِي مَعْرِضِ كَلاَمِهِ عَنِ الحِيَلِ الحَكَمَ عَلَى مَنْ تَتَبُّع الرُّخَصَ فَقَالَ : " وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ وَالْإِفْتَاءُ فِي دِينِ اللَّهِ بِالتَّشَهِّي وَالتَّخَيُّرِ وَمُوَافَقَةِ الْغَرَضِ فَيَطْلُبُ الْقَوْلَ الَّذِي يُوَافِقُ غَرَضَهُ وَغَرَضَ مِنْ يُحَابِيهِ فَيَعْمَلُ بِهِ ، وَيُفْتِي بِهِ ، وَيَحْكُمُ بِهِ ، وَيَحْكُمُ عَلَى عَدُوِّهِ وَيُفْتِيهِ بِضِدِّهِ ، وَهَذَا مِنْ أَفْسَقِ الْفُسُوقِ وَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ، وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ " .ا.هـ.

وَقَالَ أَيْضاً (4/195) : " لَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي تَتَبُّعُ الْحِيَلِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْمَكْرُوهَةِ ، وَلَا تَتَبُّعُ الرُّخَصِ لِمَنْ أَرَادَ نَفْعَهُ ، فَإِنْ تَتَبَّعَ ذَلِكَ فَسَقَ ، وَحَرُمَ اسْتِفْتَاؤُهُ ، فَإِنْ حَسُنَ قَصْدُهُ فِي حِيلَةٍ جَائِزَةٍ لَا شُبْهَةَ فِيهَا وَلَا مَفْسَدَةَ لِتَخْلِيصِ الْمُسْتَفْتِي بِهَا مِنْ حَرَجٍ جَازَ ذَلِكَ ، بَلْ اُسْتُحِبَّ ، وَقَدْ أَرْشَدَ اللَّهُ - تَعَالَى - نَبِيَّهُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى التَّخَلُّصِ مِنْ الْحِنْثِ بِأَنْ يَأْخُذَ بِيَدِهِ ضِغْثًا فَيَضْرِبَ بِهِ الْمَرْأَةَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً .

وَأَرْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا إلَى بَيْعِ التَّمْرِ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ يَشْتَرِي بِالدَّرَاهِمِ تَمْرًا آخَرَ فَيَتَخَلَّصُ مِنْ الرِّبَا فَأَحْسَنُ الْمَخَارِجِ مَا خَلَّصَ مِنْ الْمَآثِمِ ، وَأَقْبَحُ الْحِيَلِ مَا أَوْقَعَ فِي الْمَحَارِمِ ، أَوْ أَسْقَطَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْحَقِّ اللَّازِمِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ النَّوْعَيْنِ مَا لَعَلَّكَ لَا تَظْفَرُ بِجُمْلَتِهِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ " .ا.هـ.

فَالإِمَامُ ابنُ القَيِّمِ حَكَمَ عَلَى مَنْ تَتَبُّع الرُّخَصَ فَقَالَ : " وَهَذَا مِنْ أَفْسَقِ الْفُسُوقِ وَأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ " ، وَقَالَ : " فَإِنْ تَتَبَّعَ ذَلِكَ فَسَقَ " ، فَلَم يَحْكُمْ بِكُفْرِهِ كَمَا زَعَمَ الغناميُّ وَأَيَّدَهُ العزيزي - هَدَاهُمَا اللهُ - .

وَقَالَ الْفَتُوحِيُّ عَالِمُ مِصْرَ الشَّهِيرُ بِابْنِ النَّجَّارِ فِي " شرحِ الْكَوْكَبِ الْمُنِيرِ " (4/577) : " ( وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ ) أَيْ : عَلَى الْعَامِّيِّ ( تَتَبُّعُ الرُّخَصِ ) وَهُوَ أَنَّهُ كُلَّمَا وَجَدَ رُخْصَةً فِي مَذْهَبٍ عَمِلَ بِهَا ، وَلَا يَعْمَلُ بِغَيْرِهَا فِي ذَلِكَ الْمَذْهَبِ ( وَيَفْسُقُ بِهِ ) أَيْ : بِتَتَبُّعِ الرُّخَصِ .

لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِإِبَاحَةِ جَمِيعِ الرُّخَصِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ : فَإِنَّ الْقَائِلَ بِالرُّخْصَةِ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ لَا يَقُولُ بِالرُّخْصَةِ الْأُخْرَى الَّتِي فِي غَيْرِهِ .

قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : لَا يَجُوزُ لِلْعَامِّيِّ تَتَبُّعُ الرُّخَصِ إجْمَاعًا ، وَمِمَّا يُحْكَى : أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ تَتَبَّعَ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ . وَجَمَعَهَا فِي كِتَابٍ ، وَذَهَبَ بِهِ إلَى بَعْضِ الْخُلَفَاءِ ، فَعَرَضَهُ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْأَعْيَانِ ، فَلَمَّا رَآهَا قَالَ " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، هَذِهِ زَنْدَقَةٌ فِي الدِّينِ ، وَلَا يَقُولُ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ " .ا.هـ.

وَأَختِمُ بِكَلاَمٍ لشَيْخِ الإِسْلاَمِ ابْنِ تَيْمِيَةَ - رَحِمَهُ اللهُ - فِي " مَجْمُوْعِ الفَتَاوَى " (20/220 - 221) يَقُوْلُ : " أَنَّ مَنْ الْتَزَمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا ثُمَّ فَعَلَ خِلَافَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ لِعَالِمِ آخَرَ أَفْتَاهُ ؛ وَلَا اسْتِدْلَالَ بِدَلِيلِ يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ وَمِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ يُبِيحُ لَهُ مَا فَعَلَهُ ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ وَعَامِلًا بِغَيْرِ اجْتِهَادٍ وَلَا تَقْلِيدٍ فَاعِلًا لِلْمُحَرَّمِ بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ فَهَذَا مُنْكَرٌ .

وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ نَجْمُ الدِّينِ وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَعْتَقِدَ الشَّيْءَ وَاجِبًا أَوْ حَرَامًا ثُمَّ يَعْتَقِدَهُ غَيْرَ وَاجِبٍ وَلَا حَرَامٍ بِمُجَرَّدِ هَوَاهُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ طَالِبًا لِشُفْعَةِ الْجِوَارِ فَيَعْتَقِدَهَا أَنَّهَا حَقٌّ لَهُ ثُمَّ إذَا طَلَبْت مِنْهُ شُفْعَةَ الْجِوَارِ اعْتَقَدَهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ ثَابِتَةً أَوْ مِثْلَ مَنْ يَعْتَقِدُ إذَا كَانَ أَخًا مَعَ جَدٍّ أَنَّ الْإِخْوَةَ تُقَاسِمُ الْجَدَّ فَإِذَا صَارَ جَدًّا مَعَ أَخ اعْتَقَدَ أَنَّ الْجَدَّ لَا يُقَاسِمُ الْإِخْوَةَ أَوْ إذَا كَانَ لَهُ عَدُوٌّ يَفْعَلُ بَعْضَ الْأُمُورِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا كَشُرْبِ النَّبِيذِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَلِعْبِ الشِّطْرَنْجِ وَحُضُورِ السَّمَاعِ أَنَّ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُهْجَرَ وَيُنْكَرَ عَلَيْهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ صَدِيقُهُ اعْتَقَدَ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَا تُنْكَرُ فَمِثْلُ هَذَا مُمْكِنٌ فِي اعْتِقَادِهِ حِلُّ الشَّيْءِ وَحُرْمَتُهُ وَوُجُوبُهُ وَسُقُوطُهُ بِحَسَبِ هَوَاهُ هُوَ مَذْمُومٌ بِخُرُوجِهِ خَارِجٌ عَنْ الْعَدَالَةِ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَد وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ .

وَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ لَهُ مَا يُوجِبُ رُجْحَانَ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ إمَّا بِالْأَدِلَّةِ الْمُفَصَّلَةِ إنْ كَانَ يَعْرِفُهَا وَيَفْهَمُهَا وَإِمَّا بِأَنْ يَرَى أَحَدَ رَجُلَيْنِ أَعْلَمَ بِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْآخَرِ وَهُوَ أَتْقَى لِلَّهِ فِيمَا يَقُولُهُ فَيَرْجِعُ عَنْ قَوْلٍ إلَى قَوْلٍ لِمِثْلِ هَذَا فَهَذَا يَجُوزُ بَلْ يَجِبُ وَقَدْ نَصَّ الْإِمَامُ أَحْمَد عَلَى ذَلِكَ " .ا.هـ.

وَفِي هَذَا القَدْرِ كِفَايَةٌ لِمَنْ طَلَبَ الحَقِّ وَأَرَادَهُ صَادِقاً ، مُخْلَصاً فِي ذَلِكَ ، وَاَمَا مَنْ أَرَادَ غَيْرِ ذَلِكَ نَسْأَلُ اللهَ لَهُ الهدَايَةَ .

أَرْجُو مِمَّنْ لَهُ يَدٌ طُولَى فِي الجَرِيْدَةِ الَّتِي نَشَرَتْ مَقَال الغنامي أَنْ يَنْقُلَ هَذَا الرَّدِّ ، وَيَكُونَ عنوَانُهُ :

تَطَاولُ الْأَقْزامِ عَلَى الْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ

كتبه
عَـبْـد الـلَّـه بن محمد زُقَـيْـل

الصفحة الرئيسة      |      صفحة الشيخ