الحمدُ للهِ وبعدُ ؛
شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ عالمٌ رباني شهد له الأعداءُ قبل الأصدقاءِ
بعلمه وعمله ، بحرٌ في العلمِ ... في الدعوةِ ... في الاحتسابِ ... أُلفت
في سيرتهِ المؤلفاتُ ، وحُققت كتبهُ في الجامعاتِ ، وخُصصت رسائل علمية في
فنونٍ مختلفةٍ من علومه ، ردَّ على الفلاسفةِ والمبتدعةِ واليهودِ والنصارى
، عاش في زمنٍ عزت فيه السنةُ ، وغلبتِ البدعةُ ، كان جبلاً شامخاً في
الاحتسابِ ، لا يخشى في اللهِ لومةَ لائمٍ ، شجاعٌ في أصعبِ المواقفِ
وأحلكِ الظروفِ ، كان اتصالهُ بالناسِ مباشراً ، متحسساً لمشكلاتهم ،
حريصاً عليهم ، لم يكن منقطعاً عنهم .
دعونا نأخذُ جانباً واحداً من جوانبِ حياةِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ -
رحمهُ اللهُ - وهو جانبُ الاحتسابِ ، ليتبين أننا لم نتجاوزِ الحدَّ في
الثناءِ عليه ، مع اعتقادنا الجازم أنه بشرٌ يقعُ منه الخطأ ، ولا ندعي
عصمتهُ ، ولكنهُ عالمٌ رباني بحقٍ ، كان يعيشُ بين الناسِ بعلمهِ وعملهِ ،
فرحمهُ اللهُ رحمةً واسعةً .
الصورةُ الأولى : كان شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةُ من أشدِّ الناسِ إنكاراً
على البدعِ التي تقعُ في مجتمعهِ ، وخاصةً ما يوقعُ الأمة في الشركِ ، فكان
يحتسبُ في إنكارها ، فمن حين سماعه بمنكرٍ ظاهرٍ يستخيرُ اللهَ ويخرج
للانكارِ ، وهكذا يكونُ العلماءُ في الأمةِ ، فما فائدةُ العالمِ إذا كان
لا يعيشُ هموم الأمةِ ؟!
جاء في '' الجامعِ لسيرةِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ خلال سبعة قرون '' ( ص
134 ) ، تحت فصلٍ فيما قام به ابنُ تيميةَ وتفرد به وذلك في تكسير الأحجارِ
لخادمِ شيخِ الإسلامِ إبراهيم بن أحمد الغياني ما نصه : '' فبلغ الشيخ أن
جميعَ ما ذكر من البدعِ يتعمدها الناسُ عند العمودِ المُخَلَّقِ الذي داخل
( البابِ الصغيرِ ) الذي عند ( دربِ النافدانيين ) . فشدَّ عليه وقام ،
واستخار اللهَ في الخروجِ إلى كسرهِ ، فحدثني أخوهُ الشيخُ الإمامُ القدوةُ
شرفُ الدينِ عبدُ اللهِ ابنُ تيميةَ قال : فخرجنا لكسرهِ فسمع الناسُ أن
الشيخَ يخرجُ لكسرِ العمودِ المُخَلَّقِ ؛ فاجتمع معنا خلقٌ كثيرٌ . قال :
فلما خرجنا نحوه ، وشاع في البلدانِ : ابنُ تيميةَ طالعٌ ليسكر العمودَ
المُخَلَّقَ ، صاح الشيطانُ في البلدِ ، وضجتِ الناسُ بأقوالٍ مختلفةٍ ،
هذا يقولُ : '' ما بقيت عينُ الفيجةِ تطلعُ '' ، وهذا يقولُ : '' ما ينزلُ
المطرُ ، ولا يثمرُ الشجرُ '' ، وهذا يقولُ : '' ما بقي ابنُ تيميةَ يفلحُ
بعد أن تعرّض لهذا '' ، وكل من يقولُ شيئاً غير هذا .
قال الشيخُ شرفُ الدينِ : فما وصلنا إلى عنده إلا وقد رجع عنا غالبُ الناسِ
، خشية أن ينالهم في أنفسهم آفةٌ من الآفاتِ ، أو ينقطعُ بسببِ كسرهِ بعضُ
الخيراتِ .
قال : فتقدمنا إليه ، وصحنا على الحجَّارين : '' دونكم هذا الصنم '' فما
جسر أحدٌ منهم يتقدمُ إليه . قال فأخذتُ أنا والشيخ المعاول منهم ، وضربنا
فيه ، وقلنا : '' جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ
كَانَ زَهُوقًا '' ] الإسراء : 81 . [ وقلنا : إن أصاب أحداً منه شيءٌ
نكونُ نحن فداهُ . وتابعنا الناسُ فيه بالضربِ حتى كسرناهُ ، فوجدنا خلفهُ
صنمين حجارة مجسَّدة مصوَّرة ، طول كل صنم نحو شبر ونصف .
وقال الشيخُ شرفُ الدين : قال الشيخُ النووي : '' اللهم أقم لدينك رجلاً
يكسر العمودَ المُخَلَّقَ ، ويخرب القبر الذي في جيرون '' فهذا من كراماتِ
الشيخِ محيى الدين ( أي النووي ) . فكسرناهُ ولله الحمدُ ، وما أصاب الناسُ
من ذلك إلا الخيرَ . والحمدُ للهِ وحدهُ '' .ا.هـ.
فالأمةُ بحاجةٍ لعلماء مثل شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ - رحمهُ اللهُ - في
الاحتسابِ على المنكراتِ الظاهرةِ ، والتي توقعُ الناس في الشركِ ،
والعالمُ الذي لا يتحركُ ولا يهتمُ بوقوعِ الأمةِ في الشركِ ، فمتى يتحركُ
؟!
ومع قصةٍ أخرى ...
رابط المقال فر جريدة المدينة ملحق الرسالة