الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم ...
تناقلت وسائلُ الإعلامِ خبر مقتل الفرنسيين ، ولستُ في مجال الخوض في
تفاصيلِ تلك الجريمةِ ، وهي جريمةٌ لا يقبلها شرعٌ ولا عقلٌ سوي ، قال
تعالى : " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ " [ الإسراء : 70 ] ، قال
الفخرُ الرازي عند تفسيرِ الآيةِ (21/12) : " فالنفسُ الإنسانيةُ أشرفُ
النفوسِ الموجودةِ في العالمِ السفلي ، وبدنهُ أشرفُ الأجسامِ الموجودةِ في
العالمِ السفلي " .ا.هـ.
وحفظ النفس إحدى الضروريات الخمس التي قال الله تعالى فيها : " وَلَا
تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ " [
الأنعام : 151 ] ، وقد قرر شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ حفظَ هذه الضروريةِ
في مواطن من كتبهِ رحمهُ اللهُ فقال في " الفتاوى " (10/164) : " فَلَا
بُدَّ إذَا ظَلَمَهُ ظَالِمٌ أَوْ ظَلَمَ النَّاسَ ظَالِمٌ وَسَعَى فِي
الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ وَأَخَذَ يَسْفِكُ دِمَاءَ النَّاسِ وَيَسْتَحِلُّ
الْفُرُوجَ وَيُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ
أَنْوَاعِ الضَّرَرِ الَّتِي لَا قِوَامَ لِلنَّاسِ بِهَا أَنْ يَدْفَعَ
هَذَا الْقَدَرَ ؛ وَأَنْ يُعَاقِبَ الظَّالِمَ بِمَا يَكُفُّ عُدْوَانَ
أَمْثَالِهِ " .ا.هـ.
وقال في " منهاج السنة " (6/192) : " أمرُ الدماءِ أعظمُ وأخطرُ من أمرِ
الأموالِ " .ا.هـ.
وقال في " اقضاء الصراط المستقيم " (1/225) : " الفسادُ إما في الدينِ ،
وإما في الدنيا ، فأعظمُ فسادِ الدنيا قتلُ النفوسِ بغيرِ الحقِ ، ولهذا
كان أكبرَ الكبائرَ ، بعد أعظمِ فسادِ الدين الذي هو الكفرُ .ا.هـ.
والمقصودُ من النفسِ التي عنيت الشريعةُ بحفظها هي التي عُصمت بالإسلامِ أو
الجزيةِ أو الأمان ، أما نفسُ المحاربِ فليست مما عنيت الشريعةُ بحفظها ،
وذلك بسببِ عدائهِ للإسلامِ ومحاربتهِ له .
والأديانُ السماويةُ متفقةٌ على تحريم قتل النفس المعصومة كما أخبر تعالى
في قصةِ ابني آدم وما حصل بينهما ما شرعهُ اللهُ لبني إسرائيل من تحريمِ
القتلِ ، فقال تعالى : " مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ
فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا " [ المائدة : 32 ] .
وهو أمر ليس خاصاً ببني إسرائيل عَنْ سُلَيْمَان بْن عَلِيّ الرِّبْعِيّ
قَالَ : قُلْت لِلْحَسَنِ هَذِهِ الْآيَة لَنَا يَا أَبَا سَعِيد كَمَا
كَانَتْ لِبَنِي إِسْرَائِيل فَقَالَ : " إِي وَاَلَّذِي لَا إِلَه غَيْره
كَمَا كَانَتْ لِبَنِي إِسْرَائِيل وَمَا جُعِلَ دِمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيل
أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ دِمَائِنَا " .
ونقل الشاطبي في " الموافقات " ( (1/38) اتفاق سائر الملل على حفظ
الضروريات الخمس ومنها حفظ النفس : " قد اتفقتِ الأمةُ بل سائرُ المللِ على
أن الشريعةَ وُضعت للمحافظةِ على الضرورياتِ الخمسِ وهي : الدينُ ، والنفسُ
، والنسلُ ، والمالُ ، والعقلُ ، وعلمها عند الأمةِ كالضروري ، ولم يثبت
لنا ذلك بدليلٍ معينٍ ، ولا شهد لنا أصلٌ معينٌ يمتازُ برجوعها إليه ، بل
عُلمت ملاءمتها للشريعةِ بمجموعةِ أدلةٍ لا تنحصرُ في بابٍ واحدٍ .ا.هـ.
وبعد هذه المقدمة الضرورية فقد تضاربتِ الأخبار في
ديانةِ المقتولين الفرنسيين بين أنهم مسلمون ، وغير مسلمين ، ولا يهمنا -
في ظني - ديانة المقتول ، ودعونا نأخذ كلا الحالتين :
أولاً : إن كانوا مسلمين فقد قال تعالى في
حقهم : " وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ
خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ
عَذَابًا عَظِيمًا " [ النساء : 93 ] .
قال ابنُ كثيرٍ : " وَهَذَا تَهْدِيد شَدِيد وَوَعِيد أَكِيد لِمَنْ
تَعَاطَى هَذَا الذَّنْب الْعَظِيم الَّذِي هُوَ مَقْرُون بِالشِّرْكِ
بِاَللَّهِ فِي غَيْر مَا آيَة فِي كِتَاب اللَّه حَيْثُ يَقُول سُبْحَانه
فِي سُورَة الْفُرْقَان " وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّه إِلَهًا
آخَر وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْس الَّتِي حَرَّمَ اللَّه إِلَّا بِالْحَقِّ
" الْآيَة ، وَقَالَ تَعَالَى " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ
رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا " الْآيَة
وَالْآيَات وَالْأَحَادِيث فِي تَحْرِيم الْقَتْل كَثِيرَة جِدًّا " .ا.هـ.
ومن السنةِ :
1 - عَنْ اِبْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّه
تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : " لَا يَحِلّ دَم اِمْرِئٍ مُسْلِم يَشْهَد أَنْ لَا إِلَه
إِلَّا اللَّه وَأَنِّي رَسُول اللَّه إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث : الثَّيِّب
الزَّانِي ، وَالنَّفْس بِالنَّفْسِ ، وَالتَّارِك لِدِينِهِ الْمُفَارِق
لِلْجَمَاعَةِ " . رواهُ البخاري (6878) ،
ومسلم (1676) .
2 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ
: " إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ
أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ " .
رواهُ البخاري (6863)
.
3 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : " لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا
لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا " . رواهُ
البخاري (6862) .
4 - وأمرُ الدماءِ في الآخرةِ عظيمٌ ، فيبدأ
بها .
عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ" : " أَوَّل مَا يُقْضَى بَيْن النَّاس يَوْم الْقِيَامَة فِي
الدِّمَاء " رواهُ البخاري (6533) ،
ومسلم (1678) .
قال الحافظُ ابنُ حجر في " الفتح " (11/404) : " أَيْ الَّتِي وَقَعَتْ
بَيْن النَّاس فِي الدُّنْيَا ، وَالْمَعْنَى أَوَّلُ الْقَضَايَا
الْقَضَاءُ فِي الدِّمَاءِ ... وَلَا يُعَارِض هَذَا حَدِيثُ أَبِي
هُرَيْرَة رَفَعَهُ " إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ صَلَاتُهُ " الْحَدِيثَ أَخْرَجَهُ أَصْحَاب السُّنَن لِأَنَّ
الْأَوَّل مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَتَعَلَّق بِمُعَامَلَاتِ الْخَلْق
وَالثَّانِي فِيمَا يَتَعَلَّق بِعِبَادَةِ الْخَالِق ... وَفِي الْحَدِيث
عِظَمُ أَمْر الدَّم , فَإِنَّ الْبُدَاءَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْأَهَمِّ
، وَالذَّنْب يَعْظُمُ بِحَسَبِ عِظَم الْمَفْسَدَةِ وَتَفْوِيت
الْمَصْلَحَة ، وَإِعْدَامُ الْبِنْيَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ غَايَةُ فِي
ذَلِكَ . وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّغْلِيظ فِي أَمْر الْقَتْل آيَاتٌ
كَثِيرَةٌ وَآثَارٌ شَهِيرَةٌ " .ا.هـ.
ثانياً : إن كانوا غيرُ مسلمين فدمُ المعاهدِ
الذي له عهدٌ مع المسلمين بعقدِ جزيةٍ ، أو هدنةٍ من سلطانٍ ، أو أمانٍ من
مسلمٍ حافظت الشريعةُ على نفسهِ ، وحرمت قتلهُ ، وهذا بنص كلامِ النبي صلى
اللهُ عليه وسلم .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " مَنْ قَتَلَ
مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ
مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا " .
رواهُ البخاري (6914 ، 3166)
.
وبوب عليه في الموضعِ الأولِ بقولهِ : " إثم من قتل معاهداً بغير جرمٍ " ،
وفي الثاني : " إثم من قتل ذمياً بغيرِ جرمٍ " .
قال الحافظُ ابنُ حجر في " الفتح " (12/259) : " كَذَا تَرْجَمَ
بِالذِّمِّيِّ ، وَأَوْرَدَ الْخَبَر فِي الْمُعَاهَد وَتَرْجَمَ فِي
الْجِزْيَة بِلَفْظِ " مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا " كَمَا هُوَ ظَاهِر
الْخَبَر ، وَالْمُرَاد بِهِ مَنْ لَهُ عَهْد مَعَ الْمُسْلِمِينَ سَوَاء
كَانَ بِعَقْدِ جِزْيَة أَوْ هُدْنَة مِنْ سُلْطَان أَوْ أَمَان مِنْ
مُسْلِم " .ا.هـ.
وختاماً أقول في هذه الجريمةِ وغيرها من الجرائم سواء كانت في حقّ مسلمين
أو غير مسلمين حربين إنها من الفسادِ في الأرض وكما قال تعالى : " إِنَّ
اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ " [ يونس : 81 ] .