بسم الله الرحمن الرحيم

لُصُوْصُ الأعْرَاضِ وخُرْسَانُ الأَلسُن


احترتُ في اختيارِ مقالي الثاني هنا ، وجسلت أقلبُ فكري ، ثم تذكرتُ مقالاً للأديبِ الأريبِ الشيخ عليّ الطنطاوي – رحمهُ الله – في كتابه " في سبيل الإصلاح " ، وهو عبارة عن مقالاتٍ كتبها الشيخ – رحمه اللهُ – في فترةٍ من حياته ، وقد استوقفني فصلٌ عنون له : " دفاعٌ عن الفضيلةِ " ، وأرخ له بقوله " نشر في مصر سنة 1946م " ، أي قبل واحد وستين عاماً ، يحكي فيه الشيخ معركة الحجاب التي جرت في دمشق بين المصلحين ودعاة الرذيلة ( الحرية الشخصية ) ، والمقال طويل لا يسع المقام لعرضهِ والتعليقِ عليه كاملاً ، وإنما أخترت بعضاً منه .

بدأ الشيخُ عليّ الطنطاوي – رحمهُ الله – فصله بقوله : " هال بعضُ المصلحين ... ما رأوا من فشو التبرجِ والاختلاطِ في دمشق ... فقاموا يدافعون عن الفضيلةِ المغلوبةِ ويردون الرذيلةَ الغالبةَ ، وانقاد إليهم الناسُ ، لأن الكثرةَ الكاثرة من أهل دمشق لاتزالُ متمسكة بدينها ، ولاتزالُ نساؤها في الحجابِ الساتر ، ومشت الأمورُ في طريقها وكادت تصلُ إلى غايتها ، ودعاةُ الفجورِ ينظرون ويتحرقون ... " .ا.هـ.

والشيخ – رحمه الله – يشيرُ إلى أهمية المصلحين في المجتمع ، بل هم سببٌ في دفع الهلاك عنهم : " وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ " [هود : 117] ، وتأملوا – رعاكم الله - لم يقل : " صالحون " لأن الصلاحَ نفعهُ للشخصِ نفسه ، أما " المُصلحون " فنفعهم متعدٍ إلى غيرهم ، ونبينا صلى الله عليه وسلم بين أن وجود الصالحين في المجتمع لا يكفي ... ‏قِيلَ : " أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟! " ، قَالَ : " نَعَمْ إِذَا كَثُرَ ‏‏الْخَبَثُ " .
والشيء بالشيء يذكرُ طالما أننا عرجنا على أهل الإصلاح الحقيقيين ، فقد أشار الله إلى مدعي الإصلاح ، وحقيقتهم أنهم أُسُّ الفسادِ والبلاءِ وهم المنافقون " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ " [ البقرة : 11 – 12 ] ، قال الطبري عند تفسير الآية : " نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَإِنْ كَانَ مَعْنِيًّا بِهَا كُلّ مَنْ كَانَ بِمِثْلِ صِفَتهمْ مِنْ الْمُنَافِقِينَ بَعْدهمْ إلَى يَوْم الْقِيَامَة ... " .ا.هـ.

وتأملوا – رعاكم الله – إلى مَن هم الأكثر في المجتمع ؟ إنهم المتمسكون بدينهم ، لا دعاة الرذيلة والاختلاط ، بل هم شرذمة قليلون مقارنة بالكثرة الكاثرة .
وبعد أن ذكر ما قام به بعضُ العامةِ غيرةً على الأخلاق وخوفاً على سفينة المجتمع فأنكروا على المتبرجات من غير رجوع إلى العلماء والعقلاء مما هيأ الفرصة لدعاة الفساد فاستغلوا الموقف ، وكبروه وضخموه وبالغوا في روايته ، وأرسلوا البرقيات وكلُّ ذلك باسم الهجوم على ( الحرية الشخصية ) ! ، قال في نقل تبريرات دعاة الرذيلة والرد عليها : " ... أليس الناس أحراراً ولو فسقوا وفجروا ؟ أليس كلّ امرئ حراً ولو نقب مكانهُ في السفينةِ فأدخل إليها الماء فأغرقها وأهلها ؟! كذلك فهم الحرية هؤلاء الجاهلون ... أو كذلك أراد لهم هواهم ، وشاءت لهم رغباتهم الجنسية وميولهم النفسية أن يفهموها ، ودفعوا الصحفيين فلبثوا أياماً طوالاً لا كلام لهم إلا في الدفاع عن (الحرية ...) ... " .ا.هـ.
ودعاة الفساد هذه تبريراتهم وطريقتهم ... استغلال ما قد يصدر من أهل الغيرة على الدين ، وتحريك الصحافة للتضخيم والتهويل من ذلك باسم (الحرية الشخصية) ، ومرة باسم التقدم ، وأخرى باسم نصف المجتمع معطل ، وإذا دافع غيور عن الفضيلة سفهوا قولهُ ! ... ولو أراد نشر مقال يرد فيه عليهم في منابرهم حُفظ ردّهُ في أدراجهم ولا مجال للرأي الآخر ... يا دعاة الحرية الشخصية ما لكم كيف تحكمون ؟!
ثم قال الشيخُ الطنطاوي – رحمهُ الله - : " إنها حياةُ هذه الأمة : لا تحيا أمةٌ بلا أخلاق ، أفئن قامت فئةٌ من العامةِ بما لا نرضى عنه ، وانتهكت حرمةُ هذا الحرمِ الأقدس : السينما ، وتجاوزت على حريات الفاضلات المطهرات : النساء المتبرجات ... نسكتُ كلنا عن نصرةِ الفضيلةِ إلى يومِ القيامةِ ؟ " .ا.هـ.

وصدق رحمهُ اللهُ فإن سنةَ المدافعةِ بين الحقِّ والباطلِ ماضيةٌ إلى يوم القيامةِ ، قال تعالى : " وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ " [ البقرة : 251 ]
ثم شنع رحمهُ اللهُ على دعاةِ التغريبِ الذين يريدون أخذ كلّ ما عند الغربِ ليجعلوهُ منهجَ حياةٍ في بلادِ المسلمين فيقولُ : " أنكونُ نحنُ بدعاً في الأممِ نأخذُ مِنْ كلِّ واحدةٍ شر ما عندها ، ونريدُ أن نبدأ حياتنا الاستقلالية بهذا الخليطِ من الشرورِ مركباً تركيباً مزجياً ، كحضرموت ... إنه واللهِ طريقُ الموتِ الحاضرِ لا طريقُ الحياةِ " .ا.هـ.
وهذه مِنْ أخطرُ الأمورِ التي ابتليت بها الأمةُ ، دعاةُ تغريبِ الحياةِ في بلادِ المسلمين يطمحون دائماً وأبداً إلى قلبِ حياةِ المسلمين رأساً على عقب ، والقبول بكلّ ما عند الغرب حلوه ومره ، حسنه وقبيحه !

ثم يقولُ بعد ذلك في ردّ الشنشنةِ التي يُوصمُ بها المصلحون : " إنهم حفظوا كلماتٍ فهم يرددونها لا يحاولون فهم معناها : يقولون : رجعية . وما الرجعيةُ ؟ هي الرجوعُ إلى الماضي ، أيّ إلى أخلاقهِ وعاداتهِ ، فما يمكن أن يرجعَ إلى زمان مضى ، فهل الرجوعُ إلى مثل أخلاق المسلمين الأولين نفعٌ أو ضررٌ ؟ وهل يكونُ الداعي إلى تلك الأخلاقِ مصلحاً أو مفسداً ؟ هذه هي الرجعية ! هي رجوعٌ إلى الدين ... " .ا.هـ.
وختم مقالهُ رحمهُ الله بيمينٍ وعتابٍ في حقيقةِ دعوةِ دعاة التغريب وفي الساكتين عنها فقال : " لا والله ، أحلفها يميناً غموساً وأضعها في عنقي ... إنكم لا تريدون الصحةَ ولا الرياضةَ ولا المشاركةَ بالعيدِ إنما تريدون التلذذ بمرأى بناتنا باسم العيد والرياضة والصحةِ ، إنكم لصوصُ أعراضٍ ... ولكن ليس الحقّ عليكم ، الحقّ علينا نحن آباء الطالباتِ والطلاب ، فنحن عميان لا نبصرُ ، خرسان لا ننطق ، حمير لا نغار ، وإذا استمرت هذه الحال فليس أمامنا إلا اللعنة التي نزلت على بني إسرائيل على لسانِ داود وعيسى ابن مريم . اللهم لقد بلغت ، اللهم لقد أنكرتُ المنكر " .ا.هـ.
رحمك الله نشهدُ أنك بلغت وأنكرت ، ورسمت للإجيالِ القادمةِ منهجاً واضحاً في الوقوف ضد طمس ومسخ هويةِ الأمةِ المسلمةِ ، وليتنا نستفيدُ من تجاربِ الشيخِ علي الطنطاوي وغيرهِ من المصلحين الحقيقيين ممن عايشوا بدايات التيارِ التغريبي ، ووقفوا في وجهه بأقلامهم وألسنتهم جزاهم اللهُ عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء .

مبشرات :
قال تعالى : " وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ " [ الحج : 40 ] ، وقال تعالى : " كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ " [ المجادلة : 21 ] ، وقال تعالى : " لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ " [ الأنفال : 37 ] .
 

كتبه
عَـبْـد الـلَّـه بن محمد زُقَـيْـل

الصفحة الرئيسة      |      صفحة الشيخ