كانت دعوة الرسل جميعاً إلى توحيدِ اللهِ ، وسد أبوابِ الشرك بصوره وأنواعه
، ومن ذلك التبرك الممنوع المفضي إلى الشرك – والعياذ بالله - ، وصوره
كثيرة ، وقد ربى رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم صحابته على سدّ أبواب
التبرك الممنوع بصوره وأشكاله ومظاهره ، ومن أمثلة ذلك التبرك بالأشجار :
عن أبي واقدٍ اللَّيثيِّ : " أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلِيهِ
وسَلَّم لمَّا خرجَ إلى حُنينٍ مرَّ بِشجرةٍ للمُشركينَ يقالُ لها : ذاتُ
أنواطٍ يُعلِّقونَ عليها أسلحتهُم ، قالوا : " يا رسولَ اللهِ ؛ اجعلْ لنا
ذاتَ أنواطٍ كما لهمْ ذاتَ أنواطٍ " ، فقَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلِيهِ وسَلَّم : " سُبحانَ اللهِ ! هذا كما قال قومُ موسى : " اجعلْ لنَا
إلهاً كما لهمْ آلهةً " ، والَّذي نَفْسي بيدهِ لتركَبُنَّ سُنَّةَ من كانَ
قبلكُمْ " . أخرجه الترمذي (2271) وقال : حَسَنٌ صَحِيحٌ .
قَالَ الْجَزَرِيُّ فِي النِّهَايَةِ : " هِيَ اِسْمُ شَجَرَةٍ
بِعَيْنِهَا كَانَتْ لِلْمُشْرِكِينَ يَنُوطُونَ بِهَا سِلَاحَهُمْ أَيْ
يُعَلِّقُونَهُ بِهَا وَيَعْكُفُونَ حَوْلَهَا فَسَأَلُوهُ أَنْ يَجْعَلَ
لَهُمْ مِثْلَهَا فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَأَنْوَاطُ جَمْعِ نَوْطٍ
وَهُوَ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ الْمَنُوطُ " .ا.هـ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ : " الْمُرَادُ الْمُوَافَقَةُ فِي الْمَعَاصِي
وَالْمُخَالَفَاتِ لَا فِي الْكُفْرِ وَفِي هَذَا مُعْجِزَةٌ ظَاهِرَةٌ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ وَقَعَ مَا
أَخْبَرَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .ا.هـ.
إنها مدرسةُ الرسولِ صلى اللهُ عليه وسلم التي تربى فيها الصحابة على سدّ
الأبوابِ إلى التبرك الممنوع بتلك الشجرة التي كان المشركون يعكفون عندها ،
وأنكر عليهم المصطفى صلى اللهُ عليه وسلم ذلك ، وشبهه بفعل بني إسرائيل مع
موسى عليه السلام ، قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية في " الفتاوى " (27/136 –
137) : " وَأَمَّا الْأَشْجَارُ وَالْأَحْجَارُ وَالْعُيُونُ وَنَحْوُهَا
مِمَّا يَنْذِرُ لَهَا بَعْضُ الْعَامَّةِ ، أَوْ يُعَلِّقُونَ بِهَا
خِرَقًا ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ، أَوْ يَأْخُذُونَ وَرَقَهَا يَتَبَرَّكُونَ
بِهِ ، أَوْ يُصَلُّونَ عِنْدَهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ : فَهَذَا كُلُّهُ
مِنْ الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ وَهُوَ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ
وَمِنْ أَسْبَابِ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى " .ا.هـ.
وقال ابنُ العربي في " أحكام القرآن " بعد ذكره للحديث السابق : "
فَحَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتِّبَاعَ
الْبِدَعِ ، وَأَمَرَ بِإِحْيَاءِ السُّنَنِ ، وَحَثَّ عَلَى الِاقْتِدَاءِ
" .ا.هـ.
وقال الشيخُ ابنُ عثيمين في " القول المفيد " (1/268 – 269) : " وذاتُ
أنواطٍ وسيلةٌ إلى الشركِ الأكبرِ ، فإذا وضعوا عليها أسلحتهم وتبركوا بها
، يتدرجُ بهم الشيطانُ إلى عبادتها وسؤالهم حوائجهم منها مباشرةً قلهذا سدّ
النبي صلى اللهُ عليه وسلم الذرائع " ا.هـ.
وجاء الصحابةُ الذين تربوا في مدرسة النبوة من بعده وصنعوا ما صنعه النبي
صلى اللهُ عليه وسلم ، واقتدوا به ، فَقَدْ بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
أَنَّ قَوْمًا يَقْصِدُونَ الصَّلَاةَ عِنْدَ " الشَّجَرَةِ " الَّتِي
كَانَتْ تَحْتَهَا بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ الَّتِي بَايَعَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ تَحْتَهَا فَأَمَرَ بِتِلْكَ
الشَّجَرَةِ فَقُطِعَتْ . أخرجه ابنُ وضاح القرطبي في " البدع والنهي عنها
" ، وقال الحافظُ ابنُ حجرٍ في " الفتح " (7/513) : " ثم وجدتُ عند ابنِ
سعدٍ بإسنادٍ صحيحٍ عن نافع أن عمر ... " .
وجاء التابعون وأتباع التابعين ومن بعدهم يقتدون بالنبي والصحابة ، فهذا
أبو شامة في " الباعث على إنكار البدع والحوادث " ( ص 24 ) يقول : " ولقد
أعجبني ما صنعه الشيخ أبو إسحاق الجبيناني رحمه الله تعالى - أحد الصالحين
ببلاد أفريقية في المائة الرابعة - ، حكى عنه صاحبه الصالح أبو عبد الله
محمد بن أبي العباس المؤدب أنه كان إلى جانبه عين تسمى : عين العافية ،
كانت العامة قد افتتنوا بها ، يأتونها من الآفاق ، من تعذر عليها نكاح أو
ولد ، قالت : امضوا بي إلى العافية فتعرف بها الفتنة ، قال أبو عبدالله :
فإنا في السحر ذات ليلة إذ سمعت أذان أبي إسحاق نحوها فخرجت فوجدته قد
هدمها ، وأذن الصبح عليها ، ثم قال : اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها
رأساً . قال : فما رفع لها رأس إلى الآن " .
وبعد هذه المقدمة التي جعلتها مدخلا لمقالي ، أعجبتني عبارة للشيخ سليمان
بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في " تيسير العزيز الحميد " ( ص 152 )
عند حديث ذات أنواط الآنف فقد قال : " فإذا كان بعضُ الصحابةِ ظنوا ذلك
حسناً ، وطلبوه من النبي صلى اللهُ عليه وسلم ، حتى بين لهم أن ذلك كقولِ
بني إسرائيل : " اجعلْ لنَا إلهاً " ، فكيف بغيرهم ، مع غلبةِ الجهلِ وبعد
العهد بآثار النبوة " .ا.هـ.
والمتأملُ الحصيف يجدُ الجهلَ قد ضرب أطنابهُ في كثيرٍ من بلادِ المسلمين –
مع الأسف - ، وفي كثير من أمور التوحيد ومنها التبرك الغير مشروع لكثير من
البقاعِ والأماكن التي لم يرد نصٌ في التبرك بها .
وحكم التبرك - سواء كان بالشجر أو الحجر أو القبر أو ببقاع مختلفة – دائر
بين الشرك الأكبر والأصغر ، فإذا طلب البركة منها معتقداً رجاء النفعِ
والضر ، وأنها وسيلة نافعة عند الله ، فهذا لا شك أنه شركٌ أكبر قال تعالى
: " وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ
إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى " [ الزمر : 3 ] ، أما إذا
كان معتقداً أنها سبب ، والبركة من الله تحصلُ بالتمسح بها فهذا شرك أصغر .
قد يسألني سائلٌ : بعد هذا التقرير لا نجدُ ربطاً بين عنوانك " ستي
الزيتونة " ، وتقريرك السابق ؟ وجوابي : قرأتُ " ذكريات " - وليس مذكرات –
الشيخ علي الطنطاوي – رحمهُ الله - ، وكنتُ أقيدُ على طرةِ الكتابِ من
الداخل الفوائد التي أمر عليها لأنني جزماً سأحتاجها في يوم من الأيام ،
وذكريات الشيخ علي – رحمه الله - كلها فوائد ، وأشار في المجلد الأول ( ص
53 ) إلى قصة " ستي الزيتونة " التي وضعتها عنواناً لمقالي ، تبينُ كيف كان
غلبةُ الجهل ، والبعد العهد بآثار النبوة ؟ وهي قصة عجيبةٌ ترد على أولئك
الذين يشنعون على أهل التوحيد المقررين لسدّ ذرائعِ الشرك ، فما هي القصة
باختصار :
قال الشيخُ علي الطنطاوي – رحمهُ الله - : " وكان في دمشق مدرسةٌ سلطانيةٌ
واحدة ، هي مكتب عنبر ، ثم فتحت في أواخر حكمِ الأتراك مدرسة أخرى ، وكنا
نسمي المدرسة المكتب ، والسطاني معناها الثانوي ، وهذه المدرسة هي (المكتب
السلطاني العربي) ، وقد كانت في طريق (ستي الزيتونة) ... أما هذه الزيتونة
، فقد كانت شجرةً هرمةً ، أمامها قفصٌ من حديدٍ تربطُ النساءُ به الخرق ،
وتحتها قبرٌ ، وعندها (شيخٌ) دجالٌ ، قد جعل مرتزقه سدانة هذا الوثن .
أما قصتها فعحيبةٌ حقاً ، هي أن قاسم الأحمد ... لما ثار على إبراهيم باشا
أيام حكمه الشام ، قُبض عليه بعد معارك طويلة ، فشنقه مع خمسةٍ من رفاقهِ
تحت زيتونةٍ كانت هنا ، فقال الناسُ (الستة بالزيتونة) ، ثم نسوا القصة ،
فقدسوا الشجرة وسموها (ستي زيتونة ) " .ا.هـ.
فمع تقادم العهد ، وفشوا الجهل قدس الناس تلك الشجرة ، ومصداق ذلك في الأمم
السابقة : " وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً
وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً " [ نوح : 23 ] .
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : " صَارَتْ الْأَوْثَانُ
الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ ، أَمَّا وَدٌّ
كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ ، وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ
لِهُذَيْلٍ ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ
بِالْجَوْفِ عِنْدَ سَبَإٍ ، وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ ،
وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الْكَلَاعِ ؛ أَسْمَاءُ
رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى
الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمْ الَّتِي
كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ ، فَفَعَلُوا
، فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ
عُبِدَتْ " . أخرجه البخاري .
اللهم أحينا على التوحيد ، وأمتنا على التوحيد ، وأحفظ بلادنا من الشرك .