الحمد لله وبعد ؛
قبل الخوض في هذه المسألة لابد لنا من ذكر الحديث الوارد في نزول الرب جلا وعلا
.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ
لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ فَيَقُولُ : أَنَا
الْمَلِكُ ، أَنَا الْمَلِكُ ؛ مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ
لَهُ ؛ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ؛ مَنْ ذَا الَّذِي
يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ فَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُضِيءَ
الْفَجْرُ .
رواه مالك في الموطأ (1/214) والبخاري (7494) ومسلم (1/522) .
وقد اختلفت الروايات في وقت النزول على
ما يلي :
1)
مطلقة .
2)
الثلث الأول .
3)
الثلث الآخر .
4)
النصف .
ومع هذا الاختلاف في الروايات فمن
العلماء من رجح رواية الثلث الآخر على غيرها من الروايات وهذا ما قرره شيخ
الإسلام ابن تيمية فقال في الفتاوى (5/470) :
وإذا كان كذلك والنزول المذكور في
الحديث النبوي على قائله أفضل الصلاة والسلام الذي اتفق عليه الشيخان البخاري
ومسلم واتفق علماء الحديث على صحته هو إذا بقى ثلث الليل الآخر .
وأما رواية النصف والثلثين فانفرد بها مسلم في بعض طرقه ، وقد قال الترمذي : إن
أصح الروايات عن أبى هريرة إذا بقى ثلث الليل الآخر .ا.هـ.
وقال أيضا بعد ترجيحه لرواية الثلث الأخير (5/470) :
فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر النزول أيضا إذا مضى ثلث الليل الأول
وإذا انتصف الليل ، فقوله حق وهو الصادق المصدوق ، ويكون النزول أنواعا ثلاثة :
الأول : إذا مضى ثلث الليل الأول ، ثم إذا انتصف وهو أبلغ ، ثم إذا بقي ثلث
الليل وهو أبلغ الأنواع الثلاثة .ا.هـ.
وجمع آخرون بين هذه الروايات ومنهم
الحافظ ابن حجر فقال (3/38) :
واختلفت الروايات عن أبي هريرة وغيره
قال الترمذي : رواية أبي هريرة أصح الروايات في ذلك ويقوى ذلك أن الروايات
المخالفة اختلف فيها على رواتها ، وسلك بعضهم طريق الجمع وذلك أن الروايات
انحصرت في ستة أشياء :
أولها : هذه ثانيها : إذا مضى الثلث الأول ثالثها : الثلث الأول أو النصف
رابعها : النصف خامسها : النصف أو الثلث الأخير سادسها : الإطلاق فأما الروايات
المطلقة فهي محمولة على المقيدة ، وأما التي بأو فإن كانت أو للشك فالمجزوم به
مقدم على المشكوك فيه ، وأن كانت للتردد بين حالين فيجمع بذلك بين الروايات بان
ذلك يقع بحسب اختلاف الأحوال لكون أوقات الليل تختلف في الزمان وفي الآفاق
باختلاف تقدم دخول الليل عند قوم وتأخره عن قوم ، وقال بعضهم يحتمل أن يكون
النزول يقع في الثلث الأول ، والقول يقع في النصف ، وفي الثلث الثاني ، وقيل
يحمل على أن ذلك يقع في جميع الأوقات التي وردت بها الأخبار ويحمل على أن النبي
صلى الله عليه وسلم أعلم بأحد الأمور في وقت فأخبر به ثم أعلم به في وقت آخر
فأخبر به فنقل الصحابة ذلك عنه والله أعلم .ا.هـ.
وأكتفي بهذا القدر ، لنأتي على مسألتنا
التي نحن بصددها .
وقبل البدء فيما نُقل عن الإمام مالك في صفة النزول ، لابد أن نعلم أن أهل
الأهواء والبدع عندما يريدون أن يبرروا ما هم عليه من البدعة ، فإنهم يلجأون
إلى النيل من أهل السنة ، ويرمونهم ببدعهم التي يتلبسون بها ، فيأخذون نصوصا
لأئمة أهل السنة ويقولون : أئمتكم يقولون بقولنا ، والشاهد على ذلك النص
الفلاني ، وقال به العالم الفلاني ، وأنّا لهم أن يفرحوا بهذه النصوص ، فقد بين
أئمة أهل السنة وردوا هذه النصوص التي وردت عن أئمة أهل السنة بالرد الكافي
والشافي ، ودافعوا عنهم دفاعا قويا بما يلقم أولئك القوم حجرا في أفواههم .
ونحن نبين ما رد به علماء أهل السنة على هذه الفرية التي لم ولن يفرح بها أهل
الأهواء والبدع . نص ما روي عن الإمام مالك :
الرواية الأولى :
روى الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء
(8/105) :
وقال ابن عدي حدثنا محمد بن هارون بن
حسان حدثنا صالح بن أيوب حدثنا حبيب بن أبي حبيب حدثني مالك قال : يتنزل ربنا
تبارك وتعالى أمره فأما هو فدائم لا يزول .
أما هذه الرواية ففي إسنادها :
- حبيب بن أبي حبيب .
قال عنه يحي بن معين : ليس بشيء . وقال
الإمام أحمد : ليس بثقة ، كان يحيل الحديث ويكذب وأثنى عليه شرا وسوء . وقال
النسائي متروك الحديث . وقال ابن عدي : أحاديث كلها موضوعة عن مالك وعن غيره .
وقال أيضا : وعامة حديث حبيب موضوع المتن مقلوب الإسناد ولا يحتشم في وضع
الحديث على الثقات ، وأمره بين في الكذابين . وقال الحافظ ابن حجر : متروك كذبه
أبو داود وجماعة .
- صالح بن أيوب الراوي عن حبيب بن أبي
حبيب .
قال عنه الإمام في السير (8/105)
للرواية السابقة : لا أعرف صالحا وحبيب مشهور . أي مشهور بالكذب .
فهذه الرواية لو لم يكن فيها إلا حبيب بن أبي حبيب لكفى لإسقاطها فكيف إذا
اجتمع فيها مجهول وكذاب .
والعجيب أن هناك زيادة منكرة قبيحة جاءت
من طريق حبيب بن أبي حبيب أوردها السبكي في السيف الصقيل (128) وهي :
وقد روى الضراب في كتابه الذي صنفه في
فضائل مالك في هذا الكتاب ، قال : حدثنا عمر بن الربيع ، ثنا أبو أسامة ، ثنا
ابن أبي زيد عن أبيه عن حبيب كاتب مالك بن أنس عن قول النبي صلى الله عليه وسلم
: ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة ، قال ينزل أمره كل ليلة
أما هو فهو دائم لا يزول " وهو بكل مكان " .ا.هـ.
فهل يعقل أن يكون الإمام مالك يعتقد معتقد الجهمية الحلولية !!! على فرض صحة
الرواية وهي لم تصح أصلا .
سبحانك هذا بهتان عظيم .
الرواية الثانية :
قال الإمام ابن عبد البر في التمهيد
(7/143) :
وقد روى محمد بن الجَبُّلي ، وكان من
ثقات المسلمين بالقيروان قال : حدثنا جامع بن سوادة بمصر ، قال حدثنا مطرف عن
مالك بن أنس أنه سئل عن الحديث : عن الله ينزل في الليل إلى سماء الدنيا فقال
مالك : ينزل أمره .
وهذه الرواية في إسنادها :
- محمد بن علي الجَبُّلي .
قال عنه الذهبي في الميزان (3/657) :
الشاعر فصيح سائر القول روى عن عبدا لوهاب الكلابي ومدح أبا العلاء المعري
فجاوبه بأبيات .
قال الخطيب : قيل : إنه كان رافضيا .
وقال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (5/303) : ولفظ الخطيب : قيل : إنه كان
رافضيا شديد الرفض ، وكان ضريرا مات في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وأربع مائة ،
والجبلي بفتح الجيم وضم الموحدة الثقيلة وتخفيف اللام المكسورة ، قال بن ماكولا
: كان من المجيدين . مدح فخر الملك ، وله معرفة باللغة والنحو ، وذكره في شيوخه
محمد بن المعلى الأزدي وروى عنه بن علي بن أحمد بن صالح وقالوا انه كان يفرط .
- جامع بن سودة .
قال عنه الذهبي في الميزان (1/387) : عن
آدم بن أبي إياس بخبر باطل في الجمع بين الزوجين كأنه آفته . وذكر الحديث .
وجاء في ترجمة عبد الملك بن الحكم في الميزان : له عن مالك عن نافع عن ابن عمر
مرفوعا : آخر من يدخل الجنة رجل من جهينة يقال له جهينة فيقول أهل الجنة : عند
جهينة الخبر اليقين . الحديث رواه جامع بن سوادة ، عن أحمد بن الحسين اللهبي
عنه . قال الدارقطني جامع ضعيف ، وكذلك عبد الملك بن الحكم أيضا ، قال :
والحديث باطل .
وقال الذهبي أيضا في المغني في الضعفاء (1/127) : عن آدم بن أبي إياس بخبر كذب
في الجمع بين الزوجين كأنه وضعه .
فهذا إسناد لا يثبت أيضا .
فيتضح من هاتين الروايتين أن هذا الأمر
لا يثبت عن الإمام – رحمه الله - .
العلماء الذين ضعفوا هاتين الروايتين :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى
(5/401) :
رُويت من طريق كاتبه حبيب بن أبي حبيب ،
لكن هذا كذاب باتفاق أهل العلم بالنقل ، لا يقبل أحدٌ منهم نقله عن مالك .
ورُويت من طريق أخرى – يقصد رواية مطرف – ذكرها ابن عبد البر وفي إسنادها من لا
نعرفه .ا.هـ.
وقال الإمام ابن القيم في مختصر الصواعق
(ص453) :
وقد روي عنه – أي مالك – أنه تأول قوله
: ينزل ربنا ، بمعنى نزول أمره وهذه الرواية لها إسنادان : أحدهما : من طريق
حبيب كاتبه ، وحبيب هذا غير حبيب ، بل هو كذاب وضاع باتفاق أهل الجرح والتعديل
، ولم يعتمد أحد من العلماء على نقله ، والثاني : فيه مجهول لا يعرف حاله
.ا.هـ.
وقال الإمام الذهبي في السير (8/105) على رواية حبيب : لا أعرف صالحا وحبيب
مشهور . يقصد الإمام الذهبي أنه مشهور بالكذب .
ما ثبت عن الإمام في صفة النزول وغيرها
:
لقد ثبت عن الإمام مالك - رحمه الله –
أنه يقول بقول أهل السنة والجماعة في إثبات النزول لله من غير تحريف ولا تشبيه
ولا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل .
روى ابن أبي زمنين في أصول السنة (1/341) عن زهير بن عباد قال :
كل من أدركت من المشايخ : مالك بن أنس ، وسفيان ، وفضيل بن عياض ، وعبد الله بن
المبارك ، ووكيع بن الجراح ، يقولون : النزول حق .
وذكر الإمام ابن القيم في مختصر الصواعق (ص384) :
وفي رواية : أن مالكا قال في أحاديث الصفات : أمض الحديث كما ورد بلا كيف ولا
تحديد إلا بما جاء في الكتاب ، قال تعالى : " فلا تضربوا لله الأمثال " ينزل
كيف شاء بقدرته وعلمه وعظمته ، أحاط بكل شيء علما .
وهذا هو الثابت عن أمثال هؤلاء الأئمة ، ويكفي الإمام أنه قرر قاعدة عامة في
جميع الصفات لله فقال :
الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول .
وهذه القاعدة تنطبق حتى على النزول لله تعالى .
هذا ما تمكنت من بيانه ، فإن أصبت فمن الله ، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان .
وإنني أعلم أن هذا الكلام قد لا يروق لبعض الرواد الذين يريدون أن يشككوا في
أئمتنا .