اطبع هذه الصفحة


تعقيب وإيضاح لفتوى الشيخ الدكتور عبدالله السلمي
في حكم السياحة في بلاد الكفار

 عبدالله بن سليمان آل مهنا
عضو الجمعية الفقهية السعودية

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ... أمابعــد :

فقد استمعت لفتيا للشيخ الدكتور عبدالله السلمي عبر برنامج الجواب الكافي في قناة المجد إعادة يوم الاثنين 11/7/1432هـ ... أجاز فيها السفر للسياحة في بلاد الكفار بضوابط غير واضحة ... ولكون الفتيا أيضاً مجملة أحببت الإيضاح والتبيين للقراء الكرام ، حيث إن البلوى عمت بالسفر لبلاد الكفر مع مافيه من المحاذير والشرور الكثيرة ، ولأن الفتيا أيضاً معلنة أردت إعلان التعقيب براءة للذمة ونصحاً للأمة.

وهذا الإيضاح والتعقيب لا ينقص من قدر الشيخ عبدالله فهو معروف بجهاده في تبليغ العلم والدعوة إلى الله تعالى ، وجهده مشكور غير مكفور ، إلا أن العصمة منتفية عن غير محمد صلى الله عليه وسلم ، وكما قال الإمام مالك رحمه الله : ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر ، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأقول وبالله التوفيق ومنه استمد العون والتسديد :

قال الشيخ - وفقه الله تعالى - : " هذه المسألة لم يرد عن النبي بشأنها شيء معين ...."


قلت : لعل الشيخ - وفقه الله - بعيد العهد عن مذاكرة هذه المسألة ، والحق أنه ورد فيها عدة أدلة تدل على وجوب هجر بلاد الكفار ومفارقتهم وأنه لا يعذر في ترك ذلك إلا المستضعفين ... فمن الأدلة :

1. حكى الحافظ ابن كثير رحمه الله الإجماع على تحريم الإقامة بين ظهراني المشركين كما سيأتي ذكره إن شاء الله ، ولم ينازعه في ذلك أحد فيما أعلم .

2. قوله تعالى ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفوا عنهم وكان الله عفوا غفورا ) سورة النساء آية 97-99 .
قال ابن كثير رحمه الله : " ... فنزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكناً من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع وبنص هذه الآية حيث يقول الله تعالى ( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ) أي بترك الهجرة ( قالوا فيم كنتم ) أي لم مكثتم هاهنا وتركتم الهجرة ؟ ( قالوا كنا مستضعفين في الأرض ) أي لا نقدر على الخروج من البلد ولا الذهاب في الأرض ( قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) .[1]

3. قوله تعالى ( وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ... الآية ) سورة الكهف آية 16. قال ابن كثير رحمه الله : " ... أي وإذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله ففارقوهم أيضاً بأبدانكم "[2]

4. قوله تعالى ( ياعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ) سورة العنكبوت آية 56 .
قال ابن جرير رحمه الله :" يقول الله تعالى للمؤمنين من عباده : يا عبادي الذين وحدوني وآمنوا برسولي إن أرضي واسعة لم تضق عليكم فتقيموا بموضع منها لايحل لكم المقام فيه ، ولكن إذا عمل بمكان منها بمعاصي الله فلم تقدروا على تغييره فاهربوا منه " ثم ساق بسنده عن سعيد بن جبير قال : " إذا عمل فيها بالمعاصي فاخرج منها " [3] ، قلت : فكيف بمن يقدم مختاراً إلى بلاد يُكفر فيها بالله تعالى .

5. قوله صلى الله عليه وسلم ( أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين ، لاتراءى نارهما ) أخرجه أبوداود والترمذي والنسائي وغيرهم .[4]

قال الخطابي رحمه الله : " وفيه دلالة على كراهة دخول المسلم دار الحرب للتجارة والمقام فيها أكثر من مدة أربعة أيام " [5] .
هذا كلام الخطابي في التجارة فكيف بالسياحة !!

وقال ابن حزم رحمه الله : " وهو عليه السلام لايبرأ إلا من كافر " [6]
ومعنى ( لا تراءى ناراهما ) أي لا ينبغي أن يكونا بموضع بحيث تكون نار كل واحد منهما في مقابلة الأخرى على وجه لو كانت متمكنة من الإبصار لأبصرت الأخرى ، فإثبات الرؤية للنار مجاز [7].

6. قوله صلى الله عليه وسلم ( لايقبل الله من مشرك عملاً بعدما أسلم أو يزايل المشركين ) أي حتى يزايل المشركين ، أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه [8].

7. قوله صلى الله عليه وسلم ( من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله ) ومعنى جامع أي اجتمع به . أخرجه أبو داود عن سمرة رضي الله عنه .[9]
قال المناوي رحمه الله : " ... وفيه إبرام وإلزام بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والتحرز عن مخالطتهم ومعاشرتهم .." [10].
وقال الشوكاني رحمه الله : " فيه دليل على تحريم مساكنة الكفار ووجوب مفارقتهم " [11].

8. حديث جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه قال : { بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم وعلى فراق المشرك } رواه أحمد والنسائي [12] .
وفيه إلحاق مفارقة المشركين بأركان الإسلام ودعائمه العظام ، وهذا الحديث كافٍ في النهي عن السفر إلى بلاد المشركين لتأخر إسلام جرير رضي الله عنه .

9. حديث وفد بني المنتفق وفيه قال لقيط : { يارسول الله علام أبايعك ؟ فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده وقال ( على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وزيال المشرك وأن لا تشرك بالله إلهاً غيره ... الحديث ) أخرجه عبدالله بن أحمد في زوائد المسند وغيره .[13]
قال ابن القيم رحمه الله :" وقوله في عقد البيعة : ( وزيال المشرك ) أي مفارقته ومعاداته ، فلا يجاوره ولا يواليه كما جاء في الحديث الذي في السنن ( لاتراءى ناراهما ) يعني المسلمين والمشركين .[14]

ففي هذه الأدلة هيئة اجتماعية يقطع معها بهذا الحكم العظيم وهو تحريم الإقامة في بلاد الكفر أو السفر إليها بدون حاجة وقدرة على إظهار الدين .

والإقامة تصدق على من أقام في المكان ولو ليلة واحدة ، ولذا في عرف الفقهاء أن من نوى الإقامة في بلد أكثر من أربعة أيام أخذ حكم المقيم وانتفى عنه حكم السفر ، وهذا قول الجمهور.
وقال ابن حزم رحمه الله : " من دخل إليهم لغير جهاد أورسالة من الأمير فإقامة سـاعة إقامة " [15].

قال القرطبي رحمه الله : " قلت : ولا يختلف في أنه لا يحل لمسلم المقام في بلاد الكفر مع التمكن من الخروج منها لجريان أحكام الكفر عليه ولخوف الفتنة على نفسه ، وهذا حكم ثابت مؤبد إلى يوم القيامة ، وعلى هذا فلا يجوز لمسلم دخول بلاد الكفر لتجارة أو غيرهما مما لايكون ضرورياً في الدين كالرسل وكافتكاك المسلم ، وقد أبطل مالك رحمه الله تعالى شهادة من دخل بلاد الهند للتجارة " [16].

وعن سحنون بن سعيد قال قلت لابن القاسم : هل كان مالك يكره أن يتجر الرجل إلى أرض الحرب ؟ قال : نعم ، كان يكرهه كراهية شديدة ويقول لا يخرج إلى بلادهم حيث تجري أحكام الشرك عليه [17].
هذا في التجارة فكيف بالسياحة !!

قال شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله : " والمقيم للدراسة أوللتجارة أو للتكسب والمستوطن حكمهم ومايقال فيهم حكم المستوطن لا فرق إذا كانوا لا يستطيعون إظهار دينهم وهم يقدرون على الهجرة " [18].

وقال رحمه الله : " وأي خير يبقى مع مشاهدة الشرك وغيره من المنكرات والسكوت عليها بل وفعلها ... وإن زعم المقيم من المسلمين بينهم أن له أغراضاً من الأغراض الدنيوية كالدراسة أو التجارة أو التكسب فذلك لا يزيده إلا مقتاً " [19].

قال الشيخ عبدالله السلمي - وفقه الله - : " ... ولكن القاعدة في ذلك أن كل من سافر إلى بلاد الكفر وقد أظهر دينه ولم يختلط بمنكراتهم الخاصة وليست العامة لأن بعض الناس يظن أن ذهابه ووجود موسيقى في الطرقات ، فهذا مما لايستطيعه الإنسان ... فإن شاء الله الجواز .."


وهذه الجملة عليها ثلاثة مآخذ :

الأول : أجمل الشيخ - وفقه الله - مسألة إظهار الدين ، ولم يفصل للمستفتي والمستمعين معنى إظهار الدين الذي يجب على من سافر إلى بلاد الكفار ، وقد يظن بعض الناس أن إظهار الدين المشروط عل من سافر إلى بلاد الكفر هو إقامة الشعائر الظاهرة كالأذان والصلاة والصيام ونحو ذلك ، وهذا فهم خاطيء ، فإن إظهار الدين المطلوب تكفير الكافرين وعيب دينهم والطعن عليهم والبراءة منهم واعتزالهم والتحفظ من موادتهم والركون إليهم.

قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله : " ... وإظهار دينه ليس هو مجرد فعل الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته من الربا والزنا وغير ذلك ، إنما إظهار الدين مجاهرته بالتوحيد والبراءة مما عليه المشركون من الشرك بالله في العبادة وغير ذلك من أنواع الكفر والضلال "[20]

وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله : " ... وهذا بحمد الله واضح لا إشكال فيه ، فلو كان يقدر أن يصلي ويصوم لكن لا يقدر أن يظهر توحيده وإيمانه وعقيدته كان عاجزاً عن إظهار دينه ..." [21].

وهل أُخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من أحب البلاد إليه مكة إلا بعد أن أعلن بعداوة المشركين وعيب آلهتهم وتسفيه أحلامهم وترك مداهنتهم ! ولو اكتفى صلى الله عليه وسلم بالصلاة والشعائر الأخرى لتركته قريش يصلي حتى يموت ، فلما لم يطيقوا ذلك منه أرادوا قتله حتى ألجؤوه إلى الهجرة.

أما أدلة وجوب إظهار الدين فكثيرة ، منها :

1. قول الله تعالى ( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ... الآية ) سور الممتحنة آية 4 .
قال الشيخ حمد بن عتيق رحمه الله : " فأمرنا سبحانه وتعالى أن نتأسى بإبراهيم الخليل ومن معه من المرسلين في قولهم ( إنا برءاء منكم ) إلى آخره ، وإذا كان واجباً على المسلم أن يقول هذا لقومه الذين هو بين أظهرهم فكونه واجباً للكفار الأبعدين عنه المخالفين له في جميع الأمور أبين وأبين ... واعلم أنه وإن كانت البغضاء متعلقة بالقلب فإنها لا تنفع حتى تظهر آثارها وتبين علاماتها ولا تكون كذلك حتى تقترن بالعداوة والمقاطعة فحينئذ تكون العداوة والبغضاء ظاهرتين ، وأما إذا وجدت الموالاة والمواصلة فإن ذلك يدل على عدم البغضاء فعليك بتأمل هذا الموضع فإنه يجلو عنك شبهات كثيرة " [22] .

2. قوله تعالى ( قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكونن من المشركين ) سورة يونس آية 104-105.
فأمر الله نبيه أن يقول للمشركين إن كنتم في شك من صحة ما جئتكم من الدين الحنيف الذي أوحاه الله إلي فها أنا لاأعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله وحده لا شريك له وهو الذي يتوفاكم كما أحياكم ثم إليه مرجعكم فإن كانت آلهتكم التي تدعون من دون الله حقاً فأنا لا أعبدها ...[23].

3. قوله تعالى ( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ) سورة إبراهيم آية 13 .

4. قوله تعالى عن قوم شعيب ( لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ) سورة الأعراف آية 88 .

5. قوله تعالى عن أهل الكهف أنهم قالوا ( إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا ) سورة الكهف آية 20 .

6. قوله تعالى ( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ... الآيات ) سورة الكافرون كاملة . فهذه الآيات تدل على أن العداوة ما اشتدت بين الرسل وأممهم إلا بعد التصريح بمسبة دينهم وتسفيه أحلامهم وعيب آلهتهم .
ولهذا قالت قريش لأبي طالب : " يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فإما أن تكفه وإما أن تخلي بيننا وبينه ... " [24] .

وهل يظن بمن سافر لبلاد الكفار للسياحة أن يقوم بهذا الواجب الشرعي !!

وهل يجتمع في القلب السرور والانبساط بالسياحة والفرجة مع العزم على الإعلان بالبراءة من الكفر والكافرين !!
فإن وجد الثاني وهو كراهة الكفر والكافرين والبراءة منهم لم يوجد الأول وهو القصد للانبساط والسرور بين ظهرانيهم .
فإن قدرنا – جدلاً – وجود أحد يمارس إظهار الدين على الوجه المطلوب فإنه لن يُترك يفعل ما يريد ، فليس بأفضل من المرسلين وقد عمل أقوامهم معهم ما عملوا .
قال في الإقناع : " وتكره التجارة والسفر إلى أرض العدو وبلاد الكفر مطلقاً وإلى بلاد الخوارج والبغاة والروافض والبدع المضلة ونحو ذلك ، وإن عجز عن إظهار دينه فيها حرم سفره إليها " [25] .

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله : " ... وإنما حرم السفر والإقامة فيها لوجوه ، منها : أن إظهار الدين على الوجه الذي تبرأ به الذمة متعذر وغير حاصل .."[26]

المأخذ الثاني :
قول الشيخ - وفقه الله - : " ولم يختلط بمنكراتهم الخاصة وليست العامة ..." والظاهر من تعبير الشيخ أن السائح يباح له رؤية وسماع منكرات الكفار العامة ، فإنه قال " لأن بعض الناس يظن أن ذهابه ووجود موسيقى في الطرقات فهذا مما لا يستطيعه الإنسان ... " .
قلت : الأمر أعظم من منكرات الموسيقى التي مثّل بها الشيخ ، فإن الكفر بالله تعالى أكبر المنكرات في تلك البلاد ، وأجراس الكنائس التي تعلن بسب الله تعالى ونسبة الصاحبة والولد له - تعالى الله عن إفكهم - تُدق على سمع وبصر من السائحين المسلمين ، فهل يسوّغ المسلم السائح لنفسه أن يرى ويسمع الكفر بالله تعالى ويطمئن قلبه ويستمتع برحلته !!
وكان السلف يحذرون من الإقامة ببلاد يسب فيها السلف ، فكيف ببلاد يسب فيها الله تعالى رب السلف والخلف .
قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله : " ليس لأحد المقام بأرض يسب فيها السلف " [27].
وإذا كان ربك قد حذرك من عدوه الذي طرده عن بابه وأبعده عن جنابه واشترط ذلك عليك في عهده الذي عهده إليك ، فكيف تقدم إليه فرحاً مسروراً !!
هذا والله مما لايسمح به المحب ولا يتصوره العاقل ، ولقد أحسن من قال :

متى صدقت محبة من يراني من الأعداء في أمر فضيعِ

فتسمح اذنه بسماع شتمي وتسمح عينه لي بالدموعِ[28]

المأخذ الثالث :
قول الشيخ وفقه الله " ...أن ذهابه ووجود موسيقى في الطرقات فهذا مما لايستطيعه الإنسان ... " ومعنى ذلك أن الشيخ لايرى وجوب إنكار المنكر الذي يراه المسلم السائح لكونه لايستطيع الإنكار اعتماداً على الرخصة في ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان ) [29] .
وهذه الرخصة حق بلا شك ، ولكن ليست في حق من دخل أماكن المنكر مختاراً وبوسعه ألا يدخلها كحال السائحين في البلاد التي تظهر فيها المنكرات ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإذا رُخص للمسلم في ترك الإنكار باليد واللسان لم يرخص له في ترك الإنكار بالقلب ، لأنه لا سلطان لأحد على قلب المؤمن ، ومقتضى الإنكار بالقلب كراهية المنكر ، ومن يفعله ، ومفارقة المكان الذي يُفعل فيه المنكر ، أما من يرى ويسمع المنكر ويزعم أنه منكِر بقلبه فهذا كاذب ، مشارك في المنكر لقوله تعالى ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا ) سورة النساء آية 140 .
قال القرطبي رحمه الله : " ... فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر ، لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم ، والرضا بالكفر كفر ، قال الله عزوجل ( إنكم إذا مثلهم ) فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء ، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها ، فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية ... " [30].

مسألة مهمة :
نسي الشيخ - وفقه الله - تنبيه السائل والمستمعين على ما في بلاد الكفار من الفجور والفواحش التي يتعرض لها المسلم السائح ، وكم وقع كثير من السواح المسلمين في كبائر الذنوب من الخمر والزنا والمخدرات بسبب تلك السياحة المحرمة ، والنفوس فيها من الضعف ما فيها ، والخمر موفر في ثلاجات النزلاء في الفنادق ، والمروجون للبغاء يستقبلون السواح في المطارات !! هذا في بعض البلاد التي تسمى إسلامية فكيف ببلاد الكفر !! فهل يرخص الشيخ سامحه الله بهذا النوع من السياحة وفيه من المآثم والمخاطر ما فيه !!

كما أن مَن أكثر من السفر إلى بلاد الكفار فإنه يخف لديه مبدأ البراءة من الكافرين وهو من أصول التوحيد وفرائض الإيمان قال تعالى ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) سورة النحل آية 36 ، وقال تعالى ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) سورة البقرة آية 256 .
ومعنى الكفر بالطاغوت كما فسره العلماء : أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتبغضها وتكفر أهلها وتعاديهم [31].

ولا ريب أن من خالط الكفار فإنه يضعف إيمانه ، يعرف ذلك من له قلب حي ، أما من كثف حجابه ومرض قلبه فلا يلاحظ ذلك ، نسأل الله العافية والسلامة .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : " وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفراً من غيرهم ، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيماناً من غيرهم ممن جرد الإسلام " [32].

خاتمة في ذكر بعض فتاوى العلماء في حكم السفر لبلاد الكفار لقصد السياحة:

سئل الشيخ العلامة المحدث الفقيه الشهيد سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب رحمه الله :
هل يجوز للمسلم أن يسافر إلى بلد الكفار الحربية لأجل التجارة أم لا ؟
الجواب : الحمد لله ، إن كان يقدر على إظهار دينه ولا يوالي المشركين جاز له ذلك ، فقد سافر بعض الصحابة رضي الله عنهم كأبي بكر رضي الله عنه وغيره من الصحابة إلى بلدان المشركين لأجل التجارة ، ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، كما رواه أحمد في مسنده وغيره ، وإن كان لايقدر على إظهار دينه ولا على عدم موالاتهم لم يجز له السفر إلى ديارهم كما نص على ذلك العلماء ، وعليه تحمل الأحاديث التي تدل على النهي عن ذلك ، ولأن الله تعالى أوجب على الإنسان العمل بالتوحيد وفرض عليه عداوة المشركين ، فما كان ذريعة وسبباً إلى إسقاط ذلك لم يجز ، وأيضاً فقد يجره ذلك إلى موافقتهم وإرضائهم كما هو الواقع كثيراً ممن يسافر إلى بلدان المشركين من فساق المسلمين ، نعوذ بالله من ذلك.

وسئل : هل يفرق بين المدة القريبة مثل شهر أو شهرين والمدة البعيدة ؟
الجواب : لا فرق بين المدة القريبة والبعيدة ، فكل بلدة لا يقدر على إظهار دينه فيها ولا على عدم موالاة المشركين لا يجوز له المقام فيها ولا يوماً واحداً إذا كان يقدر على الخروج منها .[33]

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة رقم 4873 مانصه :
" لايجوز السفر لبلاد أهل الشرك إلا لمسوغ شرعي ، وليس قصد الفسحة مسوغاً للسفر ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ) رواه أبو داود .
ولذا ننصحك بعدم الذهاب لتلك البلاد ونحوها للغرض المذكور لما في ذلك من التعرض للفتن والإقامة بين أظهر الكفار .." [34]

وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن حكم السفر إلى بلاد الكفار وحكم السفر للسياحة ؟
فأجاب قائلاً : السفر إلى بلاد الكفار لايجوز إلا بثلاثة شروط :
الشرط الأول : أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات .
الشرط الثاني : أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات .
الشرط الثالث : أن يكون محتاجاً إلى ذلك .
..... وأما السفر للسياحة في بلاد الكفار فهذا ليس بحاجة ..[35]
وقال أيضاً رحمه الله : " ... ولهذا أرى أن الذين يسافرون إلى بلاد الكفر من أجل السياحة فقط أرى أنهم آثمون ، وأن كل قرش يصرفونه لهذا السفر فإنه حرام عليهم وإضاعة لمالهم وسيحاسبون عنه يوم القيامة ..." [36] .
فالمرجو من فضيلة الشيخ إعادة النظر في هذه المسألة وبذل الجهد في تحريرها ومراجعة كلام أهل العلم ، والنظر في العواقب والذرائع المترتبة على التسهيل للناس في ذلك ، وصلى الله وسلم على محمد .
 

عبدالله بن سليمان آل مهنا
عضو الجمعية الفقهية السعودية
almohna9@gmail.com
 

---------------------------
[1] ( 2/390 ) .

[2] ( 5/142 ) .

[3] تفسير ابن جرير ( 18/435 ) .

[4] سنن أبي داود ( مختصر السنن 3/436 ح 2530 ) والترمذي (3/422ح1696 ) ونقل عن البخاري تصحيح إرساله ، و البيهقي في الكبرى ( 8/131 ) والصغرى ( 7/150ح3183 ) كلهم من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير ، وأخرجه النسائي في الكبرى - مرسلاً - ( 6/347ح6956 ) .
قال البيهقي رحمه الله : " كل حديث أرسله واحد من التابعين أو الأتباع فرواه عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر من حمله عنه فهو على ضربين : أحدهما : أن يكون الذي أرسله من كبار التابعين الذين إذا ذكروا من سمعوا منه ذكروا قوماً عدولاً يوثق بخبرهم فهذا إذا أرسل حديثاً نُظر في مرسله ، فإذا انظم إليه ما يؤكده من مرسل غيره أو قول واحد من الصحابة أو إليه ذهب عوام من أهل العلم فإننا نقبل مرسله في الأحكام ... انتهى المقصود منه " دلائل النبوة ( 1/39-40 )
قال ابن دقيق العيد رحمه الله : " والذي أسنده ثقة عندهم " الإلمام (2/454 ح 886 ) .
وقال ابن كثير عن هذا الحديث : " بإسناد صحيح " إرشاد الفقيه ( 2/298 ) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " وإسناده صحيح " بلوغ المرام مع حاشية ابن باز ( ح 1216 ص 697 ) .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله : " بإسناد صحيح ". مجموع فتاوى ومقالات ( 4/381 ) .
وقال الشيخ الألباني رحمه الله : " صحيح " إرواء الغليل ( 5/30 ) .

[5] مختصر سنن أبي داود مع معالم السنن ( 3/437 ) .

[6] المحلى ( 13/138 ) .

[7] نيل الأوطار للشوكاني ( 14/322 ) .

[8] سنن النسائي برقم ( 2568 ) ، قال الشيخ ابن باز رحمه الله : " بإسناد جيد " . مجموع فتاوى ومقالات ( 4/381 ) .

[9] رمز له السيوطي بالحسن ( فيض القدير 6/111 ) وقال الشيخ الألباني رحمه الله : حديث حسن ، صحيح الجامع رقم ( 6186 ) ، وقال في السلسلة الصحيحة : " وبالجملة فالحديث حسن بمجموع الطريقين " ( 5/436 ح 2330 ) .
قال الشوكاني : " والحديث وإن كان فيه المقال المتقدم لكن يشهد لصحته قوله تعالى ( فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم ) سورة النساء آية 140 . نيل الأوطار ( 14/322 ) .

[10] فيض القدير ( 6/111) .

[11] نيل الأوطار ( 14 / 322 ) .

[12] المسند برقم ( 19163 ) وسنن النسائي ( المجتبى 7/147 ) .

[13] المسند برقم ( 16206 ) ، قال ابن القيم رحمه الله : " هذا حديث كبير جليل تنادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه خرج من مشكاة النبوة " . زاد المعاد ( 3/677 ) .

[14] زاد المعاد ( 3/685 ) .

[15] المحلى ( 7/570 ) .

[16] المفهم ( 69-70 ) .

[17] المدونة ( 3/278 ) .

[18] مجموع فتاوى ومقالات ( 9/405 ) .

[19] مجموع فتاوى ومقالات ( 9/404 ) .

[20] فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم ( 1/91) .

[21] المجموعة الكاملة ( 2 272 ) .

[22] سبيل النجاة والفكاك ( ص 44-45 ) .

[23] انظر تفسير ابن كثير ( 4/300 ) .

[24] سبل الهدى والرشاد للصالحي ( 2/ 326 ) .

[25] للحجاوي ( 2/139) .

[26] مجموع فتاوى ومقالات ( 9/405 ) .

[27] الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ( 5 / 348 ) .

[28] انظر : الأجوبة السمعيات للشيخ إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن رحمه الله ( ص 83 ) .

[29] صحيح مسلم بشرح النووي ( 2/22 ) .

[30] الجامع لأحكام القرآن ( 5/418 ) .

[31] انظر مجموعة التوحيد ( ص 260 ) .

[32] اقتضاء الصراط المستقيم ( 1/488 ) .

[33] مجموعة التوحيد ( ص 390-391 ) .

[34] فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء ( 2 / 68 ) .

[35] مجموع فتاوى ابن عثيمين ( 3/24 ) .

[36] شرح رياض الصالحين ( 1/23-24 ) .

رابط فتوى الشيخ عبدالله السلمي : http://www.jawabk.net/vb/showthread.php?t=16136

 

 عبدالله آلمهنا
  • الكتب والبحوث العلمية
  • المقالات
  • الخطب المنبرية
  • الصفحة الرئيسية