اطبع هذه الصفحة


حِينَمَا زُجـِرَ مُرِيدُ الزِنَا !

عبد الله بن سعيد آل يعن الله

 
حصد موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع الشاب الذي استأذنه للزنا جُمَلاً من المعاني والعِبَر التي تلفِتُ انتباه كل ذي لُبّ ، لكي يتقمَّص تلك الدُّرر والخطوات التي تجعل المرء برتبة سامية في تفكيره وعلاجه للمشكلات الطارئة ، التي تطرأ على الناصح أو الراعي كما طرأ موقف هذا الشاب مع الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه !

فرقٌ بين موقف الرسول وأساليبه وخطواته مع الشاب وبين موقف من كان في حضرة هذا الموقف الذين اكتفوا بالزجر ليس إلا ! أترككم مع الحدث !!

عن أبي أمامه قال : إن فتىً شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم .. فقال : يا رسول الله ! ائذن لي بالزنا ! فأقبل القوم عليه فزجروه .. وقالوا مه مه ! فقال : اِدنُه ، فدنا منه قريباً ، قال : فجلس . قال أتحبُّه لأمك ؟ قال : لا والله ، جعلني الله فداك . قال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم . قال أفتحبه لابنتك ؟ قال : لا والله يا رسول الله ! جعلني الله فداك . قال : ولا الناس يحبونه لبناتهم . قال أتحبُّه لأختك ؟ قال : لا والله ، جعلني الله فداك . قال : ولا الناس يحبونه لأخواتهم . قال أتحبُّه لعمتك ؟ قال : لا والله ، جعلني الله فداك . قال : ولا الناس يحبونه لعماتهم . قال أتحبُّه لخالتك ؟ قال : لا والله ، جعلني الله فداك . قال : ولا الناس يحبونه لخالاتهم . قال : فوضع يده عليه ، وقال : اللهم ! اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وحصن فرجه . فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء . صححه الألباني ..

والآن إليكم التفاصيل !


أولاً .. لنتأمل رحابة صدر الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث أن هذا الذي يريد المعصية ذهب بنفسه لمحمد صلى الله عليه وسلم لكي يستأذنه ويخبره بما يكن صدره ، وهذه همسة لمن يقوم على توعية الناس ، ومن ولاَّه الله رعيَّة استرعاه الله عليها ! ( لماذا الابن أو البنت لا يلجئون للأب أو الأم عند الوقوع في الذنب أو الخطأ ؟ لماذا بعض أئمة المساجد والخطباء والناصحين لا يبادر إليهم الناس لعلاج مشاكلهم الخاصة والبحث عن تجاوز أخطائهم التي يقعون فيها ؟ لماذا الطلاب أو الطالبات يشعرون في بعض الأحيان بالحواجز المنيعة بينهم وبين المعلمين والمعلمات ؟ ) ..

أسئلة كثيرة ينبغي أن نطرحها على أنفسنا من أجل أن نتمتع برحابة الصدر التي تجعلنا نتعاون على تجاوز أخطاء من هم بحاجة إلينا بشكل مباشر ! التكلف .. التصنع .. الكبر .. الخلق السيئ .. قلة الفقه في التعامل مع المخطئ .. القسوة .. عبوس الوجه .. الفضاضة .. التفرد .. يصنع الفجوة بين المصلح ومريد الصلاح !!

ثانياً .. جاء الشاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهمُّه الوحيد أن يقضي شهوته في كل وقت ، حيث كسر حاجز الحياء عندما طلب الإذن من رسول الله في حضرة من كان جالساً مع محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا يفيدنا بأن الشاب مهما ساءت إرادته وقبُح فعله فإنه يتميز بجوانب أخرى تجعل المرء يتوازن في التعامل معه ومراعاة شعوره عند خطأه ، وما موقف الرسولِ مع شارب الخمر الذي تكرر مجيئه على الرسول ببعيد عنا حينما قال لا تسبوه ، فو الذي نفسي بيده إنه يحب الله ورسوله ، فهذا الشاب ما جاء إلى رسول الله إلا لشدة خوفه من المعصية ولذلك قال : ائذن لي في الزنا !

ثالثاً .. تأمل كيف حكـَّم الرسول عواطفه وعقله في تعامله مع المخطئ ، على الرغم من ردة فعل القوم حينما زجروه ، وهذا يشير إلى أن المصلح لا يتأثر بالجو المحيط عند حصول الخطأ لكي لا يقع في أخطاء عدة ، بل يتأنى ويدرس حالة المخطئ من جميع الجوانب ، ومع زجر القوم لهذا الشاب يصمت الرسول صلى الله عليه وسلم ويشير إليه ( ادنه ) أي أقرب مني !

رابعاً .. تصور موقف هذا الشاب مع الجو الذي يعج بالزجر من الحاضرين ، ثم تصور موقفه حينما دعاه الرسول للقرب منه ! قرَّبه صلى الله عليه وسلم ليشعره بالأمان ! قرَّبه صلى الله عليه وسلم لكي يضمد جراح الزجر ويبعده عن ضجيجه ! قرَّبه صلى الله عليه وسلم لكي يبلغه الرسالة والنصح بالتي هي أحسن! هذا هو الحبيب يشير إلينا أن نهيئ المخطئ تهيئة نفسية لكي يقبل الصواب ، لأن بعض المربين لا يفقه أساليب جذب المخطئ التي تجعله يقلع عن خطأه! وحال بعض بني البشر حينما يقابلون المخطئ ينهجون الصراخ والسباب والضرب قبل التفاهم والحوار ، وهذا دأب العاجزين الذين يستثقلون صاحب الخطأ عند خطأه ، إنه لا يذهب عن مخيلتي بعض معلمينا الذين واجهوا الطلاب حال حصول الخطأ بالعبوس والفضاضة والضرب والشد والجر ! ولا يغيب عن ذهني بعض الناصحين الذين يستغلون المخطئ لأغراضهم الذاتية ، وإضعاف شوكتهم بالنظرات المتكلفة ! أسلوب تقريب الرسول للمخطئ أسلوب تربوي يحوي جملا من العبر والمعاني التي ينبغي أن يسلكه كل مربي مع المخطئ ..

خامساً .. ماذا كان حال المخطئ حينما طلب منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - القرب منه ؟ الاستجابــة مبــاشرة ! لماذا ؟ لأنه شعر بالأمان الذي يجعله يقرب من غير تردد ، فأساليب الرسول مغناطيسا لهذا الشاب الذي قرب منه فورا بعدما طلب قربه ! إنه حينما يقرب منَّا المخطئ مباشرة عند طلبنا بذلك فإننا نقطع شوطا ليس بالهين في تهيئته لتغيير خطأه ، وحال بعض المخطئين عندما يُطلبون من المعلمين والآباء هو الكرُّ والفرُّ ، لماذا ؟

سادساً .. ( فجلس ) وهنا تكتمل تهيئة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهذا الشاب التهيئة النفسية الكاملة لكي يبدأ في مشواره الذي يعدله عن قناعته وحبِّه للزنا .. إن تهيئة الرسول أمر ضروري يستخدمه في أساليبه مع المسترشد أو المخطئ ، وتهيئته للشاب الذي يريد الزنا ليس موقف وحيدا في أساليبه بل إن سيرته تزخر بذلك ، فمعاذ بن جبل أراد الرسول أن يعلمه بأن لا يدع في دبر صلاته اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك فكانت تهيئة الرسول بـ ( والله إني أحـبُّك ) ثم أخبره بالحديث !

وعلَّم الرسول ابن مسعود - رضي الله عنه - التشهد بعد ما قبضَ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - يد ابن مسعود بيده اليمنى ثم وضع يده اليسرى عليها ! ونِعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل كانت تهيئه وبداية انطلاقة لابن عمر رضي الله عنه !

سابعاً .. احتوى هذا الموقف المربي رصيداً عاطفياً بالحال واللسان من قِبَل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع هذا الشاب ، فبالحال ( ادنه ) ، ( فدنا منه قريبا ) ، ( فجلس ) . أما اللسان ( أتحبه لأمك ) ، ( أتحبه لابنتك ) ، ( أتحبه لعمتك ) ، ( أتحبه لأختك ) ، ( أتحبه لخالتك ) !

إن الحديث العاطفي في بعض المواقف يكون مفتاحا مهما للإقناع ، إذ أن هذه البداية من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بهذا الأسلوب تدل على فقه الرسول بحال المخطئ !

ثامناً .. وضع حبيبنا - صلى الله عليه وسلم - يده على صدره حينما دعا له ، وهذا يشير إلى معجزته صلى الله عليه وسلم بشفاء الشاب مباشرة حينما وضع يده على صدره ، ومع ذلك فإن وضع يده على صدره تعتبر لمسة نفسية تشفي الرغبة التي كانت تتحدث بها نفسه عن هذه الجريمة ، وهذه من الوسائل التي استخدمها محمد عليه الصلاة والسلام في تضميد جراح هذا الشاب وغيره ، حتى أن الرسول ضم الحسن على صدره بعد ما قال له اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه كما في صحيح مسلم ، وأصاب سعد بن أبي وقاص بعد الفتح مرض شديد، فعاده النبي فدعا له ووضع يده على صدره وقال : اللهم اشفِ سعدا ! قال سعد في أواخر حياته : فو الله مازلت أجد برد يده عليه الصلاة والسلام علي صدري حتى اليوم . !

تاسعاً .. لعلنا لا حظنا استخدام الرسول صلى الله عليه وسلم لأسلوب الإقناع الذي يعتبر هو القوة الخفية أثناء التوجيه ، وعندما تتأمل حال الرسول في الحديث تجد بأنه نهج أسلوبا من أساليب الإقناع ( قال أتحبه لأمك ؟ قال : لا والله ، جعلني الله فداك . قال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم . قال أفتحبه لابنتك ؟ قال : لا والله يا رسول الله ! جعلني الله فداك . قال : ولا الناس يحبونه لبناتهم . قال أتحبه لأختك ؟ قال : لا والله ، جعلني الله فداك . قال : ولا الناس يحبونه لأخواتهم . قال أتحبه لعمتك ؟ قال : لا والله ، جعلني الله فداك . قال : ولا الناس يحبونه لعماتهم . قال أتحبه لخالتك ؟ قال : لا والله ، جعلني الله فداك . قال : ولا الناس يحبونه لخالاتهم .

عاشراً .. حرص الرسول أن يبتهل إلى الله بصلاح هذا الشاب ، فقال : اللهم اغفر ذنبه ، وطهِّر قلبه ، وحصِّن فرجه !

ونلحظ من هذا الموقف وهذا الدعاء ، هو سماع الشاب لهذه الدعوات ، فلا شك بأنك عندما تسمع أحدا يدعو لك ، أن هذا مؤشراً لمحبتك وقبولك من لدن الآخر ، فماذا نتصور حينما يسمع منا المخطئ بالدعوات الزاكيات الطيبات !!

أخيراً .. فقه الرسول بحال المخطئ فقد أوجز وأبلغ في وقت يسير ، حيث لم يتكلف ذكر الأدلة الموجودة في القرآن ، ولم يذكر العقوبة المترتبة على ذلك ، ولم يحصل التوبيخ أو التحذير ، بل عالج ذلك بكلمات يسيرات بأساليب راقية جعلت هذا الشاب يخرج من عند الرسول والزنا أبغض شيء لديه !

لنتأمل تعدد وسائل اهتمام محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الشاب في هذا الموقف القصير .. طلب قربه ! أجلسه بجواره! حدثه بالكلمة الطيبة ! هز عاطفته ! أقنعه ! ألان كلمته! وضع يده عليه ! دعا له !

" وقصوري يخفي العبر والدرر من هذا الموقف " تقبلوا تحياتي ..


السبت 22 / 12 / 1429هـ
بريدة
Assy_2005@hotmail.com

 

عبدالله آل يعن الله
  • أفكاردعوية للمسجد
  • أفكار دعوية
  • رسائل دعوية
  • نسائيات
  • رياض الخطباء
  • مصابيح رمضانية
  • موسميات
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية