اطبع هذه الصفحة


الديمقراطية على أنقاض الشريعة ( قراءة في أشواق الحرية )

عبدالوهاب بن عبدالله آل غظيف
@wahhab11

 
بسم الله الرحمن الرحيم


مقدمة :

كمعضلة كبرى تعانيها الأمة وتعتبر محورية في جلب مزيد من المعضلات كان ( الاستبداد ) على سدة المشاكل التي واجهت من اشتغلوا بهمّ النهضة ، و ليس ثمة شك في أن اتساع الحديث عنه – كمعضلة – يشكل بحد ذاته مكتسباً كبيراً في سبيل النضج السياسي الذي ينشده كل مصلح لمجتمعه ، وليس ثمة شك أيضاً في أن شريحة عريضة ممن تصدى لهذه المشكلة بحثاً و دراسة كان عمله هذا من أحوج ما تحتاجه الأمة ، يقدره له  كل غيور عليها يروم لها تقدماً ورفعة .

إلا أنه وفي مظهر من مظاهر التداوي بالمحرم سُربت كثير من المفاهيم المنحرفة تحت ذريعة الاستبداد و نشدان الخلاص منه ، فتشبع بعضهم بها وتمرسوا على أساليب التحايل والتلاعب بالنصوص والأحكام ، وغرهم ما وجدوه في ساحة الفكر الذي يقدم لهم مقررات إصلاحية مسبقة مرفق معها (مرشد التأويلات والتنصلات )  وليس يخفى أن المنتج الفكري كله يقوم على التكسب بشعار الإصلاح ، وأن يمينه ويساره – مع تخالفه و تهافته –  يقدم تحت كومة شعارات من النهضة والإصلاح والتنوير والتطوير والحضارة ... الخ ، فحتى تلك الأفكار الإلحادية القميئة التي بنيت على دعائم من الشهوات البهيمية والفوضى العبثية يقدمونها في الوسط الفكري وقد طبع عليها شعار الإصلاح والتنوير ، والأمرُ كما قال تعالى : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) .

وذات قلة حظ من التأصيل الشرعي واندفاع في البحث عن وصفة الإصلاح ، تأثر بعضهم بأطروحات تدعيه وفي طياتها الإفساد ، واتسمت هذه الأطروحات بسمتين خطيرتين :

* الأولى : الربط بين هذه المعضلة ( الاستبداد ) وبين علوم السلف الدينية وإرثهم الذي يشكل الهوية الحقيقية للأمة ، وآلياً ينتج هذا الربط وصفة العلاج في التخلص من فهم السلف وعلومهم .
* الثانية : الحديث عن النظام السياسي الأمثل من خلال النموذج الغربي اللاديني ، ومحاولة استيراد هذا النموذج بحذافيره دون مراعاة لما يصطدم منه بأحكام الشريعة أو بالهوية بعموم .

فالسمة الأولى تتجلى في كثير من الأطروحات التي جعلت من مواجهة الاستبداد مواجهة مع نصوص نبوية أو مفاهيم سلفية ، ولا شك أن البوصلة ما كانت لتنحرف عند من سلك هذا المسلك لو أخذ حظه الكافي من علوم الشريعة ، بل لو قرأ في تاريخ الإسلام وجال بناظريه يقلب صفحاتٍ من سير السلف المحفوظة ،  ليقف على براءتهم مما عشش في ذهنه من أوهام .

وأما دعاة الديمقراطية الغربية فطرحهم متسم بالثانية ، فلقد كان من نتائج إيمانهم بها ودعوتهم إليها أن تصادموا مع مفاهيم شرعية فتحايلوا عليها وحرفوها ، وفي المقابل  أكدوا مفاهيم لا دينية مرقعة و (مسمكرة ) وألبسوا بها ، ومرروها إلى عقول الناس ، دون وعي مع حسن الظن .

وهنا إشارة تستدعي تأمل اللبيب : فإن دعاة الديمقراطية الغربية لم يقوموا بأية تعديلات عليها ، ولكنهم حينما أرادوا إسقاطها على واقع المسلمين اضطروا لتعديلات في أحكام الشريعة (من قبيل زعم الحرية غير المسقوفة بالشرع ، وإنكار حد الردة ، ونفي مفهوم الذمة ... الخ ) مما يعطي مؤشراً عن طبيعة المقص الذي أعملوه ، ووجهته التي اشتغل بقصها ذات ضلال  !

هذا وإنّ المتأمل في حال أصحاب الأطروحات الإصلاحية التي اتسمت بالسمتين السابقتين ( ربط الاستبداد بتراث السلف أو ربط العلاج بفكر الغرب ) يجدهم بين رجلين :

أ‌)
  أحدهما ثائر متأزم ، تكفيه الثورة على الاستبداد في أي اتجاه كانت هذه الثورة ، وعليه : فليس مستعداً لسماع اعتراضٍ على مشروعٍ دام يرفع لافتة الإصلاح ، هذا إذا لم يصنف الناقد في خانة المستبدين ظلماً وتعدياً  .
ب‌)
  وآخر عاقل منصف ، لا يمانع من تقبل الحق إن ظهر له خطأ في طريقه نحو الإصلاح ، ولا يكتفي بالنية الحسنة عن تلمس الطريق الأقوم .

و هذه المقالة ليست موجهة إلى الصنف الثائر  الذي لا يهتم بمعرفة الحق ولا ينشد الهدى ، قدر توجهها إلى ذلك المحاذر قول الله تعالى : ( أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً ) أن ينطبق عليه ، المؤمن بأن أشد الناس خسارة بخبر الله ( الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) المدرك أنه ما ضل سعيهم إلا من جهة اكتفائهم بحسن المقصد ، والنية ( الطيبة ) مع إهمالهم تفتيش الطريق الذي سلكوه .

 إن هذا الباحث عن صواب العمل من وراء صواب المقصد هو من تهرول إليه هذه الأحرف كحق له على كاتبها .

وحيث ناسب عند هذه النقطة ذكر الغرض من هذه المقالة ، فإنها وقفة متواضعة مع إحدى الكتابات المروجة للديمقراطية ، لنسلط الضوء على الأفكار والمضامين التي تروج معها ، مما يتنافى مع الشريعة الإسلامية .

وتأتي أهمية الوقوف مع ( أشواق الحرية ) من عدة نواحي ، ليس أقلها شيوعها بين الشباب ، وانطلاء ما فيها على كثير من الفضلاء كون أسلوبها يقفز على كثير من الإشكالات دون شعور القارئ البسيط .

وقبل الولوج في تقليب أفكار الكتاب ومضامينه رأيت أهمية الكتابة باختصار شارحاً حقيقة الخلاف حول الديمقراطية ، لا سيما وأن هذا الخلاف قد تعرض لعملية تشويه كبيرة ، وجد روادها في ذلك الأسلوب فرصة للتخفف من تبعات هذا الخلاف ، ومحاولة للإغضاء من صوته ، سواء على شكل اتهام المخالف بأنه مدجن لا يقبل بخيار الأمة ، أو على شكل آخر يكمن في تنميط صورة عن المخالف من خلال تحفظات غير تلك الرئيسة ، أعني بعض التحفظات الهامشية التي لم يتفق عليها المعارضون ، ولا تشكل التحفظ الأقوى ، فتحفظٌ من قبيل : ( أن المشاركة السياسية في الديمقراطية مفتوحة للعوام ونحن نريدها لأهل الحل والعقد فحسب ) لا يعدوا أن يكون رأياً يناقش في جملة الآراء ، ولا يمثل النقطة التي تجعل من الديمقراطية ( مفهوم يخالف الإسلام ) .

ولعل أقرب شاهد لعملية التنميط هذه ، كلام قاله كاتب الأشواق في لقاء أجري معه قبل مدة يسيرة ، جاء فيه وصف رفض الديمقراطية كما يلي : (
وهذا الموقف الرافض ناتج من أمرين. الأول عائق ديني مفاده أن الديمقراطية هي مُمارسة غير مشروعة في الإسلام، وأن التراث الإسلامي والتجربة التاريخية الإسلامية لا تتضمن تجارب انتخابية، لذلك هي [هكذا] فإن فكرة الانتخابات مرفوضة ولا تُمثّل تراثنا وثقافتنا )

ومثل هذا التصوير التسطيحي لرفض الديمقراطية يجيء غالباً في مقامات يتابعها من لا جلد عنده على التفتيش و التتبع ، كمثل هذا اللقاء الذي أجري في أحد المنتديات العامة ، ولذا كان من الضروري برأيي الحديث عن نقطة الخلاف بمعزل عن نقد ما في الكتاب ، ليقرأها من لا يروق له قراءة النقد .

وبعد الحديث عن نقطة الخلاف ، أدلف مع الكتاب في أول أفكاره : ( إجرائية الديمقراطية وبعدها عن المضمون الفكري ) ثم أتابع القراءة وقوفاً مع أبرز أفكار الكتاب : ( مبدأ الشورى و آلية الديمقراطية ، الديمقراطية كعهد وميثاق ، استحالة تصويت الغالبية لتنحية الشريعة ، تطبيق الشريعة وحمايتها مهمة الفرد أم الشعب ، الشرعية الدينية والشرعية السياسية ) وبعد الوقوف مع هذه النقاط الست أعرج على ملاحظات أخرى تفصيلية لا تقل عما سبق أهمية .

على أن مهمتي الأولى في قراءة هذا الكتاب : الكشف والتوضيح لحقيقة الأفكار مما أحسبه كاف في بيان خطورتها ، وتبيين أخطاء الاستدلال ولوازم الأقوال ، وما يجيء من تأصيل للمسائل فهو تبع .

وأختم هذه المقدمة بلفت النظر لأمرين مهمين : فإنّ التعامل مع الأفكار في سياق هذه القراءة ليس تعاملا مع شخص الكاتب ، فلا يعني الحكم على الفكرة حكما على كاتبها  ، كما أنّ هذه القراءة تعتني بنقد الفكر المخالف الذي يروج تحت ستار الديمقراطية ، مع الإقرار بسمو المشروع الإصلاحي ( المعتني بالعدالة وحفظ الحقوق والمال العام ورفع المظالم .. ) عن هذه المخالفات ، ومع الإقرار بضرورة الإصلاح و فضيلته ، والاعتراف بما يعانيه المجتمع من قصور الجهود وتقاعسها في هذا المضمار .


حقيقة الخلاف حول الديمقراطية :

لم يكن الحكم بـ ( مخالفة الإسلام و مناقضة الشريعة ) صادراً على آليات ديمقراطية كالانتخابات ، إنما مورده الحقيقي تلك الديمقراطية المستوردة بحذافيرها ( آليتها ومضامينها الفكرية ) ذلك أن هذه المستوردة تخالف في مفهومها الإسلام من جهة أن النظام السياسي فيها غير مأطور بالشرع ، لا من حيث الذين يختارون ولا من حيث موضوع الاختيار ، فالذين يختارون هم من تحققت فيهم صفة المواطنة ولو لم يكونوا ملتزمين بالإسلام ، والموضوعات المطروحة للاختيار : لا تستثني الشريعة ولا حاكميتها !

وينتج ذلك: التخيير في تطبيق الشريعة بما لا يتواءم مع وصف الإسلام ، كما ينتج ضرورة كفالة حرية التعبير لكل الآراء حتى تلك التي تطالب بتنحية الشريعة ، والسماح بقيام أحزاب وبرامج سياسية معيارها الأول توجهات الناس وآراؤهم ولو خالفت الشرع ، فتقوم الأحزاب العلمانية والليبرالية وأحزاب تمثل المذاهب المنحرفة ويستوي الجميع في حقوق التعبير والمشاركة في نواحي الحياة ، والتبشير بالأفكار والبرامج ، واليد لمن يحوز الصوت أكثر !

ولا عزاء بعد ذلك لحكم شرعي في مرتبة ( حد ) وهو حد الردة ، الذي يصبح في هذا الجو المستورد جريمة ومصادرة لحرية التعبير ، كما أن هذه الثقافة الديمقراطية تنطوي أيضاً على تجريم كل تعزير لمن يخالف الشريعة ، في مخالفات صريحة لمفهوم العقوبات في فقه المسلمين !

وحتى تتضح صورة الخلاف أذكر مثالين مما ينبني عليه :


أ‌)
 لو اجتمع عدد كبير من الناس يشكلون 60% واتفق رأيهم على رفض الحكم بالشرع كلية أو رفض شيء منه لوجب على ولي الأمر في الدولة المسلمة أطرهم بالقوة على الشرع ولو بالحرب ، فإن تواطأ معهم فإنه يفقد شرعيته ويتحقق فيه وصف ( الكفر البواح ) الذي يجوز الخروج عليه ، فيجب على الـ 40% الخروج عليه وتولية من يحكم بالشرع ( مرهون بالقدرة طبعا ) .

أما في الدولة الديمقراطية فهذا من الاستبداد ، والقانون عندهم على رأي الأكثرية ( 60% ) حتى وصل الحال ببعض من يؤمن بالديمقراطية ويدعي الإسلام أن يخطئ أبا بكر في حرب قبائل العرب مانعي الزكاة والمرتدين اطرادا مع أصله الديمقراطي !!

ب‌)
 لو طالب واحد أو أكثر من الناس بتنحية الشرع أو بمبدأ كفري فهو في حكم الدولة المسلمة مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل ، أما الدولة الديمقراطية فتعد هذا الحكم الشرعي من الاعتداء على الحريات ، ذلك أن أصل ( حرية التعبير ) فيها مقدم على أصل ( الشريعة ) بل إن الشريعة فيها لا تكتسب القوة إلا من خلال حرية التعبير ، فالتعبير حاكمها ولا تحكمه !

وبالتأمل في المثالين نجد أن الأول إن صنف في دائرة نادر الوقوع فإن الثاني لا يخلوا منه واقع ، فلن تعدم الأمة زنديقا يطالب بتنحية الشرع ، على أن ندرة وقوع الأول لا تضر بوجود الانحراف في التصور الديمقراطي .

وباختصار : فالديمقراطية تحيد الهوية الإسلامية للدولة ، وإن قبلت بتحكيم الشريعة في حدود لا تعلوا على مبادئها ، وباشتراط يتمثل في حصولها على أصوات الناخبين .

وهنا تجدر الإشارة إلى أن الديمقراطية بهذه الصورة لا تزال من حيث العملية السياسية في خانة الأحلام ، ولا تظهر مؤشرات على إمكان تطبيقها ، لكنها في جانب الأفكار والمفاهيم عادت بانحرافات خطيرة ، ومررت تصورات لادينية منكرة ، فكان المتحفظون عليها يخوضون معركة ضد أفكار تستهدف الشرع والدين في واقع الأمر ، وإن تلفعت بفكرة سياسية لا وجود لها على أرض الواقع .

بعد هذا التوضيح المختصر نقف على سؤال : هل قدمت أشواق الحرية ديمقراطية ذات مضامين فكرية مخالفة ؟ أم كانت الديمقراطية فيها مجرد آليات لتحقيق الحكم الشوري فحسب ؟

إن المتأمل في هذا الكتاب يجد أنه قد تشبع بفكرة الديمقراطية الغربية ، وتفانى في تبريرها رغم ما تنطوي عليه من محاذير ، فمثلاً :

1-
 تقوم الديمقراطية على مبدأ عام " يتمحور حول عدم مشروعية استخدام العنف في التغيير السياسي " [ص13]
2-
لا تقوم على مبدأ الحرية المطلقة لأنه لا حرية مطلقة أصلاً ، لكنها في ذات الوقت لا تحد بسقف الشريعة ، بل يحق للشعب اختيار دستور مخالف للشريعة ومناقض لها . [انظر ص 33 وما بعدها]
3-
المطالبة بتنحية الشريعة سائغة في النظام الديمقراطي ما لم تخالف مادة دستورية منصوص فيها على منع هذه المطالبة. [ انظر ص 55 – 61 ] 
4-
المواطنة والمساكنة على أرض واحدة تورث حقوق وواجبات منها حق المشاركة في الاختيار ، مما يعني تجويز مشاركة غير المسلمين [ انظر ص 68-71]
5-
 النظام السياسي فيها محايد فهي آليات للاختيار " سواء أنتج هذا الاختيار سلطة دينية أم سلطة علمانية " [ص83]

تساؤل آخر يطرحه أحدهم ممن قرأ مقدمة الأشواق : حيث أكد المؤلف على أنه يروج للديمقراطية بصفتها ( أداة وذات طابع إجرائي ) بعيداً عن أي فكر أو أيديولوجية ، فكيف نوائم بين هذا الكلام وبين ما نؤكده هنا من حمولتها الفكرية ؟

والجواب على هذا السؤال يدفعنا إلى الولوج مع الكتاب ، والله المستعان ومنه وحده التوفيق .


1)
 الطابع الإجرائي للديمقراطية وخلوها عن المضمون الفكري :

في طليعة الكتاب وبعد تعريف الديمقراطية يتحدث الكاتب عن ( الطابع الأداتي الإجرائي لهذا النظام ) محاولاً نفي صلتها بأي جذر فلسفي أو أيديولوجية فكرية ، معتمداً في ذلك على نقول لمفكرين وفلاسفة غربيين  ( جون لوك و جان جاك روسو و جان لابيار و صاموئيل هانتغون و جوزيف شومبيتر و جون رولز و جاك ليفلي و فوكوياما ) .. إضافة إلى " عشرات النصوص والتجارب والاستخدامات النظرية والعمليّة التي تؤكد على الطابع الإجرائي والتنظيمي – لا الأيديولوجي – للنظام الديمقراطي وأنه عبارة عن آليات وأدوات إجرائية لتنظيم الحياة السياسية " كما يقول [ص14-16] ، وبالطبع فهو يرى أنه بذلك يقطع الطريق على من يقدمون اعتراضات فكرية على الديمقراطية .

وقبل مناقشة هذه الدعوى تجدر الإشارة إلى أن الكاتب في سوقه للآراء بهذا الصدد مارس عملية انتقائية اقتصر فيها على ذكر رأيه وكأنه الحاسم في مسألة الديمقراطية رغم أن هناك آراء مقابلة تربط بين الديمقراطية وبين القيم والمضامين الفكرية كالحرية والعلمانية وتحييد الدين وغيرها .

ثم لو كان الأمر في الديمقراطية كما يقول المؤلف (مجرد أدوات وإجراءات) فلماذا يصر في كتابه على الربط بين تحكيم الشرع وبين تصويت الأكثرية ؟ ولماذا لا يعترف بسمو الشريعة عن تصويت الناس فضلاً عن لزوم تنحيتها كخيار سياسي حال تصويتهم لغيرها ؟ لولا أن ثم مضامين فكرية تجعل من الإقرار بمفهوم (حاكمية الشريعة ) ولو خالف رغبة الأكثرية إقراراً ممتنعاً ،كونه ينسف هذه المضامين من أساسها .

على أنّ ثمة تداخل بين ما هو إجرائي وما هو موضوعي ، حيث لا يمتنع أن يكون للإجرائي في حقلٍ ما أبعاد ومضامين فكرية ، وذلك يختلف وجوداً وعدماً باختلاف منظومة الأفكار والمفاهيم التي يحاكم إليها ذلك الإجرائي ، فمثلاً : الإجراءات في حقل العبادة ، سنجد أنها إذا ما عُرضت على منظومة صوفية لتقبلتها بصفتها إجراءات لتحقيق مفهوم العبادة ، بينما ذات الإجراءات لو عرضت على منظومة سلفية لكانت مصادمة لمفهوم العبادة ومنافية له إذا لم يكن منصوصاً عليها لكون المجال التعبدي توقيفي ، فهي إذاً صادمت مفهوم التوقيف رغم كونها إجراءات ، وغني عن القول إن الصوفي لا يحمل حجة في وصف الإجراء ليروج به عبادات لم ترد ، وأن عليه مناقشة المفهوم الذي يعارض هذا الإجراء وهو مفهوم التوقيف  ، كذلك الأمر في الإجراءات الدنيوية البحتة حيث لا يجوز الاحتجاج للإجراء الذي ينافي شيئاً من الأحكام الشرعية ( كإجراءات العقود المالية المحرمة ) بكونه إجراءاً دنيوياً لا يشكل فكرة ولا يتصل بفلسفة !

ورغم أنني أتحدث في مقدمة بدهية حاصلها أن وصف " الإجرائي " لا يكفي في ذاته لتبرير فعل ما ، إذا ما كان يصطدم بشيء من المفاهيم والأحكام الشرعية ، فإن السؤال الوارد هنا : من أين دخل على الكاتب الاحتجاج بـ ( إجرائية الديمقراطية ) ؟

والجواب يكمن في تلك النقول التي اعتمد عليها الكاتب في تأكيد  " إجرائية " الديمقراطية ، والتي كان أبطالها فلاسفة ومفكرون ملحدون وكفار لا يمكن الثقة بإطلاقهم حكم " الأدواتية " على شيء ما دون الرجوع إلى العلم الشرعي  وتقريرات رجاله المشتغلين به ، فإن هؤلاء الكفرة حينما يمنحون وصف ( الإجرائية والبعد عن الجذور الفلسفية ) لا يراعون أحكام الشريعة الإسلامية أو فكر علماء المسلمين ، إنما يقررون هذه الحقيقة بناء على بعدها من فلسفتهم هم ، و ما يرون من علاقة بين فلسفتهم المادية الكافرة وبين هذه الديمقراطية .

وانظر بالله عليك إلى ذلك المأزق الذي وقع فيه الكاتب مع تلك النقول التي اعتمد عليها في بيان الطابع الإجرائي و نفي المضامين الفكرية عن الديمقراطية :
حيث ينقل عن روسو تعريفه للديمقراطية " باعتبارها تعبيرا عن إرادة الأغلبية التي هي ( صاحبة السيادة والحكم النهائي فيما يتصل بالصواب سياسيا ) .. " [ص15] وبمنتهى الصراحة فإن روسو الذي لا يؤمن بالإسلام كدين يهديه للصواب سياسياً لا يلام إن هو فهم الديمقراطية كإجراء يقرر الصواب السياسي من بين ركام الشكوك والحقائق الضائعة ، لكن ما بال المسلم الموحد الذي يستمد الحكم النهائي بالصواب السياسي وغيره من الإسلام ؟ كذلك نقله عن جون رولز " الذي أكد على حيادية العملية الديمقراطية وعدم ارتباطها بالمفهوم العلماني " [ص15] فلست ألوم هذا الجون الذي لا تشكل حيادية النظام عنده مصادمة لدينه ، لكن ما بال المسلم يطير جذلاً بهذه الحيادية التي تصادر الهوية الإسلامية للنظام السياسي ؟ و هذا فوكوياما " حين قال : إن الديمقراطية عبارة عن الحق الشمولي في الاشتراك في السلطة السياسية . أي الحق الذي يملكه كل المواطنين في الانتخاب وفي المشاركة في الحياة السياسية " [ص16] ولا يلام هذا الفوكو وهو لا يصادم بهذا الكلام تقريرات فلسفته بشأن ( المسلم ) و ( الذمي )  ولكن اللوم ينصب على المسلم الذي يعي هذا التفريق عند أبناء دينه على الأقل !

كأني بأحدهم يقول : نحن لا نرى في حيادية النظام الديمقراطي بأساً ولا نرى في مشاركة اليهود والنصارى في الحياة السياسية للدولة الإسلامية مخالفة – كما هو رأي الكاتب – ، والجواب عن هذا الإيراد : أن الكلام يعود هنا إلى البحث الشرعي بتفتيش علوم الشريعة والبحث عن أحكامها لنتفاهم حول هذه النتيجة ، ويبقى مأزقاً ومنهجية خاطئة ما فعله المؤلف من الاعتماد على كلام الكافرين ليقنع المسلمين – السلفيين !! – بإجرائية الديمقراطية وبعدها عن المضامين الفكرية !


2)
 مبدأ الشورى ، وانطواء الديمقراطية على آلية لتحقيق الشورية :

معتمداً على حكمه السابق بإجرائية الديمقراطية يقرر المؤلف في مواضع من كتابه التفريق بين ( الشورى ) وبين ( الديمقراطية ) بصفة الأولى تمثل مفهوم ومبدأ لا ينطوي على آليات وأدوات لتنفيذه ، بينما الثانية تعبر عن هذه الآليات والأدوات المفقودة [ انظر : عن الشورى والديمقراطية ص 25 ] .

في الحقيقة أن هذا الشرح مبني على دعوى إجرائية الديمقراطية ، وهي دعوى لا نسلم بها – كما مر معنا في الفقرة السابقة – فالديمقراطية تحمل مفهوماً مغايراً للشورى ، وإن انطوت في ذات الوقت على آليات ، فالشورى مبدأ وقيمة ، والديمقراطية مبدأ وقيمة وآلية ، يتمثل مبدأ الشورى في كونها شورى مؤمنين يضعون نصب أعينهم : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) وأما الديمقراطية فهي شورى وضعية لا تلتزم بضوابط الشرع ولا تحد به ، تضع نصب عينها حرية الفرد واحترام إرادته .

ورغم أن المؤلف يتظاهر بتجريد الديمقراطية من المفهوم ، ويحاول تصويرها كآلية ، إلا أنه لم يتسق مع هذا الزعم ، ففي موضع آخر ، وتحت عنوان : ( حدود الشورى وحدود الديمقراطية ) يسوق كلاماً يظهر فيه إدراكه لحقيقة ( المفهوم ) المغاير للشورى والذي تنطوي عليه الديمقراطية ، فيقول : ( يشير البعض إلى أن الشورى الشرعية محكومة بطبيعتها بسقف الشريعة ، بينما الديمقراطية تقوم أساساً على مبدأ الحرية المطلقة في الاختيار وهذا يعني أنها قد تأتي بما يناقض الشريعة ) [ص33] وبعد أن ساق هذه الدعوى كان القارئ بانتظار كلام يجيب على هذه الإشكالية ، أعني إشكالية خضوع الديمقراطية للشريعة من عدمها ، حيث هي الفارقة بين مفهومي الشورى والديمقراطية ، وهي الموضوع الأساس في هذه الدعوى ، إلا أن المؤلف التف على الجواب بقوله : ( هذا التقسيم برأيي ينطوي على افتراض خاطئ يتمثل في أن الديمقراطية يجب أن تعمل في مناخ من الحرية المطلقة ) ومن ثم ذهب يلقي موعظة في عدم وجود ( حرية مطلقة ) وكلامه صحيح لا شك فيه ، فحتى ملاحدة الغرب لا يؤمنون بحرية مطلقة على ما استقر عليه أمرهم ، لكن يبقى الإشكال قائماً إذا ما تناولنا مفهوم الإطلاق هنا بمعنى الإطلاق من قيد الشريعة ، لقد شاغل القارئ بمعركة ثانوية مع الحرية المطلقة ( لا يوجد شيء في العالم اسمه حرية مطلقة . هناك دائماً حدود لكل أنواع الحريات .. ) حسناً ، وماذا عن التحاكم إلى الشريعة الذي بموجبه يظل السؤال قائماً : ما حد الديمقراطية ؟ هل تحد بالشريعة كمفهوم الشورى ؟ يأتي الجواب : ( ومن يضع هذه الحدود [أي في الديمقراطية ] هو الدستور ) [ص34] ومن يضع هذا الدستور هو الشعب ، والشعب يحق له اختيار دستور مخالف للشرع ... إلى نهاية السلسلة !

إذاً حاصل هذا الالتفاف : التصريح بعدم تحديد الشريعة للحريات الديمقراطية ، وعليه يقرر المؤلف بطريقةٍ ما تغاير المفهومين ( الشورى والديمقراطية ) ويعود هذا التقرير بالإبطال على زعميه السابقين ( أن الديمقراطية مجرد أداة ، وأنها آليات تطبيقية لمفهوم الشورى ) .

يترجح عندي أن المؤلف لم يغب عن ذهنه تغاير المفهومين ، ولم يك عاجزاً عن التصريح بانطواء الديمقراطية على مفهوم آيديولوجي عوضاً عن تغايره مع مفهوم الشورى ، لكن تصريحه ذلك كان سيكلفه إقامة حاجز بين المتلقي وبين فكرة الديمقراطية يمنع المتلقي من استساغة تأويلاته في كتابه ، وهو ما لا يتفق وقصده من الكتاب أصلاً .


3)
 العهد والعقد والميثاق بين أطياف المجتمع وتياراته :

ثلاثة أمور استخدمها المؤلف للتخلص من حاكمية الشريعة ، الأول : العقد والعهد والميثاق ، حينما يصور الديمقراطية بأنها عقد بين تيارات المجتمع يتم بموجبه التداول السلمي للسلطة ، الثاني : وثيقة المدينة التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود ، ويستخدمها المؤلف بذات الاستخدام السابق ، وإن زادت بكونه يحتج بها على عدم أخذ الجزية من المواطنين غير المسلمين كما قرأت له في غير هذا الكتاب ، الثالث : مبدأ تخيير الكفار الحربيين بـ ( الإسلام أو الجزية أو الحرب ) فهو يستفيد منه أن الإسلام لا يسعى لفرض نفسه على من لا يريده ، بالتالي إذا صوتت طائفة في الدولة المسلمة على تنحية الشريعة فإنه لا شيء عليها .

والحقيقة أن تناول المؤلف لكل واحدة من هذه الثلاث أطم من تناوله لأختيها ، بيان ذلك :

في العهد والميثاق يقول المؤلف : ( النظام الديمقراطي يقوم أساساً في إطاره الكلي على مبدأ عدم استخدام العنف في التغيير السياسي واللجوء فقط إلى الخيارات السلمية واعتماد آليات وأدوات مؤسسية لإدارة الصراع والاختلاف في المجتمع ، ويكون هذا المبدأ بمثابة عقد وعهد وميثاق بين كل القوى والفصائل والأحزاب والتيارات ) [ص35] ويؤكد المؤلف أبعاد حاكمية هذا العقد حينما ينص على أنه المرجع حال وصول حزب يطالب بتنحية الشريعة إلى سدة الحكم ، فيكون على المسلمين معارضتهم سلمياً التزاماً بهذا العقد والميثاق [انظر ص 39 و 50] .

هنا تجلٍ واضح لمفهوم تحييد حاكمية الشريعة ، وهنا يظهر تنصلٌ من الحكم الشرعي في سياق التنصلات التي تضطر إليها الديمقراطية من يؤمن بها ، ذلك أنّ الله عز وجل يقول : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) ويقول : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله ذلك خير وأحسن تأويلا ) ولقد أصبح مدلول هاتين الآيتين من البدهيات المركوزة في الذهنية الإسلامية ، أن الفيصل بين المؤمنين حال اختلافهم الاحتكام إلى الله والرسول ، فيكون الرد إلى الله بالرد لكتابه ، ويكون الرد للرسول صلى الله عليه وسلم بالرد إلى سنته بعد موته ، أما مفهوم العقد والميثاق فهذا من كمال شرائع الإسلام فيما يتعلق بتعامل الدولة المسلمة مع الدولة الكافرة التي لا يمكن إلزامها بالتحاكم إلى تفاصيل الشريعة الخاصة بالمؤمنين ، والمؤلف خلط الأوراق في الموضعين ، وخلطه هذا ليس يسيراً ، فإنه يلغي ويستأصل مفهوم التحاكم إلى الشريعة و خاصية الإلزام التي تختص بها في مجتمع المؤمنين ، فكل انفلات عن حكم الله يمكن تبريره بـ ( العقد والعهد والميثاق ) وحينها لا يكون للشرع أي حاكمية على الناس !

إنّ العقد والعهد والميثاق الذي يستثني ( المطالبين بتنحية الشرع ) من العقاب ، ويكفل لهم هذه المطالبة ، بل ويمنحهم حق الوصول لسدة الحكم في البلد المسلم ، لا يمكن أن يقف عائقاً أمام مجموعة سكارى و مدمني أم الخبائث من أن يعقدوه : ( عقداً وعهداً وميثاقاً ) مع بقية المجتمع ليحيوا لياليهم الحمراء في أمان من طائلة الحكم الشرعي ، وكذلك فإن هذا العقد والعهد والميثاق لا يحلم به بهائيون ليقيموا من خلاله مركزاً لهم في مكة المكرمة ، يدفعون أجرته للسلطات ، ويمارسون نشاطهم كطائفة تنتسب للإسلام ! ... وهكذا دواليك في صور عقود لا تنتهي ، وحينها سنكبر أربعاً على دولة الإسلام وعلى الشريعة لنعيش في ظلال العقود والعهود والمواثيق التي لا يبعدها عن النظم العلمانية واللادينية كبير فرق .

يستشهد المؤلف بوثيقة المدينة [انظر ص 69 ] التي عقدها صلى الله عليه وسلم أول مقدمه للمدينة المنورة بين المهاجرين والأنصار وجاء فيها ذكر اليهود تبعاً – خلافاً لزعمه أنها معقودة بين المسلمين واليهود – ليدعم بها المبدأ الديمقراطي في اعتبار المواطنة دون اعتبار الدين ، وليقرر جواز مشاركة غير المسلمين في النظام السياسي عبر العملية الديمقراطية فـ ( للمواطنة و المساكنة على أرض واحدة حقوق يجب التزامها ، منها المشاركة في الاختيار ) كما يقول [ص70] .

والتعليق على هذا الاستدلال يكون من جهات عدة
، أولها : مدى صلاحية هذه الوثيقة للاحتجاج بها في بناء الأحكام ، والحقيقة أنه لا يوجد سند صحيح لها ، وإنما هي من جملة ما يستأنس به كتاريخ ، الثاني : مدى دلالة ما فيها على مقصود المؤلف ، والحقيقة أنه لا دليل فيها على شيء مما يريد المؤلف فما يمس اليهود منها لا يعدو كونه تنظيماً لعلاقة المسلمين بجيرانهم ، أما ما يخص علاقة المؤمنين مع بعضهم في دولة الإسلام فقد ورد النص صريحاً بكون مرجعها إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا فيه ، الثالث : لو سلمنا أن الوثيقة تدل على مراد المؤلف ، فإن هذا المراد منسوخ بشرائع الإسلام التالية ، فمعلوم أن الوثيقة عقدت في أول مقدمه صلى الله عليه وسلم حيث لم تفرض أكثر الشرائع ، ثم لا زالت الشرائع والأحكام تتوالى ، ومن آخرها : الأمر بإخراج غير المسلمين من جزيرة العرب ، وأنه لا يجتمع فيها دينان ، وعلى طريقة المؤلف : سيأتي من ينكر هذا الأمر احتجاجا بوثيقة المدينة ، ولا ريب أن من شم رائحة العلم يعلم أنه لا حجة فيها إطلاقاً ، إلا كما في الآثار الواردة في وقائع شرب الخمر قبل تحريمها من حجة على إباحة الخمر !

وكما ورد الأمر بإخراج غير المسلمين – مما ينسخ الوثيقة – فقد ورد الأمر بأخذ الجزية منهم ، إن هم أقاموا في غير الجزيرة ، وأنه لا يقتل مسلم بواحد منهم ، وأنهم خاضعون لحكم الإسلام لا يجوز لهم الخروج عنه إلا فيما أقرهم عليه الإسلام من خصوصيات دينهم ، وفي الفروعيات الفقهية : لا تقبل شهادتهم على المسلمين ، بل واختلف الفقهاء في قبول شهادتهم على بعضهم ، وغير ذلك من أحكام لا يبقى معها مجال في فقه المسلمين وشريعتهم لمشاركة سياسية للكفار كما في الديمقراطية ، ويشهد لذلك عمل الصحابة في عهد الخلافة الراشدة ، حيث كان أهل الذمة محرومون تماماً من المشاركة السياسية .

في موضع آخر من كتابه يسوق المؤلف حكم الشريعة في أهل الحرب من أهل الكتاب ( المتمثل في تخييرهم بين الإسلام أو الحرب أو الجزية ) ليحتج به على أن الشريعة لا تفرض نفسها ولا تلزم من اختار غيرها ، وطبعاً هو يسوقه ليبرر حالة تحتملها الديمقراطية فيما لو اختار الشعب في الدولة الإسلامية تنحية الشريعة .

يقول المؤلف : ( وفي حال قبل أهل البلاد الكافرة بدفع الجزية وفي مقابلها تكون الحماية العسكرية فإن الواجب الشرعي هو قبول ذلك منهم والكف عنهم وهذا يعني بقاء تلك البلاد بحكمها وديانتها ... ) ثم يقول معلقا على عمل الصحابة والمسلمين بهذا الصدد : ( ألا يعطينا هذا التواتر القولي والعملي إشارة إلى أن الإسلام لا يسعى إلى فرض حكمه بالقوة على شعوب غير مسلمة ... ) والنتيجة : ( لأن هذا يقترب من ذات المفهوم الذي يتحدث عن عدم فرض تطبيق الشريعة بالقوة على شعب اختار غير الإسلام ) [ص48] يعني : مفهوم الديمقراطية التي تكفل للشعب المسلم الردة .

هذا الفهم الكارثي يخالف القرآن مخالفة صريحة ، كما يخالف عمل الصحابة ، ويخالف فهم المسلمين ... عوضاً عما ينطوي عليه من لوازم بشعة وسيئة ، ثم هو يقوم على شقين :


الشق الأول :
أنّ غاية الجهاد توفير بيئة من الحرية للدعوة للإسلام ، وهذا زعم باطل يكفي في إبطاله قراءة آيات الجهاد في سورة التوبة وغيرها .

الشق الثاني :
طرد تلك الغاية ( الموهومة ) كغاية من تحكيم الشريعة في المجتمع المسلم ، وهذا عبث بالشريعة ، وتجاوز بحق أحكامها ، فإنّ غاية الحكم بالإسلام في المجتمع المسلم لا ينطبق عليها الكلام في غاية الجهاد ، فالجهاد يتناول كفاراً بالأصل ، وأحكام الكافر الأصلي تختلف عن أحكام المسلم ، وإذا كان الكافر الأصلي يخير بين ثلاثة أمور ؛ فإنّ المسلم إذا ارتد يخير بين أمرين ( إما الإسلام وإما السيف ) وعلى مستوى الدولة فأمامنا شاهد تاريخي أجمع عليه المسلمون ألا وهو قتال المرتدين ، حيث نكص أكثر العرب بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكانت مظاهر نكوصهم متعددة ، فمنهم من اعترض على تولية أبي بكر ، ومنهم من اعترض على أصل الإسلام ( وهم من تبع المتنبئين ) ومنهم من امتنع عن شعيرة من الشعائر (وهم من شرط على أبي بكر عدم دفع الزكاة ) ، وكان الموقف من الجميع قتالهم وأطرهم على الإسلام ، وخلد التاريخ مقولة الصديق ( لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ) ( والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه ) وهذا الموقف الذي كان بطله خير خلق الله بعد الأنبياء ، ووافقه عليه خير القرون من خير أمة يعارض الديمقراطية وينسفها من أساسها ، ولا يسع المؤمن بالفكرة الديمقراطية إلا أن يتهم الصحابة بالاستبداد تبعاً لموقفهم ذلك ، إلا أن يغالط نفسه ويقع في التناقض.

 وبعبارة أخرى : فإنّ ثمة فرق بين جهاد الطلب وجهاد الدفع ، فجهاد الطلب فيه تخيير وجهاد الدفع ليس فيه تخيير ، وصورة : ما ( إذا ارتد الشعب واختار غير الإسلام) تُكيّف على أنها اعتداء على الدولة الإسلامية يُواجه بجهاد الدفع ، فالكفر ملة واحدة ولا يتصور أن الشريعة ترفض الكفر إذا كان من خارج الحدود وتسكت عنه إذا كان ( كفراً وطنياً !! ) ، والحقيقة أن المؤلف لو أدرك حقيقة الفرق بين جهاد الطلب وجهاد الدفع لما وقع في هذا العبث حينما يبحث عن الإشارات ( معرضاً عن النصوص والأحكام وشواهدها العملية في تاريخ المسلمين ) ليقيس حكم المرتدين على حكم الكفار الأصليين في تخييرهم بين الإسلام وسواه .

ولو كنا سنأخذ بطريقة المؤلف في تلمس الإشارات ( من أحكام التعامل مع الكفار ) ثم ننزلها على حكم الدولة الإسلامية لأنتج ذلك أزمة في التصور وموبقات في التطبيق ، فانظر إليّ وقد استوعبتُ الدرس جيداً من كلام المؤلف لأكتب لك فتوى يعجز عنها أشد الناس تلاعبا بالدين : ( تقرر في الشريعة الإسلامية أنّ أهل الذمة من اليهود والنصارى يقرون على ما هو مباح في دينهم في نطاق معين ، حيث يسمح للنصارى بشرب الخمور واقتنائها ، وكذلك قرر بعض الفقهاء أن المجوس يقرون على أنكحتهم التي يرونها مباحة كنكاح المحارم ، ألا يعطينا ذلك إشارة إلى أنّ الإسلام لا يسعى لعقاب المسلم إذا ما شرب الخمر عن قناعة و رأى أنها مباحة؟ كما أنه لا يسعى لمنع الزنا إذا ما كان بالتراضي ولم يره الزانيان محرماً ؟ ! ) أعوذ بالله من هذا القول الباطل ، وأعوذ بالله - قبل ذلك – من هذه الطريقة في الفهم والاستدلال !

العجيب أن حديث المؤلف كان على صيغة الاستفهام ( ألا يعطينا هذا إشارة ! ) ثم لم يلبث أن انقلب إلى جزم ويقين حينما ألمح إلى ما يبدو أنه معكر عليه إشارته ، ألا وهو ( حرب المرتدين ) التي خاضها الصحابة ، وتقريرات فقهاء الإسلام التي لا يتواكب هذا الفهم معها ، فيقول : (ألا يعطينا هذا التواتر القولي والعملي إشارة إلى أن الإسلام لا يسعى إلى فرض حكمه بالقوة على شعوب غير مسلمة متى ما توافرت الحرية للدعوة للإسلام بين شعوب تلك البلدان ؟ لأن هذا يقترب من ذات المفهوم الذي يتحدث عن عدم فرض تطبيق الشريعة بالقوة على شعب اختار غير الإسلام .. ) ثم قال : ( فلا يصح حينئذ الاعتراض على هذه الفكرة بتشقيقات فقهاء متأخرين أو بما حصل في حروب الردة التي كانت ضد الخارجين على الدولة المسلمة (مفارقة الجماعة) الذين نقضوا أصول الإسلام بأمور أعظمها ادعاء النبوة ... وليس أقلها الامتناع عن دفع الزكاة ) .

وبغض النظر عما في هذا النص من التناقض ( حينما يقرر إعفاء الخارجين عن أصول الإسلام في الديمقراطية من العقوبة بطريقة عبثية ، ثم يفترض إيرادا ممثلاً في حرب المرتدين ، ثم يجيب عنه بأنها كانت حرباً لمن نقضوا أصول الإسلام بأمور ليس أقلها الامتناع عن دفع الزكاة ! ) فإنّ فكرة المؤلف – وفكرة الديمقراطيين بعموم – واضحة بالنسبة لي ، فهم يقولون: إن حرب المرتدين كانت لأجل خروجهم عن دولة الإسلام ، ولا نختلف معهم في هذا ، إنما موطن الخلاف : ما هو الخروج ؟

وفق فهم إسلامي بحت ووفق مقتضى ( دولة الإسلام ) فإن تبديل الدين بمجرده خروج عن دولة الإسلام ، والامتناع عن الشعائر الإسلامية بمجرده خروج عن دولة الإسلام ، وليس الخروج مقصوراً على مفهوم الحرابة العسكرية ، وهذا فهم المسلمين أجمعين قبل أن يتسلل إلى أذهانهم التفريق بين الإسلام وبين الدولة ، فلقد عدوا من يسب النبي صلى الله عليه وسلم حربياً ، وعدو المرتد حربياً ، وحكموا على الممتنعين عن الشعائر ( كالزكاة و الأذان ) بالحرب .. ولم يكن تناولهم لمفهوم الحرب مقصوراً على الحرب العسكرية .

ولك أيها القارئ الكريم أن تتملكك الدهشة والعجب إذا ما علمت أن من يقول عن المرتدين مبرراً حربهم : ( نقضوا أصول الإسلام بأمور أعظمها ادعاء النبوة وليس أقلها الامتناع عن الزكاة ) هو ذاته الرجل الذي يقرر في موضع آخر من كتابه هامش الحرية الذي يتسع للعلمانيين والليبراليين ، لأنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم اتسع للمتآمرين على رسول الله [ وكأنّ هذا التآمر ليس نقضاً لأصول الإسلام ! ] وللمحرضين على دولة الإسلام [وكأنّ هذا التحريض مكروه يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله ! ] ولمن يخذلون المجتمع المسلم في أحلك ظروفه ، ولمن يؤذون رسول الله ، ولمن يرفضون الشريعة ... الخ ! [انظر57-61 ]

ولك أن تدهش أيضاً وتعجب بل وتثور براكين العجب في دماغك حينما تعلم أن الرجل الذي قال عن أحكام الشريعة التي تخالف فهمه الغريب : ( بعيدا عن تشقيقات فقهاء متأخرين ) هو ذاته الرجل الذي كان في أول كتابه مؤكداً (أدواتية) الديمقراطية وبعدها عن المضمون الفكري قريباً – بل معتمداً – على تشقيقات فلاسفة الملحدين !

اللهم لا هدى إلا هداك ، أيها القارئ : وبعد أن وقفت وإياك مع ثلاثة من أفكار المؤلف مؤداها استبدال التحاكم إلى الشريعة والتنصل منها بعبثية ، اسمح لي أن أقول : إنه أمر مؤسف أن تمرر هذه المفاهيم وتضخ في عقول الشباب المسلم الموحد في بلاد الحرمين الذي هو أقل شباب الأمة تفريطاً في أصول الدين ومبانيه العظام ، ففي الوقت الذي طغت فيه الأنظمة الوضعية الجاهلية وعمت أرجاء العالم الإسلامي كنا في المملكة أبعد أهل الإسلام عن هذه الفتنة ، واليوم يراد لهذه المكتسبات أن تضيع بقصد أو بدون قصد ، من خلال هذه التخرصات المستعجلة التي لا تحسب لقواعد الشرع حساباً ، ولا يهمها إلا تمرير الديمقراطية ! فالله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل !


4)
 يندر أن يصوت الشعب لتنحية الشريعة الإسلامية :

في مواضع مختلفة من كتابه وفي سياق تبرير طرح الشريعة للاختيار ، يتذرع المؤلف بأن الشعب الإسلامي يندر – إذا لم يكن مستحيلاً – أن تصوت غالبيته الساحقة على تنحية الشريعة [ انظر ص 38،40،43،45 ] والحقيقة أن هذا الكلام لا قيمة له ، ولا يحل الإشكال ، إذ الإشكال في مبدأ التصويت على الشريعة لا يشفع له نتيجة التصويت المتوقعة ، فيبقى الانحراف الواقع في التصور ولو لم يجر تصويت أصلاً ، ففكرة أن الشرع يصوت عليه وأنه لا يطبق إلا بتصويت هي فكرة لادينية لا ترى في الدين مصدر إلزام بوصفه ديناً ، إنما تراه ملزما إذا شفع له شيء كمثل تصويت الناس له ، مجرد القناعة بهذه الفكرة انحراف خطير يستحق المواجهة والمجابهة .

فإذا قام على هذه الفكرة النظام السياسي فهذا انحراف آخر عن الإسلام ، ثم إذا صوت الشعب على تنحية الإسلام فالتصويت بمجرده انحراف ثالث ، ثم إذا نحيت الشريعة فهذا انحراف عملي ، وهكذا ، وأساس الانحراف ولبه : الانحراف في التصور ، أي تصور أن للشعب حاكمية على الشريعة أو أن تطبيق الشرع مرهون بموافقة غالبية الشعب أو أن ثمة شيء لا يسقف بحكم الشرع !

أمر آخر : فإنّ طبيعة التصويت أن يكون على صياغات قانونية معقدة قد لا يحيط بها كثير من المختصين فضلا عن عامة الناس ، ولن يتصور أن يكون تصويتاً مسذجاً ( هل تريدون الإسلام أو لا ) وفي هذه الحال يكون من السهل على وسائل الإعلام أن توجه رأي الناس وأن ينتصر تعطيل الشريعة ، على أنه لا فرق بين تعطيل الإسلام كله أو تعطيل بعض أحكامه من حيث أصل الانحراف عن حكم الله ، وإن كان الأول بعيدا – في رأي المؤلف – فإن الثاني ليس كذلك .

ومع ذلك يبقى الإشكال في التصور الديمقراطي ولو سلمنا بعدم إمكانية التصويت من أصله .


5)
 تطبيق الشريعة وحمايتها من مهمات الشعب المسلم :

من العجائب التي يقف عليها المتأمل في تبريرات الديمقراطيين لوضع الشريعة تحت التصويت ، تذرعهم بثلاثة مفاهيم ( أن الشريعة لا تطبق إلا من خلال أشخاص ، وأن الشعب هو الموكل بتطبيق الشريعة ، وأن حماية الشريعة من مهمات الشعب ) وتبدو هذه الأمور الثلاثة شعارات رنانة ، وكأنها تنطلق من غيرة على الشريعة ، في حين أنك إن فتشتها لم تجدها شيئاً ووجدت حقيقتها غيرة على الديمقراطية مع جهل بجنايتها على الشريعة.


 المفهوم الأول :
أن الشريعة لا تطبق إلا من خلال أشخاص ، ويحار المرء حينما يجدهم يدندنون حول هذا المعنى وكأن المتحفظين على الديمقراطية يقولون : إن من يطبقها هم الجن مثلاً !
وهو معنى حاضر بقوة في احتجاجات مؤلف الكتاب ، فهو يؤصل لمنح الناس حق التصويت على الشرع بكون الشريعة لا تطبق على أرض الواقع إلا من خلال أشخاص يطبقونها ، بل ويدعم كلامه بسوق أثر علي رضي الله عنه : "هذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق إنما ينطق به الرجال " ثم يعلق قائلاً : ( وهذا يشير دون مواربة إلى أن الشريعة و " حكم الله " ليس أمراً قابلاً للتطبيق بمفرده وبمعزل عن أداة التطبيق التي قد تكون بإرادة رجل وفهمه أو بإرادة أمة وفهمها ) [ص43-44]

والحقيقة أن هذا احتجاج زائف ، وخروج عن موضع الخلاف ، فليس الخلاف حول كون الشريعة قابلة للتطبيق بمفردها ، إنما هو حول الاشتراطات التي يضعونها للتطبيق ، وتحديدا حول قول المؤلف : (أداة التطبيق التي قد تكون بإرادة رجل وفهمه أو بإرادة أمة وفهمها ) والسؤال : لو افترضنا أمة – كقبائل العرب – إرادتها أن تتبع المتنبئين أو فهمها أن الزكاة خاصة برسول الله لا تدفع للولاة من بعده ، ثم افترضنا رجلاً حاكماً قرأ القرآن وأراد أن ينطق به ويطبقه ، فما العمل والحال هذه ؟

المسلمون يقولون : يحكم بالإسلام كما حكم به الصديق والصحابة ، والديمقراطيون يقولون : يتنازل عن رأيه لرأي الأكثرية وينضم لصفوف المعارضة السلمية ! وهنا كان الخلاف .

المفهوم الثاني :
يشير المؤلف إلى مهمة حماية الشريعة هل تكون للحاكم الفرد أم للشعب ؟ ظاناً أن الجواب بكونها من مهمات الشعب يعني القبول بمبدأ الديمقراطية في التصويت على الشريعة ، والحقيقة أن هذا التناول من المؤلف وهذا الربط بالديمقراطية غريب ومتكلف .

 فلا يوجد أحد يحصر مهمة حماية الشريعة في فرد ولو كان حاكماً ، لكن لا ريب أن حماية الحاكم للشريعة تختلف عن حماية غيره لها ، فهو يختص بحمايتها بالسنان والإلزام ، وإذا قصر فتقصيره عليه من جهة الإثم ، كما أن هذا التقصير يتطلب حماية أخرى تتمثل في الإنكار والنصيحة أو الخروج وتولية غيره  ، هكذا تكون حماية الشريعة مطلوبة ووسائلها قائمة ، والملاحظ أن تقصير الحاكم الفرد – إذا قوبل ببذل النصيحة وإنكار المنكر – يظل تقصيراً مجيراً باسمه هو المسئول عنه فحسب .

أما ما يقدمه المؤلف في بديله الديمقراطي : فهو يفرض رقابة على الحاكم في حمايته للشريعة – وهذا أمر جميل وموجود في الفكر الإسلامي ممثلا في الاحتساب والنصيحة والخروج – وتأتي الديمقراطية لتقول : إنه يحق للمراقبين والمحاسبين – وهم عامة الشعب – التنصل من حماية الشريعة سواء بشكل جزئي أو بشكل كلي ، وإذا ما حدث هذا التنصل فهو الخيار ( المشروع ) وما سواه فيظل في خانة المعارضة !!

فصار كلامه في حماية الشريعة شر من تفريط الحاكم الفرد في حمايتها ، فإن المتفرد إذا قصر في واجباته تناولنا عمله هذا في إطار مفهوم التقصير ، الذي وقع واستقر (قدراً ) ولا مانع من معالجته بحسب القدرة ، لكن الذي يفعله المؤلف : أنه يطالب بنظام يجعل من تقصير الناس ( إذا وقع مستقبلاً ) تقصيراً مشروعاً ، بل إن التقصير في حماية الشريعة خيار لازم لمفهوم الديمقراطية الذي يقدمه المؤلف ، فإن المطالبة بتنحية الشريعة مكفولة لمن ( أتى ) ومن (سيأتي ) ، والأحزاب المطالبة بذلك مسموح بها ، والعمل للوصول لسدة الحكم عمل مشروع !

 وهذا يصل بالمتأمل إلى أن تذرع المؤلف بمفهوم حماية الشريعة تذرع غير صادق ، وإنما يركبه فقط لتمرير النظام الديمقراطي ، وإلا لو كان صادقا في قصد الحماية لقرر أنه لا فرق بين مخالفة الحاكم الفرد للشرع أو مخالفة (الفرد أو الحزب ) فكلها مخالفات وكلها تستوجب الإنكار عليها والاحتساب ، ومنعها متى ما أمكن المنع وإلا فإصلاحها بما هو متاح من وسائل الإصلاح ، ولا يجوز أن تمنح لإحدى صور المخالفة حصانة و شرعية !

المفهوم الثالث :
تطبيق الشريعة من الموكل به ؟ والحقيقة أن المؤلف لا يقتصر على بحث مهمة التطبيق ، فهو لا زال يبحث ( قرار التطبيق ) يكون لمن ؟ وكأن هذا القرار –  الذي هو من لوازم الإسلام ولا يتصور إسلام بدونه – لم يتحقق بوصف الإسلام وبكون المسلمين يدينون لله ، يقول المؤلف متحدثاً عن رفض التصويت على الشرع : ( إن رفض منح قرار تطبيق الشريعة للأمة ... الخ ) [ص41] فهو يسمي رفض القبول بالتصويت على الشرع رفضاً لمنح القرار ! وكأن الناس كفار لم يزعموا – حتى الآن – أنهم يدينون بالإسلام ، أو كأن قرار تطبيق الشريعة قرار إداري بحت من مبتكرات هذا العصر وليس أصلاً من أصول الدين ولازم من لوازم الإسلام !

ثم يتحدث في صورة إنفاذ التطبيق والقيام به قائلاً : ( بمن نأتمن ولمن نعهد بواجب القيام بتطبيق الشريعة ؟ للحاكم الفرد أم لمجموع الأمة ؟ ) [ص43]

و الكلام في الجواب على هذا السؤال كالكلام في مفهوم ( حماية الشريعة ) السابق ، فإن تطبيق الشريعة موكل إلى كل مسلم فيما هو من اختصاصه وما يدخل تحت يده وولايته ، فتطبيقها في النظام السياسي من خصائص ولي الأمر سواء كان متغلباً أم منتخباً ، وتطبيقها في المنزل مثلا من خصائص رب المنزل ، وهكذا .. والسؤال هنا : ما علاقة هذا الأمر بالديمقراطية ؟ والجواب : يكمن في مسلسل المفاهيم المخلوطة عند المؤلف ، فهو يريد علاج صورة تقصير الحاكم الفرد في تطبيق الشريعة بإسناد مهمة للشعب تتمثل في القدرة على مراقبته ومحاسبته لو خالف الشرع ، هذا شيء جميل ، لكن المؤلف لا يقف عند ذلك حتى يمنح الشعب صلاحية مخالفة الشرع ، مما يضع علامة استفهام كبرى أمام ركوب المؤلف لمبدأ ( تطبيق الشريعة ) لأجل تمرير الديمقراطية ، وإلا لو كانت الغاية حفظ الشرع لماذا تمنح الغالبية صلاحية تنحيته ؟ وفي هذه الحال يكون القادر على أطرها مستبداً ؟

في ص 42 : وعندما ساق المؤلف الاعتراض على الديمقراطية بكون الحكم فيها للشعب بينما الحكم في الإسلام للشريعة علّق قائلاً : ( سنكتشف برأيي أن تركيبة السؤال خاطئة ... ) ثم صوب التركيبة كما يرى ( لذا فإنّ السؤال الصحيح يغدو : بمن نأتمن ولمن نعهد بواجب القيام بتطبيق الشريعة للحاكم الفرد أم لمجموع الأمة ؟ ) و إذا ما تأملنا نجد الحديث في الاعتراض الأول متوجهاً إلى مصدر التشريع ، بينما هو في تركيبة المؤلف متوجه إلى مهمة التنفيذ والتطبيق ، فحقيقة ما فعله المؤلف الهروب من نقطة الحديث حول ( مصدر التشريع ) والانتقال بالجواب عن مسألة تتعلق بالتطبيق والتنفيذ ، وهو هروب لا يسعفه على كل حال ، وإن كان يفيد بقايا استبشاع في قلبه لفكرة الديمقراطية في إسناد التشريع للشعب ، ولا يزال السؤال قائماً : هل يعني المؤلف حينما صحح تركيبة السؤال ليجعله سؤالاً عن التطبيق والتنفيذ أنه موافق على عدم إسناد التشريع للشعب ؟ من يقرأ الكتاب سيجد الإجابة المؤسفة ، بأن المؤلف يوافق على فكرة إسناد التشريع للشعب ، وبذا يظل الاعتراض قائماً ومتوجهاً ( فالحكم في الديمقراطية للناس وإرادة الأكثرية ، بينما هو في الإسلام لله ورسوله ولا يلزم الناس إلا حكمهما ) ونعني مصدرية الحكم لا مهمة تنفيذه .


6)
 الشرعية الدينية والشرعية السياسية :

ثمة مأزق واجهه المؤلف : فهو حينما يقرر أن الشعب له صلاحية تشريع ومعلوم أن هذه الصلاحية من عوارضها تشريع ما لم يأذن به الله ، فهو إن أقر به شرعاً صار كالمشرع ، وإن أنكره عاد ذلك بالإبطال على مبدأ الديمقراطية وفكرتها التي يناضل عنها ، فما الحل يا ترى ؟

هنا أسعف نفسه بمفهوم : ( الشرعية الدينية ) و ( الشرعية السياسية ) ، فهو يقول مبيناً مهمة المسلم فيما إذا نحيت الشريعة في النظام الديمقراطي : ( يجب عليه أولاً أن يعتبر نظرياً أن هذا النظام لا يحظى بالشرعية الدينية حتى وإن اعترف واقعاً بشرعيته العملية والسياسية ) [ص 46] فالشعب لو اختار غير الإسلام تنازل النظام السياسي له ، وصحيح أنه يفقد الشرعية الدينية بهذا التنازل لكنه لا يفقد الشرعية السياسية التي تخوله الاستمرار في بناء نظام الحكم على وفق ما اختاره !

وهكذا نجد أنفسنا أمام مفهوم علماني قح ، يقيم نظام الناس على غير أساس من الدين ، ويرى هناك شرعية يمكن استمدادها بعيدا عن الدين ، وهكذا تصير العقيدة الدينية مجرد اعتراف نظري لا قيمة له على أرض الواقع ، بل الواقع على خلاف هذا الاعتراف النظري !

على أنه اشتبه عليه حال الطاغوت المتغلب الذي يجد أهل الإسلام أنفسهم وقد عجزوا عن التخلص من حكمه ، فيرضخون له إكراهاً ومع عدم وجود بديل ، فخال هذا الرضوخ اعترافا بشرعية سياسية [ كما في ص46 ] والواقع أن هذا الرضوخ لا ينطوي على أي اعتراف ، وأنه ليس هناك إلا شرعية دينية بدونها يصبح النظام غير مستحق للسمع والطاعة ولا للولاء ، ومن عجز عن مجابهة النظام غير الشرعي فسلك فيه مكرهاً فلا ينطوي ذلك على اعترافه بشرعية هذا النظام ، وخير ما يجلي هذه النقطة : التمثيل بقوات الاحتلال الكافرة فيما لو غزت بلدا مسلما وحكمته بالقوة ، فإنها حكومة غير شرعية وإن عجز الناس عن إزالتها وإقامة غيرها ، بل و إن عجزوا عن مقاومتها .

إنّ الفرق بين الرؤية الإسلامية والرؤية العلمانية في قيام النظام السياسي يكمن في أنّ المحرم ديناً محرماً نظاماً بالضرورة في الدولة الإسلامية ، وحينما يفرق المرء بين المحرم الديني فيجعله ( محرم نظري ) بينما المحرم العملي التطبيقي هو المحرم النظامي ( السياسي ) فسيجد نفسه علمانياً في النهاية .


7)
 ملحوظات تفصيلية على الكتاب :

النقاط الست السابقة أفردتها كمحاور في هذه القراءة نظراً لما قدرته من أهميتها واتساع الكلام فيها ، على أنها تتسم بكونها عامة في الغالب يجدها القارئ في أشواق الحرية وفي غيره من الأطروحات الديمقراطية ، وأما ما تبقى فهي ملحوظات تفصيلية لا تقل أهمية إلا أنها تتسم بتعلقها بالكتاب موضع القراءة بشكل أخص .


* حديث المؤلف عن الديمقراطية مبالغ فيه لدرجة كبيرة ، لا من جهة تصوير ( التصويت والمشاركة السياسية واستعادة الإرادة المسلوبة ) وكأنها كلمة السر التي ستفتح باب النصر للأمة ، ولا من جهة تصوير الديمقراطية بصورة المظهر الوحيد الذي يعيد إرادة الشعوب المسلوبة ، وكأن المؤلف أدرك شيئاً من حالمية هذا التصور فعقد فصلاً بمثابة الضاغط على كوابح الأحلام ، يقرر فيه أن : ( الواقع الاجتماعي والسياسي السيء لن يحل فجأة بقيام نظام ديمقراطي ) [ص 105 ] ولكن هذا الاعتراف الواقعي المتأخر جاء بعد معلقات شعرية حالمة في أثر الديمقراطية في استجلاب النصر والنهضة والريادة ، لتأخذ بتلاليب الحالمين تلك المقدمة وقد طبعت على غلاف الكتاب ، حين يقول فيها : ( حين نتحدث عن الديمقراطية فنحن نتحدث عن التغيير ، عن إصلاح أوضاعنا المتداعية ، عن التنمية الاقتصادية المعاقة ، عن إرادة الشعوب المسلوبة ، وعن غضبنا الذي لا رجع لصداه ، وعن حناجرنا المبحوحة وهي تصرخ بمن لا يسمعها ، وتناشد من لا يقيم لها وزنا .. ولنا أن نحلم ساعتها ونتساءل : ماذا لو كان القرار بيد الشعوب ؟ ) وإنني أحسب حديثاً مثل هذا يعلق نهضة وريادة على مظاهر ، متجاوزاً حقيقة المرض إلى عوارضه : لا يكون إلا على حساب المضامين ، والعلاج الصادق المتمثل في الوعي الديني والتمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يأت المستبدون إلى رهبان ليل فرسان نهار ليسلبوا إرادتهم ، كلا .. فالإرادة المسلوبة سلبتها الدنيا من قبل ، وسلبها كراهية الموت ، كبلها الوهن والضعف وقلة الإيمان والله المستعان ، وهنا لا أحتاج إلى التنبيه على أنه لا يلزم من هذا الكلام تبرئة المستبدين ولا هو مما يحتمله أصلاً ، قدر احتماله الموازنة في توزيع المسؤوليات والاستدراك على من أغفل مسؤولية الناس الذين وقع عليهم الاستبداد.

* في سياق استشهاده بذم التفرد والتغلب ، ساق المؤلف أثر عمر رضي الله عنه : (من بايع رجلا دون شورى المسلمين فلا يتابع هو والذي بايعه تغرة أن يقتلا) وعلق عليه بقوله : ( وقد وردت روايات أخرى عن عمر بن الخطاب يقول فيها عن الحاكم المتغلب : فلا يحل لكم إلا أن تقتلوه ) [ص18] ويتضح من هذا التعليق خلط المؤلف بين من يريد الاعتداء على حق الأمة فيبايع غيره أو يطلب البيعة لنفسه دون رضى من الأمة أو تخويل – وهذا من يمكن قتله لأن ما أقدم عليه يعد من تفريق الصف والافتئات على الحقوق المفضي إلى المنازعة وسفك الدماء – وبين من صادر حق الشورى وتغلب وصار حاكماً ، فهذا لا ينطبق عليه كلام عمر ، لأن الأمة عاجزة عن قتله أصلاً وإلا ما ولي الحكم فيها ، كما أن مثله يستحيل أن ينطلق في مصادرته لحق الأمة معتمدا على نفسه أو على آخر (فيمكن قتلهما) بل لا بد أن يكون من ورائه من يدعمه ويرضى به ولو لم يكن إلا جيشه الذي تغلب به ، والنصوص النبوية صريحة في السمع والطاعة لمثل هذا بالمعروف ما لم يأمر بمعصية ، كقوله صلى الله عليه وسلم : ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد ) ومفاد ( تأمر ) و صفة ( العبد ) تؤكدان اشتمال هذه الوصية للمتغلب ، وحاشا عمر رضي الله عنه أن يسند له المؤلف مثل هذا الفهم المخالف لتوجيهات قدوته صلى الله عليه وسلم ، كما هو مخالف لمقتضى العقل والرأي والحكمة التي كان فيها عَلمَا مبرزاً رضي الله عنه ، ولا أدري لماذا يرضى المؤلف إلصاق هذا الفهم الثوري القائم على العنف والمنطوي على التوجيه بقتل الحكام بعمر رضي الله عنه ، في حين لا يفتأ في كتابه يعظم من شأن السلم والعملية السلمية ، ويزدري ويقبح من شأن العنف والثورات والخروج المسلح !

* في ص 20 يتساءل المؤلف : ( هل ثمة في الشريعة نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة يمنع المجتمع ... ) والحقيقة أن هذا التساؤل ينم عن ضعف بضاعته العلمية التي لا تؤهله لمناقشة قضايا شرعية ، إذ أن هذا الاشتراط الذي على وفقه يبحث المؤلف عن النص لا يتوفر في أكثر النصوص من القرآن والسنة والتي يكفي فيها غلبة الثبوت وغلبة الدلالة لبناء الأحكام والعمل كما هو مقرر عند علماء الشرع .

* تلمس المؤلف إمكانية موافقة المتحفظين على الديمقراطية لـ 80% منها ، المتمثل في حق الانتخاب ، وفصل السلطات ، و المحاسبة والمراقبة للحاكم ، مع الرفض لـ 20% الباقية والتي تمثل حق إسناد التشريع للشعب [ انظر ص 22 ، 23 ] وبدل أن يستغل هذه النقطة استغلالاً إيجابياً ويقصد تفعيل هذه المساحة المشتركة من الاتفاق ذهب إلى طرح سؤال ظاهره الرحمة وباطنه العذاب : ( وإذا اتفقنا على الاختيار والمحاسبة و الانتخاب فأين المشكلة ؟ طبعاً حين أتساءل عن [أين المشكلة ؟] لا أعني بالطبع عدم وجود اعتراضات على مفاهيم حق التشريع وحكم الشعب وما سوى ذلك من اعتراضات سأناقشها في فقرات لاحقة . لكن إذا كانت غالبية رموز ومنظري التيار السلفي يتفقون على أولوية الاختيار ومشروعية المراقبة والمحاسبة ومشروعية الانتخابات فلماذا لا يتم استغلال هذه المساحة الواسعة من الاتفاق لصياغة مشروع سياسي موحد مع بقية الإسلاميين ... ) [ص23] ويبدو سؤالاً بريئاً إذا ما تناولناه خارج سياقه ، حيث لم يقدم المؤلف مؤشرات على صدق الاهتمام بهذا المشروع المشترك ، بل اكتفى بطرح هذا السؤال وما تبعه من كلام ليتهم مخالفيه السلفيين بالقصور في الإصلاح السياسي ومن ثم يستمر في النفخ والاعتناء بمساحة الخلاف الضئيلة ! ليصل إلى ذهن القارئ من وراء هذا التصرف وكأنه يقول : لا يحق لكم – أيها السلفيون – أن تعترضوا عليّ فأنا صاحب مشروع سياسي وأنتم لا تملكون مشروعاً ! لربما لم يصرح بمثل هذه العبارة لما تنطوي عليه من مظهر استبدادي ينافي الديمقراطية ، لكن بإمكان القارئ الفطن أن يقلب عليه سؤاله ، وأن يوجهه له : لماذا لا يترك هذه الـ20 % لصالح المشروع الموحد ؟ لماذا لا يتركها لئلا يشغل الأمة بمعارك جانبية مع أفكار وافدة على الأقل ؟ وبالطبع فليس منطقياً أن يتذرع بقصور مخالفيه في باب الإصلاح ، ذلك أن الاهتمام السياسي بكليته اهتمام حديث لا زال في بواكيره عند مجتمع كان ولا زال يعاني من تراجع في الوعي السياسي ، كما أن المفترض على المؤلف أن يتناول (الاستدراك على مشروع الإصلاح السياسي ونقده) كدور تكاملي مع أصحاب المشروع ، وأن يتقبل هذا النقد بصفته إسهاماً في الإصلاح ، وأي إسهام أكبر من ذلك الذي يقدم النصيحة والبيان الشرعي ويحذر مخالفة الشرع ومجانبته ؟

* مفهوم السلمية في الديمقراطية مخالف للمفهوم الإسلامي الذي لا يعتد بها في مواجهة ما هو أعظم فساداً من سفك الدماء ، أعني الردة عن الإسلام ، حيث تمثل أكبر مظهر من مظاهر الاعتداء على الدولة المسلمة والخروج عليها ، ويتوجب القتال بسببها سواء من قبل الحاكم للشعب كما في حروب الردة أو من قبل الشعب للحاكم كما يحوي التوجيه النبوي : ( إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم فيه من الله برهان ) .

* يصدر الدستور – وفق كلام أهل الاختصاص – بطريقتين في المجتمعات الديمقراطية : إما عن طريق جمعيات منتخبة ، أو عن طريق تولي الشعب له مباشرة عبر ما يسمى بالاستفتاء ، وما ساقه المؤلف من ( إجراءات معقدة لتغيير الدستور ) [ انظر ص : 36 ] ليس له قيمة ، إذ هذه الإجراءات ليست لازمة ، بل هي بذاتها خاضعة لتصويت الشعب وإرادته ، وكل طريقة لتغيير الدستور إذا توافق عليها الناس صارت مشروعة سواء كانت معقدة أو سهلة ، فتمسك المؤلف بتعقيد إجراءات تغيير الدستور  إنما هو لحاجة في نفسه ، وهنا تساؤل : بما أن المؤلف تجرأ على الحديث عن ( تعقيد التغيير الدستوري ) بمعزل عن إخضاع هذا التعقيد لإرادة الشعب ، أفلا كان الأجدر به الحديث عن (رفض تغيير حكم الشريعة) بغض النظر عن إرادة الشعب أيضاً  ؟ !

* يقول المؤلف : (من بداهة علم النظم السياسية أنه لا توجد عناصر فكرية ثابتة ومحددة يجب أن يشملها أي دستور ) [ص35] والحقيقة أنه كمسلم معفي من العلوم السياسية وبداهتها المخالفة للشرع ، فإن تحكيم الشريعة في النظام السياسي ثابت من ثوابت الدولة الإسلامية ، كل مخالف له إما خارج عن أصل الإسلام أو عن جزء منه ، ولا يتصور قيام نظام سياسي إسلامي دون هذه البدهية الثابتة ، من جهة أخرى : فإنّ الدستور الديمقراطي يخضع لفكرة الديمقراطية ، فهو محكوم برؤية فكرية ، إلا إن كان الحديث عن الدستور الذي لا تحكمه الديمقراطية ولا يتشكل في ظلها بل يشكله ديكتاتور مستبد !

* أورد المؤلف صورة ( في حال تصويت الغالبية على تنحية الشريعة ) ثم تساءل عن الخيارات المطروحة أمام المؤمنين بالشريعة ، وحصرها في خيارين : إما العنف المسلح وسفك الدماء ، وإما الاستسلام للتغيير واقعياً مع الرفض الصارم له وجدانياً [انظر ص38-39] والحقيقة أن هذه ثنائية زائفة ، فالصورة الحقيقية أن يكون العمل بالشريعة جار ، ثم تطالب الغالبية بتنحيتها ، والخيارات إذاً : رفض مطالبهم والاستمرار في الحكم بالشرع ، أو التنازل عن الشريعة لأجل مطالبهم ، ولربما أعرض المؤلف عن هذه الخيارات الأكثر تواءماً مع صورة المسألة لأجل قناعته باستشناع المسلم للخيار الديمقراطي المتمثل في التنازل عن الشريعة من قبل السلطة السياسية لأجل مطالب الناخبين !

وحتى لو سلمنا للمؤلف بخياراته ، فإن خيار العنف والحرب خيار مطروح ، وهو من الوسائل السامية في حفظ الشريعة ومن أعظم العبادات ، بل إنه ذروة سنام الإسلام ، وهكذا فهم الصحابة الدين حينما أخذوا بخيار الحرب مع من ارتد عن الإسلام سواء بادعاء النبوة أو بمنع الزكاة .

وانظر إلى حجة المؤلف في إبطال خيار العنف حينما يقول : ( ولا أظن أن ثمة حاجة لإطالة الحديث عن هوية الضحايا الدائمين لهيمنة الأقليات بالقوة على قرار الأمة لأنهم الإسلاميون دون شك ) [ص39] وهذه الحجة هي حجة من ينكر الجهاد ويقول : ( لا أحتاج إلى إطالة الحديث حول أن الجهاد يعني أن يقابلكم العدو بالمثل فتكونون ضحية له ) وكل ذلك فكرة واحدة يكفي في إبطالها التعبير عنها .


* يتحدث المؤلف عن الخيارات المطروحة للمسلمين حال تنحية الحاكم الفرد للشريعة ويقارنها بالخيارات المطروحة لهم حال تنحيتها في نظام ديمقراطي [انظر ص 41 ، 52] وهذا تصوير مثالي لا يجيده إلا واسع خيال على حساب الواقعية  ، لأن المسلمين إذا ما خيروا بهذه الطريقة سيختارون الالتزام بالشرع مطلقاً ، وإلزام الناس به ، والصورة الأقرب واقعية أن يقال لداعية الديمقراطية : هل ستفرضها بطريقة التغيير العسكري أم بطريقة التثقيف والتوعية ؟ فإن اختار الثانية – وهو جواب المؤلف حتماً – فسيكون عليه بدل التبشير بنظام الديمقراطية أن يثقف الناس بأهمية الشورى الشرعية وأهمية الالتزام بالشريعة بحذافيرها ، فإنه بذلك يصل إلى حل لمعضلة الاستبداد بنفس الطريق الذي يريد به الوصول إلى حل موهوم سيكون على حساب هوية الأمة ودينها .

* في ص 45 :ساق المؤلف أحاديث في أن الأمة لا تجتمع على ضلالة ، ليطمئن بأنه لن يكون هناك تصويت غالب على مخالفة الشرع ، وقد بينا أن الانحراف يقع في التصور ولو لم يجر تصويت أصلاً ، فضلاً عن أن الأحاديث إنما هي في الاتفاق والاجتماع ، فمجموع الأمة معصوم ، وليس غالبها ( أكثر من النصف ) في عصمة عن الضلال ، أضف إلى ذلك : أن مورد هذه الآثار الحقيقي اتفاق الأمة على قتل المرتد ، فهل كانت مخالفة المؤلف لهم منبثقة من شدة تمسكه بهذه الآثار التي يسوقها ؟ الله أعلم !

* في ص 49 يتحدث المؤلف عن المعارضة ، ويبين أنه سيكون بإمكان المسلمين لو نحيت الشريعة أن يقفوا في صف المعارضة السلمية وبذلك لا يؤمنون ببرنامج السياسي الذي طرح الشريعة ، والحقيقة أن هذا مبني على عدم تصور لحقيقة المعارضة ، فحقيقتها أنها تصحح النظام وتعمل داخل إطاره ، وتلتزم بقوانينه وتمنع الخروج عليه ، وبمعنى آخر : فلفظها معارضة ، وحقيقتها مجرد مخالفة للرأي مكفولة نظاما لا يخرج المعارض بموجبها عن حكم الدولة والولاء لها .

* في ص 56 إلى 61 : يستشهد المؤلف بآيات تبين مكر المنافقين وكفرهم ، ومع ذلك اتسع لهم ما يسميه هامش الحرية في المدينة ، وهذا الاستدلال الخاطئ والمتناقض قد أفردت عليه جوابات مطولة أبرزها ( شبهة حرية المنافقين ) للشيخ الفاضل إبراهيم السكران و ( التسامح العقابي مع المبتدع وضرورة الإتقان المعرفي ) للشيخ الفاضل سلطان العميري ، إضافة إلى مقالات نشرت في مجلة العصر ردا على المؤلف في هذه النقطة تحديداً للشيخ الفاضل فهد العجلان ، ونشير لشيء من الجواب باختصار : فإن غالب ما حكي في القرآن فضحهم الله به مما أسروه ولم يبدوه في المجتمع المسلم ، وما يبدونه كانوا يتوبون منه بعد ظهوره مباشرة إدراكا منهم للعقاب الذي ينتظرهم ، وكانت مجالس الاستتابة تعقد لهم يحلفون فيها بالله ما فعلوا وما قالوا ، كما أن التاريخ والسير والأحاديث حفظت مواقف طردوا فيها من المسجد وضربوا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، كما هدم مسجد الضرار وحرقه ، وما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فكان في بادئ الدولة ولأجل المصلحة الشرعية ، فلما كان أصحابه يستأذنونه في قتل ابن أبي كان يقول : ( لا يتحدث الناس أن محمد يقتل أصحابه ) ولم يقل إن دمه معصوم ومطالبتكم غير شرعية وحريته مكفولة ، أضف إلى ذلك أن تشريع حد الردة كان في آخر الأمر بعد ظهور دولة الإسلام فهو ناسخ لما سبقه ، فوصية النبي لمعاذ بن جبل : ( أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه .. ) الحديث[ حسنه ابن حجر في الفتح ] ، كانت قبل إرساله لليمن قبيل وفاة النبي ، حيث مات صلى الله عليه وسلم ومعاذ في اليمن ، ويشهد لصحة الحديث ما في البخاري ومسلم من إنفاذ معاذ قتل المرتد فور وصوله اليمن وقوله : ( قضاء الله ورسوله ) كما في حديث أبي موسى .

*  يستشهد المؤلف بقوله تعالى : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد )  ليقرر أنها جعلت من قيمة " العدل " مدار الرسالات ، وهذا تقرير سليم لولا أن المؤلف فهمه على غير وجهه ، إذ يقصر مفهوم العدل على العدل الدنيوي ، بينما الآية تجعل القيام بالقسط وتحقيق العدل منوط باتباع الكتاب الذي جاءت به الرسل والتسليم لهم وإنفاذ الشريعة التي جاءوا بها ، قال ابن تيمية تعليقا على الآية : ( فالكتاب به يقوم العلم والدين ، والميزان به تقوم الحقوق في العقود المالية والقبوض ، والحديد به تقام الحدود على الكافرين والمنافقين ) [مجموع الفتاوى 35/36 ] وذكر كلاما قيما في بيان هذه الآية وربطها بنظائرها من كتاب الله .

* في ص 91 : يتحدث المؤلف عن مطالبة ناقدي الديمقراطية بتقديم البديل ، وبغض النظر عن كون هذه المطالبة لا تشفع له في منع النقد إلا أن البديل يقدم حينما يكون ثمة قابلية للأخذ به ، أما والأمة بحاجة لتربية دينية وتوعية تؤهلها لمرحلة انتظار البديل فلا ضير على المصلح إن هو شغل نفسه بمثل هذه التربية والتوعية ونشر العلم والدين الصحيح ، كما أن الديمقراطيين في واقع الأمر لا يقدمون بديلاً ، فالنظم السياسية قائمة ولا يمكنهم تغييرها ، غاية كلامهم تقديم رؤية مثالية يمكن أن تجارى بتقديم رؤية أخرى لنظام شرعي راشد .

* في ص 120 ، يقول المؤلف تعليقاً على من يطالب بحق مشاركة الأطفال والفتيان القاصرين في الانتخاب : ( هو منطق غريب يتعارض مع بدهيات العقل الإنساني الذي حدد سناً لبدء الإدراك والوعي ، ويتعارض أيضاً مع ثوابت الشريعة ، التي وضعت سنا للتكليف والرشد ) والسؤال الذي يطرح نفسه أمام هذه العبارة : فهل كان التصويت على تنحية الشريعة الذي أخذ المؤلف في تبريره مأخذاً طويلاً لا يتعارض مع ثوابت الشريعة ؟ !

* بمعزل عن تلفع المؤلف به لقطع الطريق على تقديم النقد والتقويم : فإني أوافقه على وجود قصور في ميدان الإصلاح السياسي ، مما يؤكد الحاجة إلى تكثيف الجهود الإصلاحية في مجاله بموازاة سائر المجالات النهضوية الأخرى التي يعد العمل فيها بما يعود على الأمة بخير الدين والدنيا فرضا كفائياً ومسؤولية دينية . والله أعلم .

8)
  خاتمة :

بعد هذه الجوالة المتواضعة أجمل هذه النقاط مما سبق تفصيله ، تأكيداً وختماً :


أ –
إن معارضة الديمقراطية لم تكن معارضة لنظام سياسي فحسب ، بل كانت معارضة لحمولة فكرية تخالف الإسلام ، وهذا معنى تعرض للتشويه كثيراً من قبل الديمقراطيين ، ويكفي في بيانه : أن المعارضة لم تكن لمفهوم الانتخابات والاختيار وإنما لمفهوم التصويت على الشرع وتبرير طرحه وكفالة مخالفته.

ب –
أن الإصلاح السياسي مهمة جليلة ، وعمل نبيل سامي ، غير أن ذلك لا يعفي رواده من طائلة الاحتكام إلى الشرع ، فكل إصلاح إنما مرده إلى الشريعة وتحت سقفها .

ت –
أن المسؤول الأول عن إعاقة جهود الإصلاح ، هو ذلك الذي جعل الإصلاح فيما حرمه الله تعالى ، أو قصر وسائله على مفاهيم – كالديمقراطية – تخالف الشرع ، فمثل هذا هو من يعطي الذريعة لتشويه صورة الإصلاح ، ومثل هذا لا يلوم الناس إن هم تركوه وتركوا إصلاحه ، فلن يكون الإصلاح على حساب الدين ومفاهيمه إلا عند من سفهه نفسه .

ث –
هناك ممن ينتمي لطيف الإصلاح السياسي من لديه موقف مسبق لرفض مثل هذا النقد حتى قبل قراءته ، ومن لا يتقبل النقد أصلا إذا تنازل فلم يصنفه كداعم للاستبداد ، ومثل هذا حري به أن يراجع أمره ، ويحذر قول الله : ( وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ) أن ينطبق عليه ، وليعلم أن استنكافه عن الحق إنما هو استنكاف عن صلاح شأنه وأنه لا يضر إلا نفسه.

ج –
خطورة الفكرة الديمقراطية ومصادمتها لأصول الدين ، مع مصادمتها لأحكام كثيرة مما استقر في فقه المسلمين ، مما يجعلها والحال هذه فكرة منافية للإسلام ، وقد رأينا كيف يضطر معتنقوها إلى لوازم شنيعة تجعلهم يشرعون ما تشرع الأكثرية ولو خالف الإسلام ، ويلوون أعناق النصوص ويضربون الدين ببعضه كما ضربوا أحكام المسلمين بأحكام الكفار الأصليين ، وكما ضربوا الآيات التي تفضح المنافقين بالآيات والأحاديث التي تأمر بجهادهم وبقتل المرتد ونحو ذلك .

ح –
لو كان الأمر مقتصراً على الإصلاح السياسي وحفظ الحقوق والعدل لكان سبيله الأوضح الذي يجتمع عليه الناس : سوق النصوص الشرعية والأحكام المتعلقة بذلك ، أما والحال تفان في سبيل الديمقراطية مع استنكاف عن أطرها بالشريعة ، بل وإقرار بإمكانية تعديل الشريعة لأجلها فالأمر فكرة منحرفة رفضها واجب .


أسأل الله أن يصلح ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأن يصلح دنيانا التي فيها معاشنا ، وأن يقينا الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وأن يردنا إليه رداً جميلاً ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .


عبد الوهاب بن عبد الله آل غظيف
wahhabe@gmail.com

الإثنين
28 / 1 / 1432


 

عبدالوهاب آل غظيف
  • المقالات
  • الردود والمراجعات النقدية
  • التدوينات القصيرة
  • الصفحة الرئيسية