اطبع هذه الصفحة


وقفة مع حديث الشيخ علي الجفري
نحن أمة لا نعبد الله تعالى إلا بما شرع رسوله صلى الله عليه وسلم

بدر بن علي بن طامي العتيبي

 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فقد قرأت في ملحق الرسالة من جريدة المدينة يوم الجمعة 21 شوال 1425هـ ، اللقاء المختصر مع الشيخ علي الجفري تحت عنوان : ( نحن أمة أكبر من أن تختلف على زيارة نبيها في مسجده ) .

وقد رأيت في كلامه ما يوجب الوقفة اليسيرة التي آمل أن يتسع صدره وصدر كل قارئ لها ، وهو أن الخلاف مما لا شك فيه شر و وبال ، ودفعه مما لا يستطيع أحد القيام به مهما كلّف الأمر ، وإنما الواجب عليه ذم الفرقة وهي نتيجة سلبية للخلاف المستساغ ، أما الخلاف الشرعي مع من خالف أمر الله تعالى ، وحاد عن شرعه ، فهو أصل من أصول دين الإسلام لا يستطيع أحد دفعه ولا إنكاره ، وآيات القرآن الكريم مليئة بتحقيق أصل الولاء والبراء تحقيقاً لتوحيد الله تعالى ، واتباع أمره ، وسرد النصوص الشرعية في ذلك لا يحتملها هذا التعليق المختصر ، وعلى هذا ، وقد عهد الله إلينا أن لا نعبده إلاّ بما شرع لنا في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا أصل يجب أن يستحضر عند الكلام على كل عبادة اختلف في مشروعيتها من عدمها ، كما قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) ، إذا تقرر هذا كله ، فإن في كلام الشيخ الجفري عدة مواطن خالف فيها الصواب مما وجب تنبيهه عليها علّه أن يتفطن لها فيما بعد :

أما الموطن الأول : فهو قوله : ( أن المسجد النبوي اكتسب أهميته من وجود النبي صلى الله عليه وسلم فيه .. ) .
فيقال : وهذا كلام غير صحيح ! ، بل أهمية هذا المسجد اكتسبت من أمر النبي صلى الله عليه سلم بتعظيمه ، وحثه على الصلاة فيه ، وتفضيله على سائر مساجد الأرض عدا المسجد الحرام كما قال عليه الصلاة وأفضل التسليم : ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد الحرام ) .
وليست الفضيلة لمجرد وجود ذاته فيه حياً أو ميتاً ، أما حياً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نزل بقاعاً عدة ، وحل في أكثر من محل ، ومع ذلك لم يكن لها فضيلة على غيرها من سائر البقاع ، ولم يشرع فيها عبادة .
أما بعد موته ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن في مسجده حتى يعظم من أجل جسده الطاهر الشريف ، وإنما دفن في بيت عائشة بإجماع المسلمين ، وهو فيه إلى اليوم ، ولا يشمله حكم المسجد مطلقاً .
فبأي دليل بعد ذلك يكون مجرد وجود النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد سبباً لتفضيله على غيره من البقاع .
وبهذا يتبين الخطأ في قوله بعد ذلك بأن : ( المساجد متعددة في العالم لكن لم يكن لمسجدٍ هذه الميزة والفضيلة ما لهذا المسجد الذي ضمّ النبي صلى الله عليه وسلم .. ) .
ومن العجيب أن الجفري لم يستدل على هذه الفضيلة بآية ولا بحديث وإنما استدل بصنيع من لا عصمة له ، من فعل الشيخ الشعراوي ، والشيخ زايد آل نهيان ، ومثل هذا لا يعد دليلا ، ولا يشرع عبادة ، مع أن ما قاله الشيخ الشعراوي خطأ بلا شك ، حيث قال : ( لو كان – قصدي – المسجد فلماذا أترك المسجد الحرام والصلاة فيه بألف صلاة إنما أقصد إنما أقصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم ) .
هذا ما نقله عن الشعراوي ! ، وهذا عجيب للغاية ، بل مفاده أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل مكانة ، وأعظم أجراً من الصلاة في المسجد الحرام !! ، وهذا ما لم يأتِ به دليل لا من قرآن ولا من سنة ! ، بل لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح يخص زيارة قبره بالفضيلة دون غيره من القبور ، وإن قلنا بفضيلته على سائر المقبورين في الزيارة على الوجه المشروع .
بل زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أنها تفضل على زيارة مسجده ! ، كيف والمسجد يصلى فيه ويذكر الله تعالى وفضيلة الصلاة فيه ليست كغيره عدا المسجد الحرام ؟! .
وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم ، ومضى على وفاته السنوات العديدة ، والصحابة رضي الله عنهم يرحلون ويرتحلون إلى مسجده ، ولم يرد على لسان أحدهم من بعيد ولا من قريب قال : أقصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم ! ، وإنما كانوا يزورون قبره لمكانته صلى الله عليه وسلم إذا صلّوا في مسجده ، ولهذا استجب العلماء زيارة قبره لمن قدم إلى المدينة للصلاة في مسجده ، مع منعهم المواظبة على ذلك ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا تجعلوا قبري عيداً ) وثبت عن الإمام مالك بن أنس أنه أنكر ذلك جداً ، فلا يختلط على أحد منع أهل العلم للسفر إلى زيارة القبر مع إقرارهم زيارة القبر لمن قدم المدينة ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهي أن تشد الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد وهي المسجد الحرام والمسجد الأقصى والمسجد النبوي الشريف .
وأنقل كلاماً حسناً للحافظ ابن عبدالهادي في كتابه ( الصارم المنكي : 82 ) حيث يقول : ( فالذي يقصد مجرد القبر ولا يقصد المسجد مخالف للحديث فإنه ثبت عنه في الصحيح أن السفر إلى مسجده مستحب وأن الصلاة فيه بألف صلاة ، واتفق المسلمون على ذلك ، وعلى أن مسجده أفضل المساجد بعد المسجد الحرام ، ومسجده يستحب السفر إليه ، والصلاة فيه مفضّلة لخصوص كونه مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بناه هو وأصحابه ، وكان يصلي فيه هو وأصحابه ، فهذه الفضيلة ثابتة للمسجد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يدفن في حجرة عائشة ، كذلك هي ثابتة بعد موته ، ليست فضيلة المسجد لأجل مجاورة القبر ، كما أن المسجد الحرام مفضل لا لأجل قبر ، وكذلك المسجد الأقصى مفضّل لا لأجل قبر ، فمن ظن أن فضيلته لأجل القبر ، وأنه مستحب السفر إليه لأجل القبر فهو جاهل مفرط في الجهل مخالف لإجماع المسلمين .. ) إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى .
والغلو في القبور أوصل البعض إلى الإشراك بالله تعالى ، وصرف شيئاً من أنواع العبادة لها من تقديم القرابين ، والذبح ، والنذر لها ، والاستغاثة بأصحابها ، وطلب قضاء الحوائج منهم ، والاستشفاع بهم ، وهذا كله من الشرك بالله تعالى والعياذ بالله .

والموطن الثاني : قوله : ( والفرق بيننا وبين من يخالفنا أنه لما تمكن استعلى !! ) إلى أن أنشد : ( فلما ملكنا كان العفو منا سجية *** ولما ملكتم سالت بالدماء الأباطح !! ) .
فيقال : وهذا كلام مخالف للواقع ، فإن القائمين على شؤون الحرمين ، علماء أفاضل ، وأهل فقه وديانة ، ولم يحصل منهم علو ولا استعلاء ، بل يرشدون الناس بالرفق واللين ، ويحذرونهم من البدع والخرافات ، ومن التصرفات المحرمة عند قبره صلى الله عليه وسلم ، وهذا من سياسة هذه الدولة المباركة منذ عهد الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى ، فقد كان الناس قبل مقدمه ، وتوليه زمام الحكم يعيشون في بدع وخرافات ، وتعلّق بالقبور ، مع الفرقة والخلاف حتى في فروع الدين ، بل مع الصد عن حج بيت الله الحرام ! ، وسفك دماء الموحدين ، فلما تولى الحكم ، جمع الناس على إمام واحد ، وأنكر كل مظاهر الشرك والبدعة ، وسد ذرائع الشرك ، وأسباب الخلاف ، ودعي الناس للحج كافة ، فما قصد البيت آمن من قبل كمثل الناس بعد حكم آل سعود حفظهم الله تعالى .
فأين الاستعلاء الذي يقصده الشيخ الجفري ؟! .

الموطن الثالث : قوله : ( أن مكة ما ذكرت بالشرف إلاّ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان حالاً فيها وقرؤوا القرآن الكريم )لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) (البلد:1-2) فكيف بالمدينة التي عاش فيها ... ) .
فيقال : وهذا الكلام غير صحيح قطعاً ، فإن فضيلة مكة كانت من قبل أن يخلق النبي صلى الله عليه وسلم بنصّ كلام الله تعالى وبنصّ كلامه عليه الصلاة والسلام ، قال الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (البقرة:126) .
وقال تعالى : ( وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة:125) ، فهو مثابة للناس وأمناً قبل أن يطأها رسولنا صلى الله عليه وسلم .
وقال تعالى : ( رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (ابراهيم:37) ، فهو بيت محرم قبل أن تطأه قدم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يخلق .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة .. ) رواه البخاري .
فهذا الكلام من الجفري أصل غير صحيح .

والموطن الرابع : قوله : ( أن حبنا للنبي صلى الله عليه وسلم عبادة من قول لا إله إلاّ الله : أي أنفي كل ما لا يريده الله ، وآتي كل ما يريده الله ... ) .
فيقال : أما كون حب النبي صلى الله عليه وسلم عبادة ، فهو صحيح ، بل هو من أجل العبادات ، بل محبته ركن من أركان الدين لا يصح الدين إلاّ بها قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده و والده والناس أجمعين ) .
أما تفسيره لكلمة التوحيد بأنها تعني : ( نفي كل ما لا يريده الله والإتيان بكل ما يريده الله ! ) ، فهو تفسير لم يقل به أحد من أهل العلم ، بل تفسير لا إله إلاّ الله هو أنه : لا معبود بحق إلاّ الله تعالى ، على ذلك نص جمع من أهل العلم كالزمخشري والقرطبي والبقاعي وغيرهم ، والله تعالى يقول : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (الحج:62) .
وقد فسرها الله تعالى في قوله : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف:26-28) فمعناها البراءة من كل ما يعبد من دون الله تعالى وإفراد الله تعالى بالعبادة ، وهي الكلمة التي جعلها باقية في عقبه من بعده وهي كلمة التوحيد : لا إله إلاّ الله .
ومع ذلك فإن تفسيره للشهادة بهذا المعنى يلزم منه أن لا يشد الرحل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يقول في شرع الله تعالى ما لم يأذن الله تعالى به لأن الله تعالى أمرنا بأن لا نتكلم إلاّ بعلم قال تعالى : ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36) ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ، هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

 

أبو ريان الطائفي
  • رسائل
  • مقالات
  • الصفحة الرئيسية