قتل المسلمين ذنب عظيم..
ترويع الآمنين ذنب عظيم..
وهذه التفجيرات، التي تقع بين الآونة والأخرى، لا مستند شرعي لها..
ومن أراد الإصلاح، فسبيله طريق الآنبياء:
{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}.
وما وقع بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة.
وقى الله هذه الأمة من الفتن، ما ظهر منها وما بطن..
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك،
ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، وتعبد فيه وحدك.
اللزوم في اللغة هو المصاحبة الدائمة، فقد ذكر ابن فارس في
(معجم مقاييس اللغة) فقال:
"لزم: اللام والزاء والميم أصل واحد صحيح، يدل على مصاحبة الشيء بالشيء
دائما".
ومعنى لزوم الجماعة: أي مصاحبتها على الدوام، بعدم المفارقة لا حسّا ولا
شعورا.
والمقصود بالجماعة: جماعة المسلمين حصرا.
وجماعتهم تتشكل من: إمام، وعلماء ورعية.
فهذه الأصناف الثلاثة هي: عماد الجماعة، فرأسها الأئمة، والعلماء أمنة
وحفظة، والرعية قاعدة وعضد وسند، وقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.
فقد ذكر في الآية الأصناف الثلاثة، فأولوا الأمر هم ولاة الأمر والعلماء،
فلهم الطاعة في المعروف، والمأمورون بالطاعة هم الرعية.
فالمقصود بلزوم جماعة مسلمين: هو مصاحبة وعدم مفارقة جماعة المسلمين: ولاة
أمر، وعلماء، ورعية.
فأينما كان للمسلمين جماعة، فعلى المسلم ملازمتهم، حسّا ببدنه، وشعورا
بقلبه.
والجماعة بهذا المفهوم الشرعي لا تكون جماعة إلا إذا كانت ملتزمة بالكتاب
والسنة، بمفهوم السلف الصالح من الصحابة ومن تبعهم، فإن كانت كذلك فلا وجه
شرعي لمفارقتها.
لكن إذا قصرت الجماعة، وعلى رأسها ولاة الأمر ثم الرعية، في الالتزام
بالحق، فالقصور على أنواع: قصور عن الكمال.. وقصور عن الواجب.. وقصور عن
الأركان.
وكل نوع من هذه الأنواع له حكم خاص تفصيله ما يلي:
(أولا) القصور عن الكمال. ويكون
بفعل المكروه: وهو ما يثاب تاركه، ولا يعاقب فاعله.
ويكون بترك فعل المستحب: وهو ما يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه.
- فهذا الحال لا يسوغ ولا يبيح مفارقة الجماعة، ولا يبيح ما هو أدنى من
ذلك: الهجر. لأن هذه المرتبة للكمل، والله تعالى لا يأمر عباده بالكمال
وجوبا، بل استحبابا، فالمستحب لا يلزم الناس به، بل يرغبون فيه، والمكروه
لا يجبرون على تركه، بل يرغبون.
- ولذا لما أطال معاذ بن جبل رضي الله عنه صلاة العشاء بقومه شكوه إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أفتان أنت يا معاذ؟!)، ذلك لأن إطالة
الصلاة من المستحبات، لا من الواجبات، فلا يصح إلزام الناس بها، ومن باب
أولى يحرم هجرهم أو مفارقتهم لأجلها.
- ولم يوافق الصحابة أبا ذر رضي الله عنه على تحريمه ادخار ما زاد عن
الحاجة من المال، لأن الادخار إذا لم يكن مباحا، فهو من المكروهات في أسوأ
الأحوال، ليس من المحرمات، إنما المحرم: منع حق الله في المال. كالزكاة،
فلا يصح هجر الجماعة ومفارقتها لأجله.
(ثانيا) القصور عن الواجب.
ويكون بترك فعل الواجب: وهو ما يثاب فاعله، ويستحق العقاب تاركه. ويكون
بارتكاب المحرم: وهو ما يثاب تاركه، ويستحق العقاب فاعله.
- فهذا الحال أيضا لا يسوغ شرعا مفارقة الجماعة، إنما الهجر، أي هجر أهل
الكبائر، حسّا بالبدن، وشعورا بالقلب، بشرط أن يكون الهجر مفيدا، فإذا كان
ضارا، يفضي إلى مفسدة أكبر، فليس من الحكمة الهجر، بل النصح والصبر.
- والفرق بين الهجر والمفارقة، أن المفارقة: منابذة كاملة، حسّا وشعورا،
ولا تكون إلا مع الكافرين، أو المرتدين. أما الهجر فهو مفارقة جزئية، في
أشياء دون أشياء، تكون مع المسلم العاصي، قد تكون حسّا بالبدن، إذا أفاد
وزال به المنكر، وبالشعور في كل حال، لأن إنكار القلب لا بد منه في كل
معصية.
- في صحيح البخاري أن رجلا كان يضحك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كثيرا
ما يؤتى به في شرب الخمر، فجيء به يوما ليجلد، فلعنه رجل، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله)،
فنهى عن لعنه، وشهد له بالإيمان، فدل على أن صاحب الكبيرة يصح أن تجتمع فيه
الحسنة والسيئة، ومن كان كذلك لم يصح معاملته كالكافر مفارقة ومنابذة، إذن
التفريط في الواجب وارتكاب المحرم لا يوجب مفارقة.
(ثالثا): القصور عن الأركان. ويكون الإخلال
بأركان الدين وأصوله، بفعل الكفر والشرك الأكبر، المناقض للدين، كالحكم
بغير ما أنزل الله على جهة التبديل، أو ترك الصلاة كلية، وهذه هي الردة،
فإذا وقعت ممن ولي أمور الناس، فحملهم على الكفر، فهذا حال أذن فيه الشارع
بمفارقة الجماعة من حيث الأصل، كما في حديث عبادة بن الصامت: (وألا ننازع
الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان)، لكن ههنا
أمر مهم هو: أن هذا الإذن لا يعني إيقاع المفارقة في الحال، بل قبل ذلك
شروط لابد منها هي:
- الأول: أن يكون الكفر بواحا.
- الثاني: لا بد من إقامة الحجة.
- الثالث: لا يلزم من ثبوت وقوع الكفر وجوب
المفارقة، إلا بمراعاة القدرة والمصلحة.
الشرط الأول: أن يكون الكفر بواحا، أي صراحا
لا شك فيه.
فلا تجوز المفارقة بالكفر الخفي، وهو ما كان دليله خفيا غير واضح، بل لا بد
فيه من دليل قاطع، لا يتطرق إليه احتمال، والعلة أن ما ثبت بيقين لا يزول
إلا بيقين، والإسلام إذا ثبت بيقين، فلا يزول إلا بيقين، فلايصح الحكم بكفر
فعل ما، إلا بدليل قطعي الثبوت، قطعي الدلالة، أي ثابت يقينا، يدل على
الكفر يقينا، أما المتشابهات في معناها فلا يجوز الاستدلال بها، لأنه إذا
كانت الحدود تدرء بالشبهات، فالكفر من باب أولى، فالحكم بالكفر أشد، لأن
عاقبته الخلود في النار.
مثال ذلك:
قول النبي صلى الله عليه وسلم في حاطب بن أبي بلتعة، ردا على ما
أشار به عمر رضي الله عنه بضرب عنقه، كونه راسل قريش بعزم النبي صلى الله
عليه وسلم على غزوهم:
(وما يدريك يا عمر؟!، لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، قد
غفرت لكم)..
صريح في عدم تكفيره بما فعل، فلو كان كفر بإفشائه سر المسلمين، لم ينفعه
شهود بدر، لأن الشرك الأكبر يحبط الحسنات مهما عظمت، لكن إذا فرض جدلا أنه
فيه دلالة على كفره، فلا يمكن أن يدعي أحد أنه دليل قاطع على الكفر.
وإذا كان كذلك، لم يصح التكفير بدليل ظني الدلالة، بل لا بد من قطعي،
لقوله: (حتى تروا كفرا بواحا) وفي رواية (براحا)، وفي رواية: (صراحا).
فدل هذا على أنه ليس كل عون ومظاهرة للكافر يكون كفرا ، بل قد يكون كبيرة،
وقد يكون كفرا، إذا كان عن محبة لدين الكفار.
والملحظ هنا: أنه لا يكفي في إثبات أن فعلا ما كفر بواح، بمجرد الاعتماد
على أقوال بعض العلماء، بل لابد فيه من القطع واليقين، وطريقه: إما إجماع
الصحابة، أو إجماع القرون المفضلة، أو إجماع المسلمين.
الشرط الثاني: لا بد من إقامة الحجة على من
وقع في الكفر.
إذا ثبت أن الفعل كفر بواح، فلا يكفر صاحبها إلا بإثبات الشروط، من البلوغ
والعقل والقدرة، وانتفاء الموانع، من: جهل، أو شبهة، أو إكراه، أو خطأ، من:
نسيان وذهول وغفلة. فلا يقع التكفير بمجرد الفعل، بل لا بد من إقامة الحجة،
فطريق الحكم بالكفر على المعين ليس بالأمر الهين، لذا جاءت الآثار محذرة،
روى مسلم بسنده [التوبة، باب: سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه] عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى
بَنِيهِ فَقَالَ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اسْحَقُونِي،
ثُمَّ اذْرُونِي فِي الرِّيحِ، فِي الْبَحْرِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ
عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبُنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ بِهِ أَحَدًا؛
قَالَ: فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ، فَقَالَ لِلْأَرْضِ: أَدِّي مَا أَخَذْتِ؛
فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ، فَقَالَ: لَهُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟،
فَقَالَ: خَشْيَتُكَ يَا رَبِّ؛ أَوْ قَالَ: مَخَافَتُكَ؛ فَغَفَرَ لَهُ
بِذَلِكَ).
فهذا الرجل وقع في أمرين، كلاهما كفر: إنكاره للبعث، وإنكاره قدرة الله على
جمعه إذا صار رمادا.
لكن لما كان ذاهلا عن معنى وحكم ما صدر عنه، لشدة ما أصابه من الخوف
والخشية، لما سلف منه من الذنوب، غفر الله له وتجاوز عنه، فإن شدة الخشية
منعته من تقدير الكلام، وإدراك ما وراءه من أحكام توجب الكفر، فكان ذلك
مانعا من الكفر، بل كان سببا في مغفرة الله تعالى.
ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري [الأدب،
باب: من كفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال] بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ!،
فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا)
والمنهج عند أهل السنة والجماعة هو: التفريق بين الفعل والفاعل.
فالأفعال لها أحكام مستقرة شريعة، فالشرك والكفر والكبيرة، هذه الأفعال لا
يتغير حكمها، وفاعلها يطلق عليه حكمها، فمن فعل كفرا فهو كافر، ومن فعل
شركا فهو مشرك، فهذا الحكم عام، أما عند التطبيق على الأفراد المعينين
فالأمر يختلف.
فلو أن فلانا من الناس ارتكب كفرا أو شركا، قلنا وقع في الشرك، لكن نمتنع
عن وصفه بأنه مشرك، حتى نتيقن إن كان عالما ذاكرا، قاصدا، راضيا، منشرحا
بفعله، فربما كان جاهلا أو ناسيا أو غير متعمد ولا قاصد، أو مكرها كارها،
ونحو ذلك من الأعذار، التي تمنع من الحكم عليه بموجب ما فعل، فالوقوع في
الكفر لا يوجب الحكم عليه بالكفر، إلا بعد معرفة حقيقة حاله، وماذا أراد
بفعله، وهذا ما يسميه العلماء بقيام الحجة.
وهذا غاية العدل، فإن من الظلم الحكم على أحد بأمر لم يرده ولم يقصده، فإن
كثيرا من الناس، قد يفعلون الفعل، ويقولون القول، وليس لهم غرض فيه، ولم
يقصدوه، وربما لم يعرفوا معناه، فكيف يؤاخذون بما لم تتعمده قلوبهم، ولم
تفهمه عقولهم، وقد قال تعالى:
{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}.
وهل مهمة الرسل إلا الإفهام والتعليم والإيضاح؟.
فالمؤاخذة لا تكون إلا بعد البلاغ المبين، وكذا الحكم على الإنسان الواقع
في كفر لا يكون إلا بعد بلاغه، ومعرفة حاله على وجه اليقين، فليس كل من وقع
في الشرك، فبالضرورة أن يكون مشركا كافرا.
والملحظ المهم هنا:
أن المسلم قد يرى في المجتمع الذي يعيش فيها أعمالا هي كفرية بواح،
لكن ذلك لا يسوغ له المفارقة، لعدم قيام الحجة، بسبب تعذر تحقق الشروط
وانتفاء الموانع، لأي سبب من الأسباب الكثيرة، فليس له إذن إلا الصبر
واحتساب النصح والإصلاح، ولن يأمره الله بأكثر من ذلك.
الشرط الثالث: المفارقة لا تكون إلا مع
القدرة والمصلحة الراجحة.
إذا ثبت أن الكفر صراح، بدليل قطعي لا ظني، في ثبوته ودلالته، ومن وقع فيه
أقيمت عليه الحجة، فإن ذلك لا يعني الشروع في المفارقة، كلا، بل لا بد من
شرطين: القدرة، ورجحان المصلحة.
- الأول: القدرة: فإذا لم تكن ثمة قدرة على
التغيير والإصلاح، فلا يسوغ شرعا المفارقة والخروج، لأن المقصود الإصلاح،
وفي حال عدم القدرة لا يمكن الإصلاح، فلا فائدة إذن.
- الثاني: المصلحة: فإذا كانت القدرة موجودة،
لكن المفارقة تفضي إلى زيادة المفسدة، فلا تجوز المفارقة، لأن تقليل
المفسدة واجب شرعا، وزيادتها محرم شرعا.
فإذا دلت الأدلة والبراهين على أن المفارقة مفسدة كبرى، ولو فرض جدلا وجود
المسوغ الشرعي لذلك، وأهل العلم هم من يقرر هذا، فالواجب الصبر، ومعرفة أن
سنن الله تعالى في الكون جارية بالخير والشر، ولا يكلف الله نفسا إلا
وسعها، ولا يجب إلا البلاغ، والله تعالى هو المتولي أمر عباده، ويكفي هنا
المفارقة شعوريا، وهو أن يكون مع الناس ينصحهم ويذكرهم، لكن قلبه معتزل
عنهم بإنكار ما هم عليه من خطايا.
وهكذا نرى أن السبب الوحيد المسوغ شرعا مفارقة الجماعة: وقوعها في الكفر
الأكبر الصراح. غير أن هذا الطريق ضيق جدا، محصور بالشروط الآنفة، وهي شروط
يحتاج تطبيقها إلى تأنٍ وتأمل ودراسة مستفيضة، وتشاور، وتحاور، والذين لهم
اتخاذ الرأي في هذا هم: الفقهاء أهل العلم والحكمة والصبر والبصيرة.
ولا يسوغ أن ينفرد بتطبيق الحكم بعض الأفراد، خصوصا إذا كانوا غير معروفين
بالفقه والعلم، كل ذلك قطعا للطريق على المندفعين بغير روية، المتسرعين في
إطلاق الأحكام، واتخاذ الرأي المتفقر إلى الحكمة.
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز جوابا على سؤال عن
المراد بطاعة ولاة الأمر:
"ولا يجوز الخروج على ولاة الأمور، وشق العصا، إلا إذا وجد منهم كفر
بواح، عند الخارجين عليه من الله برهان، ويستطيعون بخروجهم أن ينفعوا
المسلمين، وأن يزيلوا الظلم، وأن يقيموا دولة صالحة، أما إذا كانوا لا
يستطيعون، فليس لهم الخروج، ولو رأوا كفرا بواحا، لأن خروجهم يضر الناس،
ويفسد الأمة، ويوجب الفتنة والقتل بغير الحق، ولكن إذا كانت عندهم القدرة
والقوة على أن يزيلوا هذا الوالي الكافر فليزيلوه، وليضعوا مكانه واليا
صالحا، ينفذ أمر الله، فعليهم ذلك إذا وجدوا كفرا بواحا، عندهم من الله فيه
برهان، وعندهم قدرة على نصر الحق، وإيجاد الصالح البديل، وتنفيذ الحق".
بعده سئل: "هل عجزهم يعتبر براءة للذمة، أي ذمتهم؟"، فأجاب:"نعم، يتكلمون
بالحق، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويكفي ذلك" [مجموع فتاوى ابن
باز 7/123] فتبين من كلام الشيخ:
- أن القدرة ورجحان المصلحة شرط للخروج، في حال ثبوت الكفر البواح، وهو
الذي لا يحتمل التأويل، أي قطعي الثبوت، وقطعي الدلالة.
مما سبق نلحظ حرص الشرع على تضييق وإغلاق باب مفارقة الجماعة،
وذلك عندما فرق بين أنواع التفريط في الحق الذي تقع فيه الجماعة:
- فتفريط هو مكروه، لا يسوغ مفارقة الجماعة لأجله، وهو فعل المكروهات، وترك
المستحبات.
- وتفريط هو محرم، لكنه كذلك لا يسوغ مفارقة الجماعة لأجله، وهو فعل
الكبائر.
- وتفريط هو محرم تحريما بالغا، يسوغ مفارقة الجماعة لأجله، لكن بشروط
بالغة الدقة والتحري، يصعب في أكثر أحوال استيفاؤها، كما تقدم، وهو الوقوع
في الكفر، والله تعالى يعذر عباده، ويقبل منهم الاكتفاء بالدعوة والبلاغ،
ولم يلزمهم بالخروج والمنابذة، ولم يوجب عليهم ذلك.
وهنا مسألة مهمة:
قد يقول قائل: الشريعة لم تغلق كليا باب الخروج على الجماعة
ومفارقتها، فثمة سبيل ولو ضيق لذلك، ففي حديث عبادة، الإذن بمفارقة
الجماعة، إذا ركبت كفرا بواحا، وحينئذ فلا حرج على من خرج.
فالجواب أن يقال:
- حديث عبادة رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم بسنده عن جنادة بن
أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت، وهو مريض، فقلنا: حدثنا، أصلحك
الله، بحديث ينفع الله به، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
(دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا: أن
بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا،
وألا ننازع الأمر أهله. قال: إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم فيه من الله
برهان). [كتاب الإمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية]
- وروى مسلم أيضا بسنده عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(ستكون أمراء، فتعرفون تنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي
وتابع. قالوا: أفلا نقاتلهم؟، قال: لا، ماصلوا) [كتاب الإمارة، باب: وجوب
الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، وترك قتالهم ما صلوا، ونحو ذلك].
- وروى أيضا بسنده عن عوف بن مالك الأشجعي، يقول: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول:
(خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار
أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قالوا: قلنا: يا
رسول الله! أفلا ننابذهم عند ذلك؟، قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة. لا، ما
أقاموا فيكم الصلاة. ألا من ولي عليه وال، فرآه يأتي شيئا من معصية الله،
فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة) [كتاب الإمارة، باب:
خيار الأئمة وشرارهم]
في هذه الآثار فوائد: - الأولى: لزوم الجماعة، وعدم الخروج عليها.
- الثانية: الصبر على ما يفعله ولاة الأمور من المعاصي، في خاصة أنفسهم، أو
بما يأذنون به للناس.
- الثالثة: جواز الخروج عليهم في حالة واحدة هي: أن يأتوا بكفر بواح، أي
صريح لا يحتمل التأويل، وضرب مثلا على ذلك: منع إقامة الصلاة. فعلى مثل هذا
المنكر الصريح أذن بمفارقة الجماعة.
قال الإمام المازري:
"لا يجوز الخروج على الإمام العدل باتفاق، فإذا فسق أو جار، فإن كان فسقه
كفرا وجب خلعه، وإن كان ما سواه من المعاصي، فمذهب أهل السنة: أنه لا يخلع.
واحتجوا بظاهر الأحاديث، وهي كثيرة، ولأنه قد يؤدي خلعه إلى إراقة الدماء
وكشف الحريم، فيكون الضرر بذلك أشد من الضرر به، وعند المعتزلة أنه يخلع،
وهذا في إمام عقد له على وجه يصح، ثم فسق وجار، وأما المتغلبون على البلاد،
فالكلام فيه يتسع، وليس هذا موضعه. والاستثناء بقوله: (إلا أن تروا كفرا
بواحا) يؤكد ما قلناه من التفرقة بين الكفر وغيره" [إكمال المعلم بفوائد
مسلم 6/246]
قال القاضي عياض:
"وقال جمهور أهل السنة من أهل الحديث والفقه والكلام: لا يخلع بالفسق
والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه، وترك
طاعته، فيما لا يجب فيه طاعته، للأحاديث الوارد في ذلك من قوله صلى الله
عليه وسلم: (أطعهم، وإن أكلوا مالك، وضربوا ظهرك، ما أقاموا الصلاة)،
وقوله: (صل خلف كل بر وفاجر)، وقوله: (إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من
الله فيه برهان)، وقوله: (وألا ننازع الأمر أهله)، وأن حدوث الفسق لا يوجب
خلعه، وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد في هذه المسألة الإجماع.
وقد رد عليه بعضهم هذا القيام لحسين وابن الزبير وأهل المدينة على بني
أمية، وجماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج مع ابن الأشعث،
وتأولوا قوله: (وألا ننازع الأمر أهله) في أئمة العدل وأهل الحق، وقيل: بل
هذا مخاطبة للأنصار ألا ينازعوا قريشا الخلافة.
وحجة الآخرين أن قيامهم على الحجاج ليس لمجرد الفسق، بل لما غير من الشرع،
وظاهر الكفر لبيعه الأحرار، وتفضيله الخليفة على النبي صلى الله عليه وسلم،
وقوله المشهور المنكر في ذلك. وقيل: بل كان في هذا الخلاف أولاً، ثم وقع
الاتفاق بعد على ترك القيام" [إكمال المعلم 6/247]
ويظهر من النقل الآنف ضعف الخلاف في المسألة، وأن القول الصواب الراجح هو
ما وافق الأحاديث أن المفارقة لا تكون إلا بالكفر البواح، كترك الصلاة، وما
دون ذلك فلا يحل ولا يجوز، ولو قال به بعضهم، ولو فعله بعضهم، فإن كثيرا
ممن خرج على الأئمة، كالحسين رضي الله عنه، ومن خرج مع ابن الأشعث كالشعبي،
ندموا على ما كان، وأدركوا أن هذا الطريق غير مأمون، كثير الزلل، ضرره أكثر
من نفعه.
وهذا فيه بيان بأن علاج هذه الحالة لا تكون بالخروج والخلع، بل بطريق آخر،
ولا طريق آخر إلا الدعوة والموعظة والمجادلة بالتي هي أحسن، والصبر،
والحكمة، والدعاء، والله قادر على كل شيء.
وإذا كانت هذه هو النصوص، وهذه دلالتها، وهذه أقوال العلماء واعتقاد أهل
السنة والجماعة، في مسألة الخروج ومفارقة الجماعة، فهل أولئك الذين فارقوا
الجماعة، وشرعوا في التفجيرات، وقتل الآمنين، المعصومين في دمائهم، ممتثلون
للهدي النبوي في الخروج والإصلاح؟.
فالجواب يقال: كلا، بل مخطئون خطئا جسيما في
عدة أمور:
- الأول: أنهم جعلوا بعض الذنوب كفرا بإطلاق،
وليست كذلك في الشريعة، فإنهم أطلقوا القول: بأن مظاهرة الكافرين كفر
بإطلاق، مخالفين الدليل الشرعي، الذي فرق، فجعل من المظاهرة ما هو كفر،
ومنها ما هو كبيرة، دون الكفر، كما دل عليه قصة حاطب بن أبي بلتعة.
- الثاني: أنهم أنزلوا أحكام الكفر، أو ما
يرونه كفرا، على الأعيان!!.. دون إقامة الحجة، وهذا تجاوز خطير، وجرأة على
التكفير، لا يقدم عليه إلا من لا يدرك خطورة ما ينتج عنه من آثار.
- الثالث: أنهم يفتقرون إلى الحكمة، وإدراك
المصلحة، فإنه مهما كان خروجهم ومفارقتهم الجماعة، في نظرهم، سائغ شرعا،
فإن ما يبتغونه لن يتحقق لهم بهذا الأسلوب العنيف المرعب، ولو كان لهم نظر
وتفكير، لما أقدموا على هذا العمل الخطير، ولجعلوا همهم وطريقهم في
الإصلاح: الكلمة الطيبة.
- الرابع: على هذه الأخطاء بنوا مفارقتهم
الجماعة، واستحلالهم الدماء، ففجروا، وقتلوا الآمنين، والضعفاء، والصغار،
بغير ذنب، وأخلوا بالأمن، وأهلكوا الحرث والنسل، ونالوا سخط جميع المؤمنين.
وبهذا نلحظ أن هؤلاء المفارقين للجماعة لا يملكون حظا من العلم، يفرق لهم
بين ما هو كفر، وما ليس بكفر، يفرق بين المتشابهات، وليسوا متبعين لنهج أهل
السنة والجماعة في التفريق بين وصف الفعل بالكفر، وإيقاع الحكم على الفاعل،
كما أنهم ليسوا أهل حكمة وروية، وصبر وأناة، بل تهور وعجلة.
فلا هم الذين حققوا وحرروا مسائل الكفر، ولا هم الذين أقاموا الحجة على من
اعتقدوا أنه وقع في الكفر، ولا هم الذين اتخذوا طريق الحكمة، ومعرفة أن
الأمور لا تتغير مجراها بهذا العنف، بل بالقناعة، ولا هم الذين تركوا هذه
القضايا الكبار لأهلها، من العلماء.
قد يقول قائل: إذن كيف يكون تغيير الأخطاء الكبيرة، وبعضها قد
تكون كفرا، إذا كانت في المجتمع؟. فالجواب أن يقال: روى البخاري في الفتن
عن حذيفة رضي الله عنه أن قال:
(كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن
الشر، مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إن كنا في جاهلية وشر، فجاء
الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟.
قال: نعم. قلت: وهل بعد هذا الشر من خير؟. قال: نعم، وفيه دخن. قلت: وما
دخنه؟.
قال: قوم يهدون بغير هدي، تعرف منهم، وتنكر.
قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟.
قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها، قذفوه فيها.
قلت: يا رسول الله! صفهم لنا. قال: هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا.
قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟.
قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.
قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟.
قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت، وأنت
على ذلك).
فهذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم:
أن على المسلم أن يتعلم أمور دينه، ويتعاون مع أهل العلم والخير، ويدعو إلى
الحق، ويلتزم الجماعة، فيتخذ هذه الوسائل السلمية في الإصلاح، فإن عجز
وفشل، فعليه أن يعتزل، ويتمسك بالحق، وبه يكون ممثلا لجماعة المسلمين، فإن
الجماعة هي التي تكون على الحق المنزل، ولو تشخصت في رجل واحد.
ومثل هذه الوصية (الدعوة، أو العزلة) جاءت في حال طغيان الفساد، وانسداد
أبواب الخير والإصلاح بشكل تام، فكيف إذا كان الخير موجودا، يزاحم الشر،
ويدافعه، والحرب بينهما سجال، كما هو الحال؟.
إن ذلك لأدعى لاتخاذ الوسائل السلمية، واجتناب وسائل العنف والقوة، يقول
الله تعالى:
{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}.
فما ثمة سبيل للإصلاح والتغيير إلا الكلمة الطيبة، والناس مسلمون مستجيبون
يحبون الخير، وقد جُربوا في مواطن كثيرة، فأثبتوا حبهم للإسلام وقضاياه، من
الإنفاق في سبيل الله تعالى، والمسارعة لنجدة المحتاج، والإقبال على
الطاعات، وما فيهم من المعاصي الظاهرة، لا يسلم منها إنسان، سواء كانت
كبيرة أو ما دون ذلك.
وإذا كان كذلك، فمن الظلم والإثم، معاملتهم بمثل هذه الحلول المتعسفة
الخطيرة، التي لا سند لها شرعا، من المفارقة والخروج، والقتل والقتال،
والتفجيرات وقتل المسلمين، بزعم أنهم كفار مرتدون ؟!!.
وفي هذه الأحوال: العلماء هم الأمنة، فالتزامهم نجاة، ولا نجد عالما يوافق
على هذه التفجيرات الخاطئة، وهذا العدوان على الأنفس المعصومة، بل كلهم
مطبقون على استنكارها، والأمة متمثلة في علمائها لا تجتمع على ضلالة، فمن
خالفهم فهو على ضلالة، وعليه التوبة إلى الله تعالى، واتباع سنن الأنبياء
والمرسلين.
وإذا تأملنا في النصوص الشرعية لم نجد فيها تحريضا على مفارقة الجماعة
والخروج عليها وقتالها بسبب معاصيها، مثلما نجد فيها الأمر بالبلاغ، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة، والإصلاح، والمجادلة بالتي هي أحسن،
والحكمة، والموعظة الحسنة، فهذه نصوصها متضافرة وكثيرة.
وفي مقابلها نجد بعض النصوص المبيحة - لا الموجبة - مفارقة الجماعة بشرط
كبير، تحققه يحتاج إلى شروط، وبين الشرط وتحققه مفاوز وعوائق كبيرة وعظيمة،
فطريقه صعب وشاق، محفوف بالخطر والمزالق، وللمؤمنين أن يتركوه.
وهذا فيه دلالة إلى أنه ينبغي أن تتوجه العناية إلى الإصلاح بالكلمة
الطيبة، وأن يصب الجهد فيها، خاصة والناس فيهم استجابة، ولا ينبغي للمؤمن
أن يفقد الأمل، وقد كانت الأنبياء يؤذون، ويضربون، ويقتلون، ثم مع ذلك
يقولون:
(رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
قال الله تعالى: {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى
أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين}.