مقدمة......
ليست القضية قضية احتفال بمولد النبي
الكريم أو توسل به أو شد الرحل إلى قبره، فهذه القضايا محل خلاف بين العلماء،
وإن كان الصواب منعها ..
بل القضية أبعد من ذلك، إنها قضية...........
---------------------------
في كل عام يدور جدل كبير ـ إذا حل شهر ربيع الأول ـ حول قضية المولد النبوي
بين مؤيد ومعارض..
هذا الجدل يأخذ في كثير من الأحيان شكلا من أشكال التعصب واتباع الهوى،
ويقينا أن المسلم يقصد الحق ويبتغي الثواب، لكن هذا القصد لا يغني ولا يجدي
إلا إذا وافقه اتباع الشرعة المحمدية..
وإن قضية المولد في حد ذاتها ليست بتلك المشكلة التي يترتب عليها إيمان أو
كفر، وإن كانت لا ريب محدثة، يدل على حدثانها:
تأخر ظهورها عن عصر النبوة والصحابة والتابعين والسلف، ومضي القرون الثلاثة
الأولى المفضلة دون وقوعها..
وكل الخير في اتباع من سلف، وكل الشر في ابتداع من خلف، والأمة الراشدة هي
التي يسعها ما وسع سلفها الصالح، لكن لا يعنينا في هذا المقام أن نبين أصل
المولد ونشأته بالقدر الذي يعنينا فيه استشفاف الحقيقة الكامنة وراء هذا
المولد..
أمامنا ثلاث قضايا كلها تتعلق بالنبي
الكريم صلوات الله وسلامه عليه:
الأولى: المولد..
الثانية: التوسل به..
والثالثة: شد الرحل إلى قبره..
هذه الأمور الثلاثة صارت عند طائفة من الناس علامة على حب رسول الله، فمن
احتفل بمولده وتوسل به وشد رحله إلى قبره فهو محب، ومن لم يفعل ذلك أو نهى
عنه فهو فاقد الحب..
وقد قلنا من قبل إن إمامنا في كل قضية الكتاب والسنة وفقه السلف:
فهل الشرع دعى إلى شيء من ذلك؟..
وهل جعلها علامة على حب الرسول؟..
الثابت أن الشرع لم يأمر بالاحتفال بالمولد النبوي، لكنه في ذات الوقت لم ينه
عن تدارس سيرة النبي واستخراج العبر منها في كل زمان ومكان، بل هو من
المقربات إلى الله تعالى، والشرع لم يعلق حب الرسول على فعل تلك الأمور
الثلاثة، بل علقه على اتباعه وتعظيمه..
وأما التوسل فإن الشرع لم يأمر بالتوسل بالنبي الكريم بعد مماته، وقد كان
الصحابة يتوسلون به في حال حياته، أي يطلبون منه الدعاء، وكان هذا جائزا
حينذاك، لكنه لما مات تركوا ذلك لعلمهم أن الميت ولو كان نبيا لا يملك أن
ينفع أحدا..
لذا فإنهم لما قحطوا في عام الرمادة في عهد عمر استسقوا بالعباس عم النبي وما
استسقوا بالنبي فقال عمر رضي الله عنه:
" اللهم إنا كنا نستسقيك بنبينا فتسقينا، وإن نستسقيك بعم بنبينا فاسقنا"
البخاري، كتاب الاستسقاء باب سؤال الناس الأمام الاستسقاء إذا قحطوا، انظر:
فتح الباري 2/494.
وفي خلافهم في سقيفة بني ساعدة حول الخلافة لم يتوسلوا به في حل ذلك الخلاف،
ولا في المحنة التي تعرض لها عثمان رضي الله عنه، ولا في الخلاف بين علي
ومعاوية رضي الله عنهما..
فلو كان التوسل به ـ أي طلب الدعاء منه بعد مماته ـ جائزا لم يفرط الصحابة
فيه، فعدم فعلهم ـ وهم الأحرص على الخير ـ يدل على المنع منه..
وأما التوسل بجاهه فذلك أمر لم يفعله الصحابة أبدا لا في حال حياته ولا بعد
مماته، وما ورد من أثر يجيز التوسل بجاهه فهو ضعيف، وما عرف عن السلف مثل هذا
النوع من التوسل، إلا ما كان من الإمام أحمد..
أما عن شد الرحل إلى قبره عليه الصلاة والسلام، فإنه نهى عن شد الرحال إلا
إلى ثلاثة مساجد فقال: ( لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا
والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ) البخاري كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة
والمدينة انظر: فتح الباري3/63ـ64
أي لا يجوز شد الرحل لأجل العبادة إلا لهذه المواطن الثلاثة..
أما من قصد غيرها لأجل العبادة فقد خالف الأمر ووقع في النهي، لكن قد يأتي من
يخالف فيقول:
"ليس في الحديث النهي عن شد الرحل إلى القبر، وليس فيه ذكر القبور أصلا، فمن
أين قلتم الحديث ينهى شد الرحل إلى القبر؟"..
فيقال: إنما ذكرت المساجد لأن المقصود هو العبادة، فالقاصد للمسجد إنما يقصده
لأجل الصلاة وقراءة القرآن والذكر والاعتكاف، وهذه عبادات، وزيارة القبور لا
ريب أنها عبادة لأن الشارع أمر بها..
وكل ما أمر به الشارع فهو عبادة..
وعلى ذلك فلا يجوز السفر من أجل زيارة القبر، لأن السفر لأجل العبادة لا يجوز
إلا لهذه الثلاثة..
وليس في هذا الكلام منع لزيارة القبور، بل الزيارة مشروعة في كل حال، أما
الممنوع فهو السفر لأجلها..
فإن لم يسلم المخالف بهذا فحينئذ الحَكَم الذي يحكم بين المسلمين إذا اختلفوا
في فهم نص من نصوص الشرع هم السلف وعلى رأسهم الصحابة، فماذا يقول الصحابة في
هذه المسألة؟..
ورد أن أبا هريرة خرج إلى الطور فلما بلغ ذلك بصرة بن أبي بصرة الغفاري قال
له حين أقبل:
"لو أدركتك قبل أن تخرج إليه ما خرجت سمعت رسول الله يقول: فذكر الحديث"
الموطأ، النسائي كتاب الجمعة باب ذكر الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم
الجمعة، صححه الألباني..
وجاء رجل إلى ابن عمر فقال له:
" إني أريد الطور..
فقال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد
الأقصى فدع عنك الطور ولا تأته".. أحمد وعمر بن شبة في أخبار المدينة، انظر:
فتح المجيد باب ماجاء في حماية المصطفى جناب التوحيد ص289..
والطور ليست بمسجد بل هي بقعة مباركة، كلم الله فيها موسى عليه السلام،
فالصحابة ما فهموا من الأثر أن المنع خاص بالمساجد، بل فهموا المنع لأجل
العبادة، ولو فهموا أنه مخصوص بالمساجد لما أنكروا على من خرج إلى الطور يريد
التبرك..
فهذه فتوى الصحابة في هذه المسألة، ولا أظن مسلما إلا هو يرضى بما ثبت عنهم
ورضوه دينا، لأنهم هم الكمل، وهم خيار الأمة وقدوتها..
وكل حديث ورد في فضل زيارة قبره عليه الصلاة والسلام فهو ضعيف كما ذكر الأئمة
المحققون كابن تيمية، بل الذي ورد النهي عن اتخاذ قبره عيدا فقال: ( لاتتخذوا
قبري عيدا )..
أي تعادونه بالزيارة، والعيد في اللغة اسم لما يعتاد مجيئه، سمي عيد الفطر
عيدا وكذا الأضحى والجمعة لكونها معتادة تجيء كل عام وكل أسبوع، فالذي يزور
قبره في كل موسم أو عيد أو نحو ذلك فقد اتخذ قبره عيدا، وهذا هو ما نهى عنه
الرسول الكريم..
وقد أنكر الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب اعتياد القبر فقد روى سعيد بن
منصور في سننه عن سهيل بن أبي سهيل قال:
" أتى الحسن بن الحسن بن علي عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال:
هلم إلى العشاء..
فقلت: لا أريده..
فقال: مالي رأيتك عند القبر؟..
فقلت: سلمت على النبي..
فقال: إذا دخلت المسجد فسلم..
ثم قال: إن رسول الله قال:
( لاتتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني
حيث كنتم، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )، ما أنتم
ومن بالأندلس إلا سواء" انظر: الفتاوى 27/189. فتح المجيد باب حماية المصطفى
جناب التوحيد ص286..
فقد أنكر عليه زيارته القبر، وأرشده إلى السنة وهي أن من أراد السلام على
رسول الله فإن في الأرض ملائكة سياحة تبلغه عن أمته السلام، فلا فرق بين
القريب من القبر والبعيد عنه كما ذكر ابن رسول الله الذي هو أقرب الناس نسبا
إليه، فالسنة لمن أراد السلام عليه أن يسلم حين دخوله المسجد كما أرشد إلى
ذلك النبي الكريم، والسنة أن يصلى ويسلم عليه في الصلاة، فهذا الذي يشق على
نفسه بالسفر وإتيان القبر لأجل السلام يستوي هو ومن قعد في بيته في أقصى
الأرض في بلوغ السلام، فلم هذا العناء ورسول الله لم يأمر بزيارة قبره؟..
وما عرف عن صحابته أنهم كانوا يعتادون القبر، بل لم يكونوا يزورونه إلا ما
كان من ابن عمر كان إذا قدم من سفر أم القبر فسلم على رسول الله ثم أبي بكر
ثم أبيه ..
انظر: المصنف لعبد الرزاق، كتاب الجنائز، باب السلام على قبر النبي صلى الله
عليه وسلم، والمصنف لابن أبي شيبة، كتاب الجنائز، باب من كان يأتي قبر النبي
صلى الله عليه وسلم فيسلم..
قال عبيد الله بن عمر:
" لا نعلم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك " ..
انظر: مصنف عبدالرزاق، كتاب الجنائز، باب السلام على قبر النبي صلى الله عليه
وسلم، فتح المجيد ص288، الجواب الباهر ابن تيمية 60 ..
إذن.. تعليق محبة رسول الله بفعل هذه الأمور الثلاثة إذا كان صادرا من جاهل
لا يعلم حقيقة الأمر النبوي وما هو مشروع وما هو ممنوع فهو معذور لجهله وظنه
ثبوت مالم يثبت، وإن كان لا يعذر في ترك سؤال أهل العلم..
وأما إن كان صادرا من عالم يعلم عدم ثبوت ذلك في الشرع ويخفي وراءه اعتقادا
خاصا وفكرا موروثا عن الأديان والنحل القديمة، يقصد به تقويض ملة الإسلام
وهدم أركان الإيمان بالله فهنا نصل إلى لب القضية التي نريد أن نوقفكم على
حقيقتها:
إننا أمام فكر خطير لا يمت إلى الإسلام بصلة، له قواعده وأركانه المستمدة من
ثقافات أجنبية قديمة من قبل الإسلام، دخل إلى الإسلام باسم الزهد في أول أمره
لما كان الزهاد من أرباب هذا الفكر يملؤون الدنيا، ثم تحول لاحقا إلى الدعوة
إلى محبة رسول الله لما قل الزهادون منهم وكثر المترفون..
لذا فالذي نقوله هنا:
ليست القضية قضية احتفال بمولد النبي الكريم أو توسل به أو شد الرحل إلى
قبره، فهذه القضايا محل خلاف بين العلماء، وإن كان الصواب منعها لما سبق من
أدلة..
بل القضية أبعد من ذلك، إنها قضية فلسفية تخرج معتقدها من دائرة الإسلام
وتدخله دائرة الإلحاد والزندقة، وللأسف، المتفطنون لهذا الأمر هم قلة والأكثر
في غفلة عن الحقيقة، وتلك الغفلة تساهم بطريقة لا شعورية في ترسيخ هذه الفكرة
المصادمة للإسلام، حين ينحصر البحث والجدل حول قضايا فرعية مع نسيان القضية
الأساسية..
لذا كان من المهم أعطاء فكرة عن الأصل الذي انبثق عنه ادعاء محبة الرسول
والنسبة إليها عند هؤلاء الذين سموا صوفية وأشغلوا العالم بهذه الدعوى، لكي
نعلم هل هم صادقون في هذه المحبة، أم أن لهم غرضا آخر من الدعوة إليها؟..
ذلك سيكون في المرة القادمة إن شاء الله.