اطبع هذه الصفحة


أَعُلماء عَلمانيون؟! (2): تنصير الشريعة وإشراك قيصر

أبو محمد بن عبدالله


وقفنا في الحلقة الأولى (أَعُلماء عَلمانيون؟! (1): الطريق إلى علمنة العلوم الشرعية) عند منتهى ما كُنّا نشتكي منه في مراحل هذه العلمنة...
أمَّا الآن – كما لم يحدث من قبل- نشتكي من علمنة علماء دين، ودعاة دولة إسلامية، وخلافة على منهاج النبوة.. زَعَموا!

ونؤكد على أنه لا يهمنا شخصُ أحدٍ بعينه، ولا نروم ولا نرمي إلى الحكم على أحد مهما كان، وإنما نقصد فقط إلى المفهوم، فيما نراه خطأ، لأن العلماء أحباب قلوبنا، وحبهم دين عندنا، لكن الحق أحب إلينا منهم، ودين الله أولى بالاتياع، وإنما يَبقَوْن علماء ما التزموا الميثاق، فإنهم نقضوه سقطت عَلَميّتُهم، بل هذا مما تعلمناه منهم.

وقبل الخوض في مستنقعها، نوجز في التعريف بالعَلمانية:


أولا: هي عَلمانية (بفتح العين) من عَالَم، وليست عِلمانية (بكسر العين)، فعِلمانية بكسر العين من العِلم، والعَلمانية لا علاقة لها بالعِلم، بل هي الجهل والجاهلية.

فأصل الكلمة عَـالمانية؛ (بفتح العين ومَدِّها)، أي عالَم دنيوي لا ديني، ثم اختُصِرَت عربيًّا إلى عَلمانية، ومعناها عند أهلها وفي قواميسهم ودوائر تعريفهم: "اللادينية أو الدنيوية، أو الاتجاه الذي لا يَعتبر الدين، ولا يهتم به، ولا يقيم له وزنًا في شؤون الحياة الدنيا". والدنيوية التي تُرجمت بالعَلمانية لا تؤمن بشيء وراء الدنيا(1).

فأصدق تعريفات العلمانية وأصرحها أنها: "مذهب هدَّام يراد به فصل الدين عن الحياة كلها وإبعاده عنها، إما قهرًا، ومحاربته علنًا كما فعلت الشيوعية، وإما بالسماح به وبضده من الإلحاد كما هو الحال في الدول الغربية أو من قلَّدها من العربية، وتسمية ذلك حرية شخصية وديمقراطية"(2).

فهي باختصار: فصل الدين عن الدولة، وفصل السياسة عن الدين، فلا يتدخل الدين في السياسة.. أما السياسة في الواقع فلا تتدخل في الدين فحسب، بل تتحكم في الدين مستعينة بالسلطان، وبقيصر وجنوده وبفتوى القس!

ولم تقل العلمانية الحديثة للناس لا تُصَلُّوا، بل إن سَدَنَتَها يَبْنون المساجد ويُرَتِّبون لها أئمة راتبين، وبعض رؤوسها والقُيَّاد يصلون الجمعة والأعياد.

ولم تقل العَلمانية للناس لا تقرؤوا القرآن، بل هي تُشرف على طبع المصاحف وتتقن وتتفنن وتوزِّعه بالمجَّان.
ولم تقل العَلمانية للناس لا تحجوا إلى بيت الله الحرام، بل هي تشرف على الحج، وبعض رؤوسها القَتَلة يحجون ويعتمرون.

ولم تقل العلمانية للناس لا تحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم، بل بعض رؤوسها يصلون عليه ويحتفلون بالمولد النبوي الشريف، ويسمُّون أبناءهم بأسمائه صلى الله عليه وسلم.

ولم تقل العلمانية للناس لا تتعلموا العلم الشرعي، بل شَيَّدت لذلك الجامعات وبنت المعاهد والمؤسسات، بل هي تصنع المُفتين وتُربِّيهم في كنفها.

شيء واحد يقلقها؛ وهو: أن تكون السياسة من الدين، أن يكون للدين توجيه لدفة الحياة، أن يكون الله إلهَ الأرض كما أنه هو إله السماء، أن تكون الآلهة إله واحدًا... أما تنحية الشريعة عن الحكم فهو مظهر العَلمانية الأبرز.

ونُنبه بعد السابق وقبل اللاحق أننا لا نرمي ولا نروم أن نحكم على معيَّنٍ بحكم، وإنما قصْدُنا فقط بيان الحقيقة، توصيفًا لا تشخيصًا.

إن العَلمانيين أفقه في الدين من بعض الإسلاميين، فهم يَعلمون أنَّ مَلَاك أمرِ الإسلام في تطبيق شريعته، وإقامة دولته، وتعميم حاكميته على شؤون الحياة كلها، ولذلك عَمَدوا إلى أُولى عراه فنقضوها، وهي الحكم بما أنزل الله، وهو عَمود سياسته، لكي تَتَتَابعُ عُراهُ نقضًا وانتقاضًا، وسخَّروا لذلك الحديد والنار والإعلام والمستشرقين والإرجاء، وأخيرًا انضافَ علماءُ عَلمانيون، كلهم جنَّدوهم لهذه الحرب على الشريعة، تقصد إلى نقضها، لأنها العُقدة التي تمسك العِقْدَ حتى لا تنفرط عُراهُ، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ليُنقَضنَّ الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها؛ فأولهن نقضًا: الحكم، وآخرهنّ الصلاة»(لإمام أحمد بن حنبل؛ المسـند، رقم:[22160]). لذلك بادروا إلى إسقاط البقية الباقية من الخلافة الإسلامية العثمانية.

ولا أطيل بنقل الكثير-لا كثَّره الله- من كثير مما يقوله هؤلاء -لا كَثَّرَهم الله-... وأكتفي بمثالين أوثلاث -ربما- ممن أخطأ الطريق في هذه المسألة، وأضلَّ كثيرا-لا كثرهم الله- بسبب الجهل أو التقليد الأعمى أو التعلق بالأشخاص، أو الانبهار بالغرب العَلماني، أو الخوف وطلب السلامة.. أو كما وصف الله تعالى: {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [الأنفال:38].

ولن أورِد أمثلة إلا عن مشهورين، مشار إليهم بالبنان، بلغ صوتهم الآفاق، انخدع بهم فئامٌ من الأمة، أو قلَّدوهم، يقيسون العلم بكثر العرض وارتفاع الصوت أو الانتساب إلى شريفٍ من المذاهب أو الأشخاص!!

المثال الأول: وهو الآن في عقده التاسع من عمره، ختم الله لنا وله وللمسلمين بأحسن الخواتيم.

يقول قبل سنين، : "أرى أنَّ مقولة: دَعْ ما لقيصر لقيصر وما لله لله، كلمة حكيمة تصلح لزماننا؛ ذلكم أن الانفصام بين الدين وبين الدولة صار أمرًا مقضيًا لا مرد له، ولا طاعن عليه، ولا محيد عنه"(3)

والانفصام هو الانفصال، فأقر هذا الشيخ بانفصال الدين عن الدولة إلى الأبد، وهو يرضى به كما يرضى بالقضاء والقدر، بل ولا يطعن عليه، ولا يحيد عنه!

وبعض منسوبي هذا الأخير يقول: "نحن رجال الدين؛ والسياسة لها رجالها"، هل ترون شرعنةً للعلمانية على أيدي (علماء) كهذه؟ أوترون عَلمانية العلماء إلى أين وصلت. إن العذر قد يصح للحكام لجهلهم.. وأقول: قد، أما أن يُعذر العلماء بالجهل في معلوم من الدين بالضرورة، فلعل العالم الذي يُفتي في هذا لم يولد بعد، ونسأل الله تعالى ألاَّ يولد، فضلا عن أن يلِد ويورِّث ويُخلِّف لنا مثله.

إن مقولة: "دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله" جاءت في "إنجيل مَتَّى" وهي مقولة ينسبها المسيحيون لعيسى عليه السلام. وقطعًا لا يمكن أن يقول نبيُّ الله هذه العبارة؛ على هذا المفهوم الذي يروِّجون له.

ورغم أن هذا العالم السلفي يتشدد في الأخذ من غير السنة - وهو صحيح-، ويردد قوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه حين وجده يقرأ في صحيفة من التوراة فقال له: «أمتهوكون أنتم يا ابن الخطاب؟! والله لو كان أخي موسى حيًّا بين أظهركم ما وسعه إلا اتِّباعي»(الألباني؛ إرواء الغليل، رقم:[1589]).

ومع ذلك تجد هذا العالم يأخذ عن "إنجيل مَتَّى" العقيدة والمنهج والسياسة الشرعية، وهي العبارة التي اعتمدتها أوروبا في طرد الدين من السياسة، وعَلمنة الدولة. جاء بها الشيخ ليُقرضها للدول (الإسلامية) قرضًا حسنًا أو بفائدة!

وهذه المقولة شرك بالله تعالى، حيث إنها قسمت بين الله تعالى وبين قيصر، وقيصر هنا هو الملِك أو الحاكم أو الرئيس أو متغلبا كان أو مُعَيَّنا أو مفروضًا أو منتخَبًا.

الشرك في خَلق هذا الكون وأمره؛ فأعطوْا للهَ الخلق ومنعوه الأمر، وأعطوْا لقيصر الأمر، فيأمر بما يشاء وينهى عمّا يشاء، ويشرع ما يشاء مما لم يأذن به الله، ويحلل ما يشاء ويحرم ما يشاء، ويحكم بالشريعة التي شاء.

بينما في القرآن الكريم يقول الله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:54]، فالخلق لله والأمر لله، فتوحيد الله في الخلق (الربوبية)، كتوحيده في الأمر (الألوهية)، والإشراك به سبحانه في الخلق كالإشراك به في الأمر، كلاهما مخرج من الملة. ومن سلَّم لقيصر بأن الوطن له، أو أن هذا الجزء من الأمر لقيصر يفعل فيه ما يشاء، فقد آمن بالشرك!

قال الشيخ ابن باز رحمه الله: " فالله سبحانه هو رب الناس وإلههم وهو الذي خلقهم وهو الذي يأمرهم وينهاهم ويميتهم ويحاسبهم ويجازيهم وهو المستحق للعبادة دون كل ما سواه قال تعالى: {ألا له الخلق والأمر} فكما أنه الخالق وحده فهو الآمر سبحانه والواجب طاعة أمره"(4). وقد قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].

فهذه المقولة تفصل بين الخلق والأمر؛ أي بين الربوبية والألوهية؛ ومَدحُ هذه المقولة مدحٌ للشرك بالله تعالى والرضا به. وتكريسُه والدعوة إليه دعوةٌ إلى الشرك باسم العلم الشرعي، ودعوة إلى الانحراف باسم استقامة المنهج، ودعوة للضلال باسم الهدى.

وتأمَّل قولَ هذا الشيخ: "أرى أنَّ مقولة: دَعْ ما لقيصر لقيصر وما لله لله، كلمة حكيمة تصلح لزماننا، ذلكم أن الانفصام بين الدين وبين الدولة صار أمراً مقضياً لا مرد له، ولا طاعن عليه، ولا محيد عنه".

أترى قائل هذا يؤمن بالمبشرات التي بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الإسلام سيعود بعد غربته، وأن خلافة على منهاج النبوة ستكون، وأن المسلمين سيقاتِلون اليهود حتى يشاركهم جهادَهم الحجرُ والشجرُ إلا الغرقد اليهودي؟

أتراه يؤمن بمثل هذه الأحاديث؟ وهي كلها وعودٌ ربانية ونبوية بأنها تَرُدّ وتَطعنُ وتحيد عن الإسلام غربته، وتحيد هذه العلمانية عن الطريق، بينما عالِمُنا لا يَرُد ولا يطعن ولا يحيد، ولكنه يُسَلِّم بها تسليم القضاء والقدر!

فهي إذن مقولة أثيمة، وليست مقولةً حكيمة.. ألا بئس ما يفترون في دين الله وعليه.

هذا القائلُ كان قد أثقل جنبَ الشيخ الألباني رحمه الله جلوسًا عنده، وخُطَبًا بين يديه؛ يهز أعواد المنابر على مسمعه وبين ناظريه، يُشار إليه بالبنان: وهو يرى أن العلمانية حكيمة! يعني ينسب الحكمة للكفر، وكفى مدحًا للكفر وإعجابًا به وتسليمًا له أن تصفه بالحكمة.. ولا أريد أن أحكم على قائل هذه الطامة والوقع في هذه الهُوَّة السحيقة المحيقة.

يا ما قيل عن هذا القائل بأنه عالمٌ نحرير وسلفيٌّ جليل وخطيبٌ ملهم؛ يهز أعواد المنابر... ويا ما قيل عنه: فقيه وأديب سلفي، وأصولي بارع حفظة الله وأتم به النعمة في بلاد الشام بعد وفاة محدثها الألباني رحمه الله الإمام الهُمام! وكم سمعَها منه مظنونٌ بهم خيرًا فسكتوا؛ فاتَّخذ الأغرارُ ذلك رضًا وإقرارًا؛ شعروا أم لم يشعروا.
إلى هذا الحد صار بعضُ (العلماء) علمانيين، أو قل: دعاة على أبواب العَلمانية!

----------------------
(1)- عبد الرّحمن حسن حَبَنّكة الميداني، كـواشف زيوف في المذاهب الفكريّة المعاصرة، دمشق، دار القلـم، ط 2، 1412هـ/ 1991م، 163 .
(2)- انظر: غالب بن علي عواجي، المذاهب الفكرية المعاصرة ودورها في المجتمعات وموقف المسلم منها، جدة، المكتبة العصرية، ط1، 1427هـ/ 2006م، 2، 683.
(3)- القائل: إبراهيم شقرة، في: "هي السلفية، نسبة وعقيدة ومنهجا" ص184، (www.almaktabh.net).
(4)- وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه"، الشيخ ابن باز، (طبع ونشر الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد (1409هـ).

هذه تابعة لمقالتنا:

أَعُلماء عَلمانيون؟! (1): الطريق إلى علمنة العلوم الشرعية

وفي مقالتنا القادمة إن شاء الله: مثال آخر لتَعَلْمُن العلماء.

 

أبومحمدعبدالله
  • المقالات
  • سلاسل علمية
  • الصفحة الرئيسية