اطبع هذه الصفحة


أعلماء عَلمانيون؟! (6): فقيهٌ بالشرع لا يفقه الواقع

أبو محمد بن عبدالله


نواصل في موضوعنا حولة عَلمنة العلم والعالم الشرعِييْنِ، ولكن على أيدي علماء شرعيين وبتنظيراتهم وتأصيلاتهم وتفريعاتهم. فهذا عالم مشهور في أوساط الشباب وطلبة العلم بأنه ذو باع في التأصيل الشرعي، وهو كذلك فعلا؛ يتكلم عن "فقه الواقع" و"فقه الواقع السياسي" ينتهي به المطاف إلى علمنة علماء الشريعة-ربما من غير أن يشعر، أو دون أن يعلم!

فإنه كان يشرح كتابًا للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فيصل إلى قوله: "فيه فهم الصحابي للواقع.." ومن بين ما قال الشارح في هذا الموضع: "ومن جانب آخر شاع في الزمن الأخير في هذه السنين الأخيرة الكلام عن فقه الواقع وما يتعلق به هذا يراد به زيادة عن الكلام الذي ذكرناه؛ لأن فقه الواقع عند من أطلقه من طلبة العلم يريد به ما ذكر وزيادة عليه فقه الواقع السياسي في الأمة أو في العالم. وما تقرر قد كتب فيه أن فقه الواقع السياسي هذا غير مشترط في العالِم أن يفقه الواقع؛ بمعنى أن يفهم ما يدور في السياسة لأن السياسة أمر لا يعرف ولا يدرس فرعه... وهذا المقطع الصوتي هــــنا و هــــــــــنا

ونؤكد أنه لا يهمنا شخص القائل، وإنما الذي يضيرنا هو صدور مثل هذا القول مِن عالم شرعي، ولذلك فالذي يحدونا إلى الرد هو اعتبارنا أن الحق فوق الجميع، ولا قُدسية لأحد دونه، ولا مجاملة فيه.

السلف وفقه الواقع السياسي

إن العلماء الأولين والسلف الصالحين كانوا فقهاء شريعة وفقهاء واقع، ولذلك قامت دولتهم واستقامت أمتهم وانتشرت دعوتهم.. بما في ذلك فقههم في واقع أمتهم السياسي، بل واقع العالم من حولهم السياسي.. فكانوا يَعلمون من واقع أمرائهم وحكامهم ومداخلهم ومخارجهم –ربما- بما لا يعرفون هم عن أنفسهم! وكانوا يعلمون الواقع السياسي لمن حولهم من الأعداء، وخططهم وتوجهاتهم وتآمراتهم مؤامرتهم، وخدعهم وألاعيبهم، ما يجعلهم يقفون في مقدمة الأمة في مواجهة أعدائها، والتصدي لها.

فكوننا نقول بأن "فقه الواقع الجديد" هو زيادة عما كان يفقهه السلف، هذا غير صحيح كأصل، بل الصحيح أن السلف كانوا أفقه لواقعهم السياسي الإسلامي والعالمي، وليس مَمْدحة لهم أن نصفهم بعكس ذلك، بل ليس صحيحًا أصلًا. وإنما الجديد هو تشعب الواقع السياسي، فتشعبت معارفه، وقد كان السلف يفقهون واقعه السياسي على حسب الموجود عندهم.

فلم يكن علماء السلف رحمهم الله ينغمسون في فقه الكتاب والسنة المتعلق بعبادات الناس ومعاملاتهم، ويتركون السياسة للحكام، من غير نصح أو مشاورة أو مشاركة، هذا لم يحدث إلا في الأزمنة الأخيرة، حين تخلى كثير من العلماء عن دورهم في توجيه الأمة، وتوجيه الحكام لسياسة الأمة بسياسة شرعية مرضية!

أسباب اعتزال العلماء للسياسة!

وطبعا فإن اعتزال بعض العلماء هذا الباب من الدعوة والتوجيه، بل والجهاد، له أسباب عديدة، منها:

- تأصيلات فقهية خاطئة، تعطي ما لقيصر لقيصر! وتقوم على شبهات من الاستدلال الخاطئ.

- ومنها: التنزيل البعيد.

- ومنها: ضغوطات جعلت بعض العلماء يعتزلها من باب اعتزال الفتن، فوقعت الفتنة بهذا الاعتزال نفسه، لأنه خلا الجو لأمراء لا يحرصون على الشريعة، في حالة اعتزال العلماء مجالسهم وتوجيههم. قد يكون لبعضهم أعذار سائغة ، ولم يقم علماء السلف يلعنون السياسة أو يقولون بحكمة دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، كما فعل بعض مشايخ هذا الزمان!

- ومنها الاكتفاء؛ فبعض السلف ابتعد عن السياسة، لا تأصيلا للاعتزال كما يفهمه من خلف بعدهم، وإنما لما يرى أنّ غيره قد كفاه، وأن هذا من فروض الكفايات، أو أن غيره أولى منه، أو أن هذا الوقت المعين يحسن له فيه التريث والتأمل في الأمر... فخلف من بعدهم خلْف في العصور الأخيرة وظنوا أن ذلك كان موقفا مبدئيا منهم، وأن العالم لا بد له من اعتزال السياسة، وأن السياسة لها فحول سياسيون وإن لم يكونوا شرعيين! بينما لم يقتدوا بمن خاض غمارها وقام مقام أمة في الأمة، مثل ما كان العز بن عبد السلام وابن تيمية وغيرهم-رحمهم الله جمعًا-.

علماء العصر وفقه الواقع السياسي

لقد ابتُليت الأمة بحكام جهلة جهلا مطبقا بالشريعة الإسلامية وبالسياسة الشرعية، وبغض النظر عن حكم الإسلام فيهم، وحكمه في ولايتهم- فمَن ذا الذي يرشدهم إلى ما فيه صلاح الأمة، إن لم يقم بذلك علماء الشريعة الكبار الموثوقون؟!

وكيف يقومون بذلك إذا لم يكونوا يفقهون الواقع السياسي الإسلامي أو العالمي...

وأقرب دليل إلينا اختلاف العلماء في جواز الاستعانة بأمريكا حلفائها وخُلفائها لضرب العراق وحرب العراق-وليس صدام-، ووعدتهم أمريكا بأنها لا تبقى أكثر من ستة أشهر لكسر شوكة صدام حسين ثم ترحل.. وللأسف واقع على ذلك علماء كبار رحمهم الله وغفر لنا ولهم بينما خالف علماء آخرون، ورأوْا- فضلا عن الدليل الشرعي- أن هذا غزو تريده أمريكا للشرق الأوسط، وليس حُبًّا في دول الخليج ولا دفاعًا عن الكويت، ولا بها سلاح نووي! وصرح به أكثر من مسؤول أمريكي، منهم سفير سابق لهم في دولة عربية، في حرب الخليج (1990م) قائلا: "إننا ذهبنا لتصحيح خطأ الرب حيث جعل الثروة هنا، بينما العالم المتحضر في مكان آخر"(1)

فاستقرؤوا الواقع، وفقهوه، وبيَّنوا أن أمريكا تخطط من سنة 1972 لتجد فرصة تدخل بها وتغزو بسببها وتحت غطائها الخليج، فجاءتها الفرصة المواتية، ودخلت الخليج، ووضعت قواعدها في العسكرية، وقتلت المسلمين بأيدي المسلمين ومال المسلمين وفتاوى المسلمين!

وفي النهاية صدقت فتوى من فقهوا الواقع السياسي، بينما أخطأ الآخرون على جلالتهم وعلمهم! والسبب الفرق في فقه الواقع السياسي.

خطر جهل العالم بفقه الواقع السياسي

ومن هنا يتبين أن قول الشيخ حفظه الله: "ومن ما تقرر قد كتب فيه وبُيِّن أن فقه الواقع السياسي هذا غير مشترط في العالِم أن يفقه الواقع السياسي..." غير صحيح، وقد سبق بيان علم ابن تيمية بفقه الواقع السياسي، لذلك كان يفتي السلاطين في إقامة الحرب وإيقافها، ويهددهم بإقامة غيرهم ليحمي البيضة ويحوط الحوزة.

وهنا، وعلى ضوء كلام الشيخ في عدم اشتراط فقه الواقع للعالم الشرعي؛ تجدني أنبِّه على مسائل منها:

1- هل أن هذا العالم يُفتي في أمر السياسة، وهو من أمر العامة من غير أن يعلم الواقع؟!

2- أم أن العالم هذا لا يفتي في السياسة، لذلك لا يجب عليه معرفة واقعها وتصور حالها؟!

فإن كانت الأولى، وهي أن العالم يفتي في أمور السياسة من غير أن يفقه ولا أن يعلم الواقع السياسي، فهذه معضلة، ومعناه أن هذا العالم يُفتي بجهل، وليس بعلم، لأن من أسباب إصابة الفتوى ومن شروطها: العلم بالشرع والعلم بالواقع، وإلا فكيف يُشترط للعالم فقه واقع مسألة حيض أو نفاس تَحتاجه أَمَة، ولا يُشترط لواقع تحاجه أُمَّة؟! والقاعدة: "أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره"، وهي عامة لكل حكم.

ولا يفتي في صحة ولاية أَمَةٍ في تزويج أو تطليق، حتى يفقه واقع الحال الخاص لهما، بينما يفتي في صحة أو بطلان ولاية أُمَّة من غير أن يفقه الواقع السياسي!

سمعت مرة شيخا مشهورًا-رحمه الله-، وقد سُئلَ عن الذين يجوِّزون الخروج على الحكام، هل نخبر بهم الدولة ونتعاون مع الحاكم عليهم؟! فأجاب الشيخ: أن نعم.. (وفي أثناء كلامه ذكر أنه لا يَعلم هل هذا البلد المسؤول عنه يطبق الشريعة أم لا! وهل حاكمها كافر أم لا!)، فطار شريطه كل مطار، وصار أتباعه يتقربون إلى الله بالوشاية بمخالفيهم، حتى بالظِّنة، دون التفات إلى شرط ما ستطبق عليهم الدولة من أحكام!

فثبت أن بعض العلماء يفتون فتاوى عظيمة في أمور السياسة، تذهب بها أرواح، وتُيَتَّم أطفال، وتُرمَّل نساء، وهم لا يفقهون الواقع السياسي.. من باب أنه لا يُشترط للعالم أن يعلم الواقع السياسي.

وكان الواجب عليه -إذْ لم يفقه الواقع السياسي- ألا يفتي فيه، ويترك فتواه لمن يعرف واقعه، وليس عيبا عندئذ إذا التزم بما يعرف، وترك ما لا يعرف لأهلها، وقد قيل من قبل:" من خاض في غير فنِّه أتى بالعجائب".

أما إن كانت الثانية، وهي أن العالم لا يفتي في السياسة، ولذلك لا يحتاج إلى علم واقعها، فهذه أكبر من أختها؛ لأنها تشتمل على خطأ في الأصل، وخطأ في المبدأ! ينتج عنه واقعُ خاطئ!

هل تقْصُرُ الشريعة عن بعض الوقائع؟

ومقتضاها الأول أن الواقع السياسي ليس له أحكام شرعية، وإلا لو كان له أحكام شرعية فالمفترض في العالم الشرعي، وريث النبي صلى الله عليه وسلم أنه يعلم كل ما له أحكام شرعية، ويفتي في كل ما له أحكام شرعية!

بتعبير آخر: هذا يقتضي أن الشريعة لا تشمل السياسة، وهي هي مقولة العلمانيين، بل عقيدتهم: لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة!

والإشكال موجود في كلام الشيخ -حفظه الله-، حيث يقول: "فقه الواقع السياسي هذا غير مشترط في العالِم أن يفقه الواقع السياسي؛ بمعنى أن يعلم، أن يفهم ما يدور في السياسة"، فلم أجد غير الاحتمالين أو المحملين السابقين لهذا الكلام، وهما: إما أن العالم الشرعي لا يفتي في السياسة، ولذلك لا يحتاج فقه واقعها، وإما أنه يفتي فيها ولكن بلا فقه واقعها، فيفتي بجهل.

وخاصة أن الشيخ قال من قبل: " ... فما كان منه مؤَثرًا في الأحكام الشرعية يعني تبنى الأحكام الشرعية عليه فهذا لا بد للعالم من معرفته قبل أن يحكم..."

وقال: "أما الواقع غير المؤثر في الحكم الشرعي فإن معرفته ليست مشترطة في العالم؛ لأن العالم يجب عليه أن يعلم ما يؤثر في الأحكام، أما ما لا يؤثر في الأحكام فلا يجب عليه". يعني أن فقه الواقع السياسي ليس له علاقة بالحكم الشرعي حتى يؤثر فيه! ومقتضاه أن أحكام الشريعة لا تشمل الواقع السياسي، لذلك ذهب الشيخ إلى أنه لا يُشترط للعالم فقه الواقع السياسي!

ومعلوم أن الواقع السياسي يتعلق ابتداءً بكل تصرفات الحاكم كحاكم، ابتداءً من القانون الذي يحكم به في الأمة، ما مصدره وما صحته؟ ويتعلق بطريقة وصول هذا الحاكم إلى سدة الحكم وولاية الأمر، ويتعلق بما يواجه الأمة من سلم وحرب وعقود هدنة وموادعة وصلح، ويتعلق بسياسة المال كسبا وإنفاقاً مما يتعلق بالأمور السلطانية والأحكام السلطانية، وبالجملة يتعلق بخلافة النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الشرع وسياسة الدنيا بشريعته وإقامة دينه في الناس. فهل شيء من هذا لا يفتي فيه العالم؟!

إذا كان عِلم العالم بالشريعة لا توجد فيه أحكام وأقضية لأمور السياسة هذه كلها، فدين هذا العالم عَلمانية، حيث فصلت الدين عن الدولة، وفصلت السياسة عن الشريعة!

لا يُشترط في كل عالم أن يمارس السياسة عملا، وإنما يرعى تصرفات الممارسين لها، ليضبطها على الشريعة، خاصة في زمن الحكام فيه من أجهل الناس بشريعة الله، فلزم ذلك العلماء.

وقد سبقت الإشارة إلى حديث: «كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء..» فارجع إليه وإلى كلام العلماء فيه.

------------------------
(1)- انظر: سفر الحوالي، وعد كسنجر، في (www.alhawali.com).

ويتبع إلى المقالات هذه السلسلة:

أَعُلماء عَلمانيون؟! (1): الطريق إلى علمنة العلوم الشرعية
أَعُلماء عَلمانيون؟! (2): تنصير الشريعة وإشراك قيصر
أَعُلماء عَلمانيون؟! (3): سياسة العَلْمَنَة والسيرة النبوية
أَعُلَماء علمانيون؟ (4): فقه العَلمنة، والسياسة في السنة
أَعُلَماء علمانيون؟ (5): الإرجاء في خدمة العلمانية

ويُتبع إن شاء الله تعالى

 

أبومحمدعبدالله
  • المقالات
  • سلاسل علمية
  • الصفحة الرئيسية