اطبع هذه الصفحة


ولاية المتغلب (5): الخليفة الثاني والطالب الحريص

أبو محمد بن عبدالله



الدليل الرابع: وهذا (المنقلب المتغلب) حتى لو اعتبرنا بأن تفويض قـسّ الأزهـر له وشـيخ الكنيسة، وحرب النور أو حزب الظُّلمة وبعض قادة العسكر وجبهة الخراب والتمرد... لو اعتبرنا ذلك بيعة له، فإنها بيعة توجب منازعة السيسي شرعًا، بل قتالَه، ولو انتهى بقتله هدرًا، لا أنها تولِّيه وتبيح له قتل الرافضين له، أو الخارجين عليه بالمظاهرات السلمية، أو المطالبين بالقصاص من قتلة المعتصمين السلميين في رابعة أو في الشوارع، أو حتى قتلهم في السجون وعربات الترحيل!.. لذلك بطلت بيعته، بل لم تثبت أصلا لأنها بيعة ظالمة ثانية بالانقلاب على إثر بيعة شرعية أولى ثابتة للدكتور مرسي بالانتخاب، أي باختيار الأمة، وفي الحديث: «إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخِر منهما»(مسلم؛ صحيح مسلم،برقم:[1853])، قال النووي في شرحه: "هذا محمول على ما إذا لم يندفع إلا بقتله"، وفي الحديث الآخر: «من أتاكم وأمركم جميعٌ يريد أن يَشُقَّ عصاكم، ويفرِّق جماعتكم، فاقتلوه»(مسلم؛ صحيح مسلم برقم:[1852])، وفي رواية :«فاضربوه بالسيف كائنًا من كان»، وفي حديث: «ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع. فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»(مسلم؛ صحيح مسلم، برقم:[1844]) قال النووي: "فيه الأمر بقتال من خرج على الإمام، أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك، ويُنهى عن ذلك، فإن لم ينته قوتل، وإن لم يندفع شره إلا بقتله فقُتلَ كان هدرًا"[شرح صحيح مسلم].

فحتى لو افترضنا بأن السيسي خليفة ثانٍ (وهو ليس كذلك قطعًا) فإن حكمه في الشريعة الصحيحة إقامة الحد عليه بالقتل، أو قتاله حتى ينغلب، لا أن يُقرَّ على السلطة ولا أن نعتبره حاكمًا متغلبًا مطاعًا!، ونبحث له في رُكام التاريخ عن فتاوى وأمثال نُشرعِن له جبروته، بل وكفرياته!

ولو كان النائب نائبًا عامًّا فعلا، ولم يكن نائبًا انقلابيًّا عسكريًّا سيسيًّا خاصًّا لكان أول أمرٍ بالضبط والإحضار يصدره بعد الانقلاب هو للقبض على السيسي لتُفتح له أكبر محكمة وتقام له أعدل محاكمة، ولَرُمِيَ به في غياهب السجون، ثم يحكم بقتله قصاصًا لمن قتلهم.

لا أثارة من دليل على المتغلب الذي عنه يحكون


إن حكاية (المتغلب!) والخضوع له والخنوع بأي وصف كان، مطلقًا من أي قيد، لم يأت فيها آيةٌ ولا نصُّ حديثٍ ولا اتفاقُ صحابةٍ ولا غير صحابة، وإنما هو في أحسن الأحوال اجتهاد، لا يرقى إلى أن يُشَرْعِنَ حكم الطواغيت القتلة، المحادِّين لله ورسوله، بإلقائهم الشريعة وراءهم ظهريًّا، وقتل وسجن من يطالب بها! بل يجعل المفتين شركاء له في كل جرائمه. ومِنٍ عجَبٍ أن أهل هذه المدرسة بالذات لم يفتوا يومًا في حكومة طالبان والمُلاَّ عمر في أفغانستان بأنها حكومة متغلبة، وأن أميرها متغلبٌ تجب طاعته ويحرم الخروج عليه، رغم أنه جاء إثر جهاد شرعي لا انقلاب عسكري، وقد استتب له الأمر كما لم يستتب لمثله من الانقلابيين، ثم هو قد أعلن تطبيق الشريعة الإسلامية مبدئيًّا، وشَرَع في ذلك، يعني إقامة الدين والقيادة بكتاب الله.. ولكنّ حمزةَ لا بواكيَ له مِن هؤلاء!!!

الطالب الحريص


الدليل الخامس: ثم إن المسلم المتغلب بالقهر، والذي يستتب له الأمر من بعدُ ويهدأ الهرج والهياج، ويحكم بكتاب الله ويقيم الدين في الناس وإن عصى في نفسه وظلم فهذا يُصبَر عليه وتنفذ أحكامه الشرعية.. لا رضًا عنه وموافقةً له وقَبولا به.. وإنما إخمادًا للفتنة ودرءًا للمفسدة، أما أنْ نرضى صنيعَه ونقبل بولايته من غير حرج فلا، بل لو طرق بيوت المسلمين بابًا بابًا يطلب الترشيح والولاية لم يُعْطَها؛ لأن الأحاديث تمنع تولية من يطلب الولاية أو يحرص عليها: فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من قومي، فقال أحدُ الرجلين: يا رسول الله أَمِّرْنا على بعض ما ولاَّك الله عز وجل ، وقال الآخر مثل ذلك؛ فقال: «إنَّا والله لا نولي على هذا العمل أحدًا سأله، ولا أحدًا حرص عليه» (البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الأحكام، (93)، باب ما يكره من الحرص على الإمارة (7)، حيث (7149)، 4، 330. ومسلم، صحيح مسلم، كتاب الإمارة (33)، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها (3) حديث رقم: [1652]). وكون النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «نحن لا نولي» فهي عامة للمسلمين كلهم، ثم إن ولاية الطالب والحريص غير مَرْضية في ذاتها، وهل المتغلب إلا طالب للولاية حريص عليها، لكن بأسوأ من الطلب، بل طلب بالعنف؟! وإذا كان طلب الولاية بغير عنف مشينًا، فإن طلبها بالقوة والغلبة والعنف لا يزيدها إلا شَيًْا. فكيف إذا كان لا يُحصِّلها إلا بقتل الآلاف من المعصومين، وانتهاك الأعراض، ونقض الشرائع، وخَفض الدِّين؟!

ومن المعلوم أن مرسي لم يترشح هو، وإنما رشَّحه المسلمون لمَّا أزاح الإنقلابيون بالوراثة خيرت الشاطر وحازم صلاح.. وكان من بين المرجِّحات لترشيحه عند الهيئة الشرعية أنه لم يطلب ترشيح نفسه.. فالذي رشَّحه المسلمون والهيئة الشرعية أولى ممن طَلب الولاية وحرص عليها؛ لا بصناديق الانتخاب فحسب، بل بصناديق الأموات والتوابيت؛ فكيف يقال: متغلب يطاع؟!

مَوْكُولٌ أو مُعان


الدليل السادس: ثم إن الغرض من نَصْبِ الأئمة وترئيس الرؤساء هو حفظُ الأمة وإسعادها في معاشها ومعادها، بإجراء حياتها على سنن الهدى الربانية، ولا يقدر عليه والٍ ولا أمير إلا أن يُعِينه الله تعالى أولاً، ثم تعينه رعيته المُحِبَة له والمبايعة له، فإذا تسلط عليها بغير اختيارها كرهته قلوبُها وتركت معونتَهُ سواعدُها، والدعاءَ له ألسنتُها، فذلك سبب الخذلان، وسببٌ لأَنْ يَكِلَهُ اللهُ إليها ولا يعينه عليها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعضِ أصحابه: «لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أوتيتها عن مسألة وُكِلْتَ إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أُعِنْتَ عليها..»(البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الأحكام {93)، باب من لم يسأل الإمارة أعانه الله عليها {5)، حديثرقم: [7146]، 4، 330) و(مسلم، صحيح مسلم، كتاب الإمارة (33)، باب النهي عن طلب الإمارة والحرص عليها (3)، حديث رقم: [1652]، 2، 884]). وفي لفظ: «لا يَتَمَنَّيَنَّ» بصيغة النهي عن التمني مؤكّدًا بالنون الثقيلة، والنهي عن التمني أبلغ من النهي عن الطلب. ومعنى الحديث أن من طلب الإمارة فأعطيها تُرِكت إعانته عليها من أجل حرصه، ويستفاد منه أن طلب ما يتعلق بالحكم مكروه فيدخل في الإمارةِ القضاءُ والحسبة ونحو ذلك، وأن من حرص على ذلك لا يُعان"[انظر: ابن حجر، فتح الباري: 13، 154]، وما الخير المرجو والبركة المأمولة من شخص ترك اللهُ إعانتَه؟! ما بالك إذا كانت إمارته ليست عن حرص وطلب فحسب، بل ملوثة بالدماء، متسلقة على الأشلاء! وانظروا إلى البلاد الإسلامية كلها كيف هي تزداد ضيقا وضنكا يوميا منذ أن تولى عليها المتغلبون والطالبون.

ليس هذا فحسب!


لو فرضنا أن هذا المتغلب صار يحكم بما أنزل الله، وأخذ يستتب له الأمر وتسكن له الدهماء، فهل ينتهي الأمر عند هذا الحد، وتثبت ولايته وتجب طاعته؟! لا، ليس هــذا فحسب، بل هناك أمر آخر جدُّ مهم، له تعلُّقٌ بحقوق العباد وكرامة الأمة... نتكلم عنه في المقال الآتي إن شاء الله تعالى:

يمكن مراجعة المقالات السابقة من هذه السلسلة:

ولاية المتغلب (1) من هو المتغلب؟ وما ولايته؟

ولاية المتغلب (2): من هو الحاكم المطاع؟

ولاية المتغلب (3): الدليل الثاني: يقودكم بكتاب الله ويقيم فيكم الدين

ولاية المتغلب (4) استتبابُ الأمن وسكونُ الدهماء

ولاية المتغلب (5): الخليفة الثاني والطالب الحريص

ولاية المتغلب(6): المتغلب على حي والمتغلب في فراغ

ولاية المتغلب (7): حملوا السلاح علينا. فليسوا مِنَّا

ولاية المتغلب (8): شرط الإسلام في الولاية

ولاية المتغلب (9): ملخص شروط وموانع طاعة المتغلب

ولاية المتغلب (10): على هامش ولاية المتغلب

ولاية المتغلب (11): ومِن التشبُّه بالكفار!

 

أبومحمدعبدالله
  • المقالات
  • سلاسل علمية
  • الصفحة الرئيسية