اطبع هذه الصفحة


اعتزال الصراع

أبو محمد بن عبدالله


يدَّعي أناس اعتزال الصراع... ويُبَرِّرون ذلك بأن ما يحدث هو صراع على الكراسي!!
وها هنا أمور
:
أن الصراع بين الحق والباطل سنة كونية وأمرية شرعية؛ ماضية إلى قيام الساعة، مٌذْ أعلن قائده ذلك
: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}[فاطر:6]، ولا حِظ-هُدِيتَ- أمر الله تعالى بأن نتَّخِذَه عَدُوًّا! يعني الصِّراع.. فاعتزالك للصراع معه لا يوقف الصراع، ولا يجعلك في مأمنٍ من سهامِه.. فقط قد يُؤَخِّرُك بعد الثور الأبيض! ويكون حالك كحال من قال الله تعالى فيهم{قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}[الأحزاب:16]... يَفِّرُّون إلى (الاعتزال) ولن ينفعهم.


وإذا لم يكن للداعية صراع مع أهل الباطل فمعناه أنَّ حقَّه كباطلهم، لذلك لم تختلف إشارة الشحنة بينمهما أو لم تقوَ؛ فلم تحدث الشرارة.. أو أنَّه اتَّبع مِلَّتهم
 أو وافق أهواءهم في صورة من الصور: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}[البقرة:120]، والعبرة بعموم اللفظ وحكمة النص، لا بالأسماء... {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}[الأعراف:88]، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ}[إبراهيم: 13]، يقول سيد قطب في استظلاله تحتها: (هنا تتجلى حقيقة المعركة وطبيعتها بين الإسلام والجاهلية.. إن الجاهلية لا ترضى من الإسلام أن يكون له كيان مستقل عنها. ولا تطيق أن يكون له وجود خارج عن وجودها. وهي لا تسالم الإسلام حتى لو سالمها... إن التجمع الجاهلي- بطبيعة تركيبه العضوي- لا يسمح لعنصر مسلم أن يعمل من داخله، إلا أن يكون عمل المسلم وجهده وطاقته لحساب التجمع الجاهلي، ولتوطيد جاهليته! والذين يخيل إليهم أنهم قادرون على العمل لدينهم من خلال التسرب في المجتمع الجاهلي، والتميع في تشكيلاته وأجهزته هم ناس لا يدركون الطبيعة العضوية للمجتمع. هذه الطبيعة التي ترغم كل فرد داخل المجتمع أن يعمل لحساب هذا المجتمع)[الظلال:4/ 2092]. لا أجد في نفسي من قِلَّةالإيمان ما أصدِّق به ما خالف القرآن والسنة، ولا ما ألوي به أعناق النصوص.. فالله لك الحمد وأسألك الهداية الثبات.

وهل عاش
 النبي صلى الله عليه وسلم لحظة من لحظات دعوته بلا صِراع، حتى لمَّا كان الدِّين كُلّه كلمة، وكلمة فقط.. بل لمَّا كان لبّ الصراع حول كلمة بلال: أَحَدٌ أَحَد! يؤسفني أن كُفَّار قريش كانوا أفْهَم لمعنى كلمة التوحيد وأعرف بمقتضياتها من كثير من المسلمين ومن كثير من الدعاة، لذلك لمَّا حاربوها بقوة حتى غَلَبتْهم، ثم أخذوها بقوة فقلبوا وجه الأرض بها، ودانت لهم بها العرب والعجم، وملكوا بها الدنيا؛ فَلَيْتَنَاهم.. هذا أمر..

والأمر الآخر، هناك فرق بين الصراع الذي هو سنة من سنن الله ما وُجِد حق وباطل على أرض تحت سماء.. تختلف أشكاله ووسائله، ولا ينفك عنه دعِيٌّ بالإسلام.. فرقٌ بينه وبين المواجهة المسلحة العنيفة، التي ما هي إلا شكل من أشكال الصراع، في وقت ما ومكان ما في مرحلة ما من مراحل الصراع العام.. وقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم كل أنواع الصراع ومراحله؛ حتى في العهد المكِّي؛ مُذْ أُلْقِيَ على ظهره الشريف سلا الجَزور، إلى محاولات المكر المتنوعة
: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال:30]، مرورًا بيوم الطائف، وما أدراك ما يوم الطائف، إلى درجة أنْ رآه أشد يومٍ يلقاه من قومه، فعن عائشةرضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: «لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت- وأنا مهموم- على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال، ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئ» ا(متفق عليه). ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يومها حاملَ سلاحٍ، ولا داعية عُنفٍ.. بل كان مأمورًا بكفِّ الأيدي وإقامة الصلاة، وكان أرحم الناس وأرفقهم وأحسنهم خُلُقًا وأوسعهم صدرا وأصبرهم على قومٍ وأكثرهم حكمة... فما بالهم لم يَرْضَوْا عنه؟!

ولكن هرطقة بعض (القُرَّاء= الدعاة) خلطت المفاهيم وتدعثرت خطاها، فلبَّسوها ألبسة الفقه والشرع، وسربلوها سربال العقل والحكمة
...

ويرى الجبناء أن الجبن عقلٌ * * * وتلك سجية الطبع اللئيم

ثم إنَّ الصراع على الكرسي على نوعين، حين يكون لأجل من يجلس عليه ليكون طاغوتا من خلاله، أو يبغي به العلوَّ في الأرض أو الفساد فيها،  ليس كمن هو ليكفر بالطاغوت من خلاله، ويقيم ما استطاع من العدل. فالأول بين الشرك المُبين والضلال البعيد، والثاني أجمع المسلمون على إيجاده بأنواع الصراع كلها.. من اللسان إلى السِّنان. حسب كفاية الأمر وقدرة المسلمين..

وقد كان نصبُ الأئمةِ والأمراء لانتظام أمر الناس هو عنوان قيام الدولة وبقائها. ولذلك جاء الشرع
 بالتحذير من الخروج على الجماعة وعلى إمامها، ولو جار؛ ما لم يأتي بخلاف قصد وجوده، كأن ينقض الشريعة ويعطل أحكامها.

وبالتالي فإن الكلام عن نصب الأئمة قديمًا، يجري على الكلام حول إقامة الدولة، لأنه لا دولة بلا رئاسة ونظام، فإن كان الرئيس مسلمًا والنظام إسلاميًّا كانت الدولة إسلامية، وإن كان الرئيس غيرَ مسلم والنظام غير إسلاميًّا فالدار ليست دار إسلام، والدولة ليست دولته، وإن كان غالبُ شعبها مسلمًا؛ فحكم الأفراد لا ينسحب على المِظلّة
..

قال الماوردي: (الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدُها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع)[ الأحكام السلطانية]. وقال
 ابن تيمية- رحمه الله تعالى-:"يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها. فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي(صلى الله عليه وسلم): «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم»(الألباني، السلسلة الصحيحة، برقم:[1322])، فأوجب (صلى الله عليه وسلم) تأميرَ الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع. ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة. وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة؛ ولهذا رويإن السلطان ظل الله في الأرض»(حسنة الألباني في ظلال الجنةبرقم:[ برقم: 1024])[ ابن تيمية، السياسة الشرعية، 168]. وطبعًا فإن السلطان الذي هو ظل الله تعالى هو السلطان الشرعي الحاكم بشريعة الله، أما الطواغيت فهم ظل الشيطان!


وإن الحياد في معركة الحق الباطل
 نوع من التولي يوم الزحف. ويكفي أن أهله توَلَّوْا عمَّا أجمع عليه المسلمون كما نقل خيارهم، فاعتزلوا الصراع إلى جانب المسلمين، وإن ضريبة الذل التي يدفعها المُسْتَذَلُّون لَأَفدح من ضريبة التضحية في طريق العزة والكرامة.

أضف إلى ذلك أن أقصى ما يتمناه العلمانيون من بعض (إسلاميين) أن يعتزلوا الصراع، وحبَّذ لو كان ذلك بلبوس الشرعنة عليه، حتى تتم علمنة الصراع الإسلامي بأقلام وفتاوى إسلاميين
!

 

أبومحمدعبدالله
  • المقالات
  • سلاسل علمية
  • الصفحة الرئيسية