اطبع هذه الصفحة


البغض أو التعلق المضاد

أبو محمد بن عبدالله


قد عالجنا ظاهرة التعلق المذموم بالأشياء والأشياخ والأشخاص،
 ولخصَّنا تعريفه  بأنه: محبة الشخص أو الشيء ولزومُه دون مفارقة والتشبث به بشدة، والأخذ به بقوة.  ورصدنا لهذا التعلق المذموم  أسبابًا عديدة، منها ما أسميناه هنا بالتعلُّق المضاد

فهنا ينبغي أن نتنبه إلى لطيفة تخفى على كثير منا، وهي أن كثيرا من المواقف المضادّة أو الحِنق على أشخاص أو ردّ أفكار معيَّنة، إنما جاء من التعلق بمقابلاتها أو مضادّاتها، فقد يصل التعلق بشخص ما إلى بغض كل من ينافسه أو يزاحمه في نظر المتعلق، أو يغَطِّي عليه ويحجب الناسَ دونه
.

 وعلى العكس من ذلك، فقد يؤدي بغض شخصٍ ما إلى افتعال محبة غيره والتعلق به، كالعقوبة بالشخص المبغوض والنكاية به، والتَّشفي به والانتقام.. ثم ما يلبث هذا الافتعال والتصنُّع إلى أن يتحول إلى تعلق حقيقي على غير أساس من حقٍّ أو عقل أو تقوى، فيثمر ثمارًا خبيثة تضر بالفرد والمجتمع.

 وقد يصل التعلق بالدنيا إلى بُغض الدين، لا عن تكذيبٍ حقيقي، ولكن لما ينـزعه الدين من سلطان زائف أو شهوةٍ ما؛ فاقت الحدود أو غير ذلك، ثم ما يلبث إلى أن يتحول إلى حربٍ لله –تعالى- ودينه ورسوله-صلى الله عليه وسلم- .. فهو إذن التعلق والتعلق المضاد!.


أَمَا تَرى أن نفاق المنافقين في المدينة، وكفرهم برسول الله– صلى الله عليه وسلم- وعلى رأسهم ابن سلول كان لِمَا يرونه من سَلْبِ تاجٍ كانوا يعدونه لأُبَي بن سَلُول؟‍. فأبغضوا دين الله- تعالى- وكفروا برسوله– صلى الله عليه وسلم- ونافقوا تعصبا لأُبَي بنِ سلول وتعلُّقا به. بل كانوا يتوعدون برسولٍ جديد قد أظَلَّ زمانه يحاربون به العرب! فلما جاءهم صادف محلاَّ مشغولا بالأنانية والأنـا وعبادة الذات؛ فكفروا به وردُّوه. قال الله تعالى
: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].

وأبو جهل كان يَعرف صِدقَ
 النبي- صلى الله عليه وسلم-، ويحلف أنه ما جرَّبَ عليه كذبا قط، لكنه لما تعصب لقوميته وتعلق بقبيلته، تعصَّب ضد بني هاشم وتمنى لهم الشر، بل سعى في قَتْلِ الأمين وجرى بتكذيب الصادق، وقال:" تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرفَ؛ أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك هذه؟ والله لا نسمع به أبدًا ولا نصدّقه!"(1). وقد قال الله- تعالى-: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ[الأنعام: 33]، أي يعلمون أنك صادق. والذي يظهر مِن" كفر حُيَي بن أخطب ومن جرى مجراه أنهم كانوا يرون صفات النبي- صلى الله عليه وسلم- ويعرفونها أو أكثرها، ثم يرون من آياته زائدًا على ما عندهم فيتعلقون في مغالطة أنفسهم بكل شبهة بأضعف سبب، وتتخالج ظنونهم فيقولون مرة هو ذلك ومرة عساه ليسه، ثم ينضاف إلى هذا حسدهم وفقدهم الرياسة، فيتزايد، ويتمكن إعراضهم وكفرهم وهم على هذا، وإن عرفوا أشياء وعاندوا فيها فقد قطعوا في ذلك بأنفسهم عن الوصول إلى غاية المعرفة وبقوا في ظلمة الجهل فهم جاهلون بأشياء معاندون في أشياء غيرها"(2). وهكذا "فالنفس إذا أحبت شيئا سعت في حصوله بما يمكن، حتى تسعى في أمور كثيرة تكون كلها مقامات لتلك الغاية، فمن أحب محبة مذمومة أو أبغض بُغضا مذوما وفعل ذلك كان آثما، مثل أن يبغض شخصا لحسده له فيؤذي من له به تعلق، إما بمنع حقوقهم؛ أو بعدوان عليهم. أو لمحبة له لهواه معه فيفعل لأجله ما هو محرم، أو ما هو مأمور به لله، فيفعله لأجل هواه لا لله، وهذه أمراض كثيرة في النفوس"(3).

فالتعلق إذن له أسباب عديدة هذا واحدٌ منها، وهو أن يتعلق بالشخص أو بالشيء تعلقًا مذمومًا لا لحبه في ذلك الشخص أو الشيء فحسب، وإنما لبغضه لنقيضه
.

----------------------------

1-  ابن كثير-البداية والنهاية، باب مجادلة المشركين رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، (4، 161).
2- ابن عطية، القاضي أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبدالرحمن ابن تمام بن عطية المحاربي الأندلسي (546هـ- 1146م).-المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمد، بيروت، دار الكتب العلمية،  5 مجلدات-تفسير أية 32-33 من سورة الأنعام، (2، 286).
3 - ابن تيمية مجموع الفتاوى (10، 82).

 

أبومحمدعبدالله
  • المقالات
  • سلاسل علمية
  • الصفحة الرئيسية