اطبع هذه الصفحة


تأملات مسلم لفيروس ( كورونا )
- رسالة للمسلم وغير المسم -

عادل بن عبدالعزيز المحلاوي
@adelalmhlawi


الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، وعلمنا السُّنةَ والقرآن ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للأنام ، وبعد ،

✍️ فقد كتبتُ مقالاً بعنوان " كيف ينظر المسلمون لكورونا ؟ " وهو في هذا الرابط :
http://www.saaid.net/Doat/adelalmhlawi/corona.htm
وتُرجم لعدة لغات ، ولأنَّ الجائحة عالمية ، فها أنا ذا أكتب مقالاً آخر بعنوان ( تأمّلات مسلم لفيروس كورونا )

فأقول مستعينًا بالله :

ليس للعالمِ اليوم حديث إلا عن كورونا ، فقد تغيَّر وجهُهُ مع هذا الحَدَث العالمي الذي لم يحدث في تاريخنا المعاصر مثله ، وصار النّاسُ لا يتحدثون إلا فيه ، ولا يسألون إلا عنه ، ولأنّي مسلمٌ قد علمني ديني حب الخير للبشر جميعًا ، فإني أبعث بهذه الكلمات لعلها تجد آذانًا مصغية ، وأفئدة واعية ، وعقولاً تتجرد لاتباع الحق وتُذعن له ، وقد جعلتها في عشر وقفات :

🌾الوقفة الأولى : يقيننا بانفراد الله بعلم الغيب .


يقول المولى سبحانه في كتابه العزيز :
" وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ..." سورة الأنعام آية ٥٩ .
ومفاتح الغيب في شرعنا خمسة ، جاء ذكرها في قوله تعالى :
" إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا في الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " سورة لقمان آية ٣٤ .
🔹 من كان يُصدِّق أن يتغيَّر وجهُ العالم هذا التغيُّر ، وأن يضطربُ الناسُ هذا الاضطراب ، وأن تتبدَّل اهتماماتهم ويُعاد ترتيب حياتهم وأولوياتهم ؟!
🔹 من كان يتصوَّر أن تتقاطع الدول هذا التقاطع ، وأن تُغلق دور العلم ، بل وبعض المدن ، وأن تتوقف وسائل النقل ، ويكون اقتصاد الدول على هذه الحال ... وغير ذلك من التحولات ؟!
ولكنَّنا ولأننا مسلمون فقد زاد إيماننا في انفراد ربنا بعلم الغيب ، وأنَّه لا يعلمه إلا هو -سبحانه - وأيقنَّا بضعفنا ، ومحدودية علمنا ، وإلا فلو كنَّا نعلمُ هذا المستقبلَ لكان لنا استعداد له ، ولو بالقدر الذي يضمن تخفيف آثاره ورفع بعض ضرره بتوفيق الله .

🌾الوقفة الثانية : عجز العالم أمام إرادة الله .


لقد اكتشف العالمُ كلُّه هذا الوباء ، وأيقنوا بوجوده ، وعملت كلُّ دولة واجبها بحسب قدراتها التي تملك ، ولكن :
هل ردوه ؟!
هل أوقفوا عجلة انتشاره ؟!
هل استطاعوا أن يدفعوا عن المصابين هذا الفيروس الذي لا يُرى بالعين المجرَّدة ؟!
نعم ، يوجد جهود ومحاولات ، ولكن البشر ما زالوا - حتى هذه الساعة - عاجزين عن إيجاد علاج له .
قد يقول قائل : ولِماذا نُبلى بالشر في هذا الفايروس وفي غيره ؟ فنقول : لا يمكن أن تكون الحياة الدنيا إلا وفيها الخير والشر ، هذه هي طبيعتها التي خلقها الله عليها .
غير أن أقدار الله ليست كلها شرًّا محضًا ، بل قد يكون الأمر في ظاهره شرًّا كثيرًا ، ولكنَّ في باطنه خيرات لا تنتهي ، وسأذكر بعض ما في هذا الوباء من الخيرات بحسب ما ظهر لي مع علمي القاصر ، فمنها :
1- معرفة بني آدم قدرهم وحجمهم أمام قدرة الله وإرادته .
2- ستعود كثيرٌ من الشعوب لخالقها ورازقها ، وسيوقنون بحاجتهم لربهم ، وفقرهم إليه .
3- تعرَّف الكثير على الإسلام ومحاسنه ، كما شاهدنا ذلك في وسائل الإعلام .
4- ستتغيَّر النظرة للدنيا - خاصةً عند الكفّار والمفتونين بها - وسيعرفون حقارتها ، وأنَّها ليست كلَّ شيء .
5- سيوقنُ العالمُ كلُّهُ أنَّه ليس مثل العلم شيء ، وسيزيد اهتمامهم بهذا الشأن ، وسيعرفون من الذي يستحق الإجلال والتقدير والعناية .
6- سيُعاد ترتيب الأولويات على جميع المستويات .

والحكم كثيرة جدًّا لا يتسع المقام لبسطها .

🌾الوقفة الثالثة : انفراد الله بعلم كلِّ شيء .


في قرآننا آية هي من أعظم الآيات فيه ، وتُسمى ( آية الكرسي ) وجاء فيها قوله تعالى :
" ...وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ ۚ ..."
فالبشرُ مهما بلغوا في علمهم فإنّهم لن يصلوا لمعلومة من المعلومات إلا بإذن الله تعالى ، والواقع مع ( فيروس كورونا ) خير شاهد على هذا الأمر العظيم .

🌱 وهذا يعرِّفنا بعظمة الله تعالى وسعة علمه ، وفي المقابل نعرف محدودية قدراتنا ، ولا نغترُّ بما وصلنا إليه من علم لأنَّ ما فاتنا من العلوم أكثر بكثير ممَّا علمنا ، فمع شدة حاجة البشر لدواء لهذا الداء إلا أنّهم بقوا عاجزين ، ومع ذلك فقد أمرنا الله في مثل هذه الأحوال أن نجتهد في البحث عن علاج .
فدينُنا رغَّب العلماء في نفع البشر جميعًا بما يفيدهم وينفعهم ، وهذا من كماله ورحمته بالنَّاس ، بل رتّب على نفعهم الأجور العظيمة ، ومن أعظم النفع : إيجاد علاج لهذا المرض .

🌾الوقفة الرابعة : أيقظ في أنفسنا بأن نتذكر حقيقة الدنيا .

الدنيا عندنا - معشر المسلمين - ليست هي كل شيء ، بل هي دار مرورٍ نعيش فيها فترة من الزمن ثمّ ننتقل إلى دار الجزاء والحساب في الآخرة ، ولذا فإنَّ المسلم الحق لا يتعلَّق بها التعلُّق الأكبر ، لأنّها دار غرور لا يُطمأَنُّ لها ، فتغيُّرها سريع ، وتحوُّلها يأتي فجأة ، وفي كتاب ربنا يقول الله تعالى عنها :
" وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ " سورة الأنعام آية ٣٢ ولذا فلا بد للنفوس أن تتعلَّق بالدار الكاملة من كل وجه ( وهي الجنّة ) التي وعدها اللهُ المؤمنين في الآخرة .

فعقيدتنا - نحن المسلمين - أنّ الحياة حياتان :
الحياة الدنيا : وهي ما نعيشها الآن .
والحياة الآخرة : وهي الحياة بعد الموت ، ولا بد منها .
فمهما أصابنا من آلام ، فإنّنا نصبر ونحتسب على ذلك ، ونرجو الله أن يأجرنا على كل بلاء في الآخرة ، فلذلك تجدنا مطمئنين لهذه الأقدار وإن كانت مؤلمة ، وتهون عندنا كلُّ مصيبة .
بخلاف من لا يُؤمن إلا بدار الدنيا ، فتجد الألم الشديد يعتصر قلبه لفوات متع الدنيا وذهابها عنه .

🌾الوقفة الخامسة : في المِحن تزيد العبادة والصلة بالله .

من هدي المسلم في المصائب والمِحن ، فزعه للعبادة ومن أعظمها : الصلاة ، فإنَّها العبادة الجليلة التي لها أثرها في دفع كلِّ شر ، ونبيُّنا عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمرٌ - ألمَّ به - فزِع إلى الصلاة .
والمسلمُ يلجأ إلى ربه بزيادة العبادة ، وصدق الاضطرار له .
والعبادة يجب أن تكون لله وحده ، فهو المستحقُ لها دون سواه لكماله وجلاله واستحقاقه لها ، فهو الخالق المنعم المتفضِّل ، ولذا كان أوَّل نداء في كتاب ربنا ، هو الأمر بعبادته ، فقال - سبحانه - :
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " سورة البقرة آية ٢١ .
فهذا منه هو نداء الرحمة واللطف والشفقة ، لأنّنا إذا عبدناه حق العبادة نجونا من عذابه ، وفزنا بجنَّته ، واطمأنت القلوب ، وهدأت النفوس ، وانشرحت الصدور ، بخلاف من يعبدُ غير الله فهو في شتات وضياع ، وليس عنده إله حق يركنُ إليه .

🌾الوقفة السادسة : سعة رحمة الله ، وعظيم عافيته للخلائق .

نتذكر هنا مع ألم الحَدَث أمرين :
🔹 الأول : اليقين برحمة الله وسعة معافاته للخلق في حياتهم - وهذا ما لا يتفطن له إلا القليل - ذلك أنَّ هذا الحَدَث وليس له حتى الآن إلا أيام معدودات في حياتنا ، ونُؤمل أن لا يستمر كثيرًا ، ومع ذلك فقد أحدث كل هذا الاضطراب .
فهل تذكرنا أيام العافية التي كنا نعيشها منذ وجدنا على الدنيا ووعينا ؟!
ألم نكن نعيش في عافية وسلامة ؟!
فأين شكر الله على العافية والسلامة ؟!
إنّ الشعور بهذه القضية - أعني العافية التي كنَّا نعيشها - ينبغي استحضارها الآن .
ما حالُ البشر لو أنَّ حياتهم كلها تكون كما هي الآن ؟! كيف هي معيشتهم ، وأنى يكون لهم استقرار ، وكيف يطمئنون ويرتاحون ؟!
فلنحمد الله على العافية ، التي كنَّا نرفل فيها صباح مساء ولم نشعر بها إلا الآن .
🔹 الأمر الثاني في هذا الشأن :
لو دققنا في أمر هذا الفيروس لوجدنا أنَّه من الممكن أن يكون الضرر الذي قدَّره اللهُ أكبر ، والأثر أفظع ، ولكنَّ الله رحم البشرية بهذا الأمر اليسير ، الذي سيكون مقدورًا على إيجاد علاجه في القريب العاجل بإذن الله ، ليستقيظوا من غفلتهم ويعودوا إلى رشدهم .

🌾الوقفة السابعة : اليقين بالحاجة لله .


في هذه الأزمة يشعر المسلمون بحاجتهم ، وحاجة غيرهم لربهم ، فيتضرعون إليه ، ويسألونه أن يكشف هذا البلاء عنهم .
يسألونه وهم على ثقة تامَّة أنَّه سيستجيب لهم ، ويعلمون أنَّه لا يُؤخر إجابة دعواتهم إلا لحكمة .
فهم في طمأنينة تامَّة لكل أقداره .
وبسؤال اللهَ يظهر فقر العباد لربهم وحاجتهم لمولاهم ، وهذا هو عينُ غناهم حتى لا تتعلّق القلوب إلا به - سبحانه - .

🌾الوقفة الثامنة : حياة الفأل .


في هذه الأزمة يعيش المسلمون متفائلين ، متوقعين انكشاف الغمة عنهم عاجلاً ، لأنّهم يُحسنون الظنَّ بالله ، بما تعلَّموه من شريعة ربهم أنَّه تعالى عند حسن ظنِّ عبده به ، ويتفاءلون لأنَّ نبيهم عليه الصلاة والسلام كان يُحبُّ الفأل ، فهم متفائلون كنبيهم عليه الصلاة والسلام ، ولذا فإن أحوالهم النفسية أحسن من غيرهم .
فهل عرفتَ كيف هي حياتهم طيبة حتى مع الآلام ؟!

🌾الوقفة التاسعة : ديننا يعلِّمنا مساعدة غيرنا ، والوقوف بجانب المنكوب .

وهذا كثير في تعليمات الاسلام وتوجيهاته لأفراده ، ولذا تجد التراحم في مجتمعات المسلمين في أعلى صوره وأكمل أحواله ، والواقع خير شاهد .
فالإنفاق ظاهر ، والمبادرات المجتمعية النافعة لأفراد المجتمع مشاهدة ، والوقوف بجانب المتضررين يسجله التاريخ بمداد الذهب ، ابتداءً من أعلى سلطة إلى أدنى رجل منهم ، ولذا تعيش كثير من المجتمعات المسلمة حياة طبيعية وكأنَّه لم يحدث شيء نتيجة لهذا التكاتف بخلاف بعض المجتمعات .

🌾الوقفة العاشرة : التنظيم والأخذ بالأسباب .


يعلِّمنا ديننا أنَّه لا بد من الأخذ بالأسباب والتنظيم ، ودفع الشرور ورفع الضرر بكل ما نقدر عليه ، وهذا من كمال شريعة ربنا ، فالاستسلام للمكروه ليس من شرعنا ، بل دفع الشر ورفع الضرر هو عين ما تأمر به النصوص ، يقول عليه الصلاة والسلام :
" احرص على ما ينفعك "
وحثَّ على البحث عن العلاج بقوله :
" ما أنزل اللهُ من داء إلا جعل له دواء "
 

اللهم احفظنا بالإسلام ، وأحينا عليه ، وأمتنا عليه .
اللهم اهد عبادك ، ودلّهم عليك .

كتبه/
عادل بن عبدالعزيز المحلاوي
صبيحة الأحد ١٤٤١/٨/٥ هـ

 

عادل المحلاوي
  • رسائل دعوية
  • مقالات موسمية
  • كتب
  • مقالات أسرية
  • خطب الجمعة
  • الصفحة الرئيسية