من أين نبدأ ؟!

د.عدنان محمد أمامة

 
من أين نبدأ؟ سؤال يتردد صداه في أرجاء العالم الإسلامي صباح مساء، تردده ألسنة دعاة الإصلاح من كافة الأطياف، وشتى المذاهب الفكرية. الكل يدرك حجم الهزيمة الحضارية التي مني بها المسلمون منذ زمن بعيد، والكل يسعى لاسترجاع سالف المجد التليد، لكن من أين تكون البداية؟ البعض يرى أنها تكون بالإصلاح السياسي واسترجاع الخلافة السليبة وامتلاك أزمة الحكم، وبعدها يجري تصحيح سائر الأخطار والانحرافات والمفاسد.

والبعض يرى أن البداية تكون بتحرير الناس من السيطرة المادية على قلوبهم ومن سقوطهم في مستنقع المتع والشهوات والملذات المحرمة التي عطلت تفكيرهم، وذلك بإخراجهم للدعوة إلى الله بترتيب زمني خاص، وبطريقة محددة يلتزمون بها أسبوعياً وشهرياً وسنوياً.

وآخرون يرون أن الأولوية التي يعد كل ما سواها مضيعة للوقت هي أولوية إعلان الجهاد في سبيل الله، وإعلان النفير العام للإطاحة بطواغيت الحكم الذين استعبدوا البلاد والعباد.

وجماعات أولويتها نشر العلم الشرعي وتثقيف الناس الثقافة الشرعية وبناء المؤسسات التربوية والاجتماعية، وأخرى أولويتها التركيز على التربية السلوكية والروحية.

والحقيقة أننا بحاجة إلى كل ما تقدم، لكن الأولوية لسنا نحن من يحددها، بل الذي يحددها خالق النفس البشرية الأعلم بما خلق وهو اللطيف الخبير.

لقد نص - سبحانه وتعالى - على أن الأولوية التي لا يجوز أن يتقدم عليها شيء هي للدعوة إلى توحيد الله، وإخلاص العبادة له، ومحاربة الشرك وأهله، وأنه ما من صلاح وخير حصل في الوجود إلا مرده إلى التوحيد، وما من شر وفساد ظهر في العالم إلا بسبب تضييع هذا الأصل. ولقد سيقت آيات القرآن كلها لتقرير هذا الأصل، إما بالحديث عن التوحيد وحقوقه وجزائه، وإما عن الشرك وقبحه وجزاء أهله.
فخلق الخلق: غايته أن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً. قال - سبحانه -: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وإرسال الرسل للغاية نفسها. قال - سبحانه -: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) وقال أيضاً: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).

وإذا كانت هذه الآيات قد حددت مهمة الأنبياء ووظيفتهم بالدعوة إلى عبادة الله وحده إجمالاً، فإن الآيات الأخرى التي تعرضت لسيرة الأنبياء وقصصهم مع أقوامهم أظهرت أن الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك هي القضية المحورية ونقطة الارتكاز التي دارت عليها دعوة الأنبياء جميعاً، وما من نبي إلا وبدأ قومه بقوله: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، فهذا نوح - عليه السلام - أول رسول إلى أهل الأرض يقضي تسعمائة وخمسين عاماً من عمره ما كل خلالها ولا مل وهو يدعو إلى التوحيد، ويحاول القضاء على الشرك.

قال - تعالى -: (ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).

وهذا إبراهيم - عليه السلام - إمام الموحدين الحنفاء الذي أمرنا الله باتباعه والتأسي بدعوته نجد أنه ابتدأ قومه بالدعوة إلى توحيد الله قال - تعالى -: (وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه) وقام بتحطيم الأصنام التي كان يعبدها قومه وأعلن براءته منها ومن عابديها. وهكذا سائر الأنبياء افتتحوا دعوتهم بالدعوة إلى عبادة الله وحده، قال - تعالى -: (وإلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غيره) وقال: (وإلَى ثمود أَخَاهُمْ صالحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ) وقال: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) وقال: (وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم) وعن نبينا - صلى الله عليه وسلم - قال: ((قل إني أمرت أن اعبد الله مخلصاً له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين)).

ومن يتأمل في آيات القرآن يجدها تجعل من عبادة الله وتوحيده أم القضايا وأهم المهمات. وقد قضى الرسول في مكة ثلاثة عشرة عاماً لم يشتغل بغير الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك، وقد أدرك هذه الحقيقة المشركون والمسلمون على حد سواء، فهذا أبو سفيان قبل إسلامه يسأله هرقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ماذا يأمركم؟ فيجيبه: "يأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً".

وحين أرسل - صلى الله عليه وسلم - معاذاً إلى اليمن بين له أن الأولوية في دعوته هي للتوحيد ونبذ الشرك فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)).. وصحيح أن هناك أموراً أخرى دعا إليها الأنبياء مثل إصلاح النفوس وإنشاء المجتمع القائم على الفضيلة والأخلاق والخالي من الظلم والفواحش إلا أن ذلك كله كان يأتي في المرتبة الثانية بعد التوحيد، وحتى إقامة الدولة الإسلامية التي تطبق أحكام الدين والتي هي من مقتضيات ولوازم التوحيد لم تكن لها المرتبة الأولى عند الأنبياء، لذلك رأينا أنبياء قد جمع الله لهم النبوة والحكم، وأنبياء لم يحصل لهم التمكين في الأرض، مما يدل على أنه يمكن تصور أن يعيش المسلم موحداً لله مع العجز عن إقامة الدولة الإسلامية، لكن لا قيمة إطلاقاً لحكومة تدعي أنها إسلامية وهي تغفل التوحيد، ولا يكون من أولى أولوياتها محاربة الكفر والشرك بكافة صوره ومختلف ألوانه.قد يقول قائل: إن ما ذكرته لا يختلف عليه اثنان، ولا ينطح فيه عنزان، لكن ما تقدم إنما يحتاج إليه الداعية إذا كان يخاطب قوماً من الكفار والمشركين، أما في واقعنا ومجتمعنا فالكل والحمد لله مسلم يشهد شهادتي التوحيد ولا يقبل الشرك لا من قريب ولا من بعيد، ولا وجود لعبادة غير الله.

فالجواب: أنه لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين مع ارتكاب ما ينقضهما أو ينتقص من كمالهما. وإلا فأين التوحيد عند من ينطق بالشهادتين، ثم يعتنق المبادئ العلمانية، وينتسب إلى المذاهب الإلحادية، التي تقوم على عقائد وأساسيات مناقضة لعقيدة التوحيد، حتى بات من المألوف أن نسمع: فلان مسلم في عبادته، لكن خطه السياسي يساري أو عروبي أو اشتراكي أو ناصري أو ليبرالي.

وكأن الإسلام مجرد علاقة العبد بربه في المسجد أو أثناء الصوم والزكاة والحج، وليس له علاقة بما يختاره الإنسان من نظم سياسية أو اجتماعية. وأين التوحيد ومستلزماته عند من يترحم على الكفار، ويصف قتلاهم بالشهداء ويشاركهم قداديسهم وطقوسهم الدينية بحجج أوهى من بيت العنكبوت.

وأين التوحيد لدى قطاعات واسعة من الشعوب الإسلامية التي تتظاهر رفضاً لقيام الحكم على أساس الإسلام والشريعة الإسلامية، وتطالب بدولة مدنية لا دخل للدين فيها.

أوليس السحر والكهانة والتنجيم والأبراج فاشياً ومنتشراً في بلاد المسلمين، وأبناء المسلمين يزدحمون على أبواب الدجالين والمشعوذين، وتتعلق قلوبهم بهم وبما يعطونهم من حجب وحروز ونشرات مزجت فيها آيات القرآن وأسماء الله بأسماء الشياطين وإشاراتهم ورسوماتهم ورموزهم.

ألم تنتشر العقائد الفاسدة والأساطير الباطلة في أوساط عوام المسلمين وبعض خواصهم، حتى بات الكثير منهم يعتقد أن الأولياء الصالحين، وخاصة من مات منهم، يتصرفون في الكون، ويدبرون أمره: فهم يعزلون ويولون وينفعون ويضرون، لذلك نجدهم يلتجؤون إليهم عند الشدائد والمدلهمات، ويستغيثون بهم من دون رب العالمين، وباتت قبور بعضهم ملاذاً لكل خائف ومستشفى لكل مريض: يعكفون عندها خاشعين متذللي ويذبحون لها الذبائح، ويقدمون لها النذور. إن الأمثلة المتقدمة وغيرها كثير ما هي إلا نقطة في بحر، وغيض من فيض، يحتم على الدعاة إلى الله أن يعيدوا ترتيب أولوياتهم، وأن يسلكوا منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله، بحيث يكون التوحيد والدعوة إليه ومحاربة الشرك وأهله هي الشغل الشاغل والهم الدائم بدءاً وغاية ونهاية. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.