اطبع هذه الصفحة


30 ثلاثون درسا من أمثلة الحياة الدنيا في القرآن

عقيل بن سالم الشمري

 
الحمد لله وكفى ، وصلاة وسلام على النبي المصطفى ، وبعد ،،،
قد ذكر الله لنا في كتابه عدة آيات بين لنا فيها أمثلة للحياة الدنيا ، وهي في الحقيقة وإن كانت عدة آيات في عدة سور إلا أنها في الواقع مثال واحد ، فحاولت أن أستخرج الدروس والعبر من هذه الآيات مستعيناً بالله _سبحانه_ فهو الفتاح الكريم .
آيات أمثلة الحياة الدنيا :
هناك عدة آيات كما يلي :
1 ـ قال _تعالى_: " إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون " يونس " 24 " .
2 ـ قال _تعالى_: " واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً " (الكهف 45) .
3 ـ قال _تعالى_: " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " (الحديد 21) .
الدروس والعبر المستفادة من الآيات :
1 ـ مجرد تأمل اسم الحياة الدنيا يوحي بحقيقة معناها ، فاسمها " الدنيا " سواء قيل في معنى ذلك :
أ ـ إنها أولى وستعقبها أخرى .
ب ـ إنها فانية وهناك دار باقية .
ج ـ إنها في المنزلة الدنية .
فكل هذه الأمور موجودة في الحياة الدنيا حقيقة فهي أولى من حيث الزمن وستعقبها أخرى وهي فانية ، وهي كذلك دنية المنزلة .
2 ـ في الأمثلة التي ذكرها الله نلاحظ أن الفناء أصل فيها لا ينفك عنها ، فمثلاً :
نزول الماء من السماء له بداية ونهاية .
الغيث وتكونه ونزول الأمطار فيه له بداية ونهاية .
النبات واخضراره ثم اصفراره له بداية ونهاية .
وكذلك الحياة الدنيا ركبها الله على الفناء ولها بداية ونهاية .
3 ـ في الأمثلة المذكورة يغتر الإنسان بذلك المنظر الخلاب ، والخضرة البهية والروض الباسم فهي أشياء تدعو للاغترار؛ لأن الأرض أخذت زينتها وزخرفها وازينت ، وكذلك الحياة الدنيا لها من البهرج والزينة والمنظر ما يدعو للاغترار حتى فسر بعض أهل العلم قوله _تعالى_: " ولا يغرنكم بالله الغرور " بأنها الدنيا .
4 ـ قد تلبس الأرض ثوباً أخضر فيه من كل أنواع الزينة والأعشاب والأزهار الطبيعية وجدوال الماء فأشجار تتعانق في العلو ، وأعشاب تتسابق في فرش الأرض بمنظر يزيل الهم حتى يصل الأمر إلى أن الحقائق التي عند بعض الناس قد تتزعزع فيظن المسكين أن هذا المنظر لا فناء له ، فمتى يفنى منظر بهذه الصورة، وكيف ؟ ! كما قال الله عن بعض المخدوعين: " وظن أهلها أنهم قادرون عليها " فتبدلت حتى حقيقة الفناء التي يؤمن بها الجميع لكن لم تتبدل تلك الحقيقة إلا لمؤثر أكبر، وهو شدة ما رأى مما يبهر العقل من ذلك المنظر .
وكذلك الدنيا قد تقبل على شخص وتنفتح عليه حتى يظن أنها لن تدبر ، بل وكيف تدبر ؟! وفي النهاية يتبين أنها غرور وخداع لا يملك منها شيء .
5 ـ الأمثلة المذكورة فيها سرعة تغير حال الأرض من الاخضرار إلى الاصفرار إلى الحطام الذي تذروه الرياح.
وكذلك الحياة الدنيا تتغير من حال إلى حال، وتتبدل من سرور إلى حزن في مدة وجيزة قد تفوق تبدل الأرض، فسبحان العليم الخبير .
6 ـ الأمثلة المذكورة فيها شدة تبدل الأرض لما أذن الله بتبدلها حتى " كأن لم تغن بالأمس " فبالأمس تلك الخضراء الفاتنة ، واليوم حصيداً هشيماً بالية لا تشابه الماضي في لون ولا وصف .
وكذلك الحياة الدنيا إذا أدبرت عن شخص وولت ما كأنها يوماً من الأيام كانت بين يديه يفعل فيها ما يشاء ويملك منها ما يريد ، فعجباً كيف يركن لها ؟ ويطمئن بها ؟! وهي بهذه الصفة .
7 ـ الأمثلة السابقة في كتاب الله نلاحظ فيها قصر مدة ذلك الروض الأخضر، فما هي إلا أيام أو بالأصح شهور ما بين خضرته وتحطمه .
وكذلك الحياة الدنيا مهما طالت فهي قصيرة سواء كان المراد أن عمر الشخص فيها قصير أو كان المراد عمرها بذاتها .
8 ـ الأمثلة نلاحظ فيها تنوع المتاع فيها والملذات ويؤخذ هذا من قوله _تعالى_: " مما يأكل الناس والأنعام " أي: أخرج الله بذلك الماء أنواع النباتات والأشجار التي يأكل منها الناس والحيوانات، فكم ياترى أنواع ذلك المتاع والأشجار؟!!
وكذلك الحياة الدنيا فيها من أنواع المتاع والملذات ما لا يحصى ويدرك، ومع ذلك كما أن متاع ذلك المطر له أجل وسيفنى ويتحطم فكذلك متاع وملذات الحياة الدنيا؛ لأنها ممثلة بها .
9 ـ من خلال الأمثلة نلاحظ أن الله لم يخرج بذلك المطر نباتاً مباشرة هكذا ، وإنما تكون الغيث ثم نزل الماء من السماء ثم اختلط بالأرض ثم بقي مدة ثم أخرجت الأرض نباتها، ففي ذلك من تعاقب المراحل ما يظهر ويعلم .
وكذلك الحياة الدنيا فيها من العناء والتعب الشيء الكثير، بل إن قيل لا يأتي شيء أبداً إلا بعناء يناسبه كان القول صحيحاً .
10 ـ الأمثلة خاصة آية سورة يونس دلت على وجوب بذل الأسباب الممكنة ، فأهل ذلك البستان حرثوا وزرعوا وبذروا وعملوا وجدوا، ولذلك قال الله عن أهلها: " وظن أهلها أنهم قادرون عليها " فسبب ذلك أنهم عرفوا مقدار العمل الذي بذلوه وفعلاً تم لهم ما أرادوا قبل أن يأتيها أمر الله _سبحانه_ .
وكذلك الحياة الدنيا تعمر بأفعال أهلها وأعمالهم وجدهم ، أما بدون عمل ولا كدح فقدح في العقل .
11 ـ الله شبه الدنيا بالغيث ، ومعلوم أن الغيث فيه رعد وبرق وصواعق وعواصف وغرق ، وفيه مطر ونبات ونفع .
وكذلك الدنيا فيها من الخير الشيء الكثير ومن ضد ذلك ما يثبت به حكمة الله _سبحانه وتعالى_ .
12 ـ الأصل في الحياة الدنيا عدم الاستقرار والتبدل كما في المثال الذي ذكره الله في الروض الأخضر، فالأصل أنه لا يبقى على حاله، بل التبدل هو الأصل الأصيل .
وهذا إذا فقه خرج حب الحياة الدنيا من قلب المسلم العارف بحقيقتها .
13 ـ الأمثلة المذكورة تربي في النفس المؤمنة قصر الأمل ، وهو مطلب شرعي دل عليه قوله _صلى الله عليه وسلم_: " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل " رواه الترمذي .
فدنيا لا تستقر على حال ولا تستمر عند شخص وقصيرة المدة وركبت على التعب والنصب تجعل الشخص المؤمن قصير الأمل فيها .
14 ـ دلت الأمثلة أن كل ما كان من شيء حسن في الحياة الدنيا غير عبادة الله فهو من زينتها وزخرفها ، ولفظ الزينة والزخرف يوحي بالزوال؛لأنه ليس من ذات الشيء بل زائد عنه
15 ـ دلت الأمثلة المذكورة في الآيات أن الحياة الدنيا تخدع من يركض وراءها، فانظر كيف خدعتهم في زينتها حتى أن أهلها ظنوا " أنهم قادرون عليها " وفي ليلة واحدة أنكرتهم وتبدلت لهم بوجه آخر لا مقارنة بينه وبين السابق، فمن بعد ذلك يطمئن لها ويرضى بها؟!
16 ـ تلك الآيات تجعل المسلم يعرف مع من يتعامل، فهو يتعامل مع " فان، زائل، زينة، زخرف، هشيم، تذروه الرياح".
وهذه هي حقيقة الحياة الدنيا، فمعرفة ذلك يعطي المسلم تصوراً في طبيعة التعامل مع الطرف الآخر، فلا يحزن لفوات شيء منه ولا يتبع نفسه لحصول آخر.
17 ـ الأمثلة المذكورة تجعل المسلم يعرف كيف يتعامل مع الحياة الدنيا، فيتعامل معها كما يتعامل مع أي زينة أخرى.
18 ـ تصوير تلك الأمثلة للحياة الدنيا بصفاتها وتغريرها يخرج من قلب المؤمن الحب لأجلها والبغض لأجلها، وهذا الأمر من أصول العقيدة فيجعل المحبة خالصة لله وفي الله وبغضه أيضاً لله وحده – سبحانه-.
19 ـ الأمثلة تربي النفس على التفكر والتدبر وقياس الأمور بعضها على بعض، ولذلك ختم الله الآيات بقوله – تعالى-: "لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ".
20 ـ من تأمل هذه الأمثلة المضروبة عن الدنيا تهون الدنيا بعينه رغم كنوزها وأموالها وأرضها وجميع ما فيها إلا ذكر الله وما والاه.
21 ـ لا مقارنة أبداً بين الدنيا والدار الباقية دار السلام " الجنة "، ومن تأمل النصوص ظهر له ذلك جلياً، فمثلاً:
أ ـ قال - صلى الله عليه وسلم-: "موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها" رواه مسلم.
ب ـ قال - صلى الله عليه وسلم - عن الحور العين: "ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها" رواه مسلم.
ج ـ قال - صلى الله عليه وسلم-: "يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال: هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا، والله ما مر بي بؤس قط" رواه مسلم.
والأدلة الصريحة بذلك كثيرة فضلاً عن الأحاديث التي تذم فيها الدنيا.
22 ـ الآيات تربي في النفس المسلمة الحذر من الحياة الدنيا ولو ضحكت وأقبلت، ما دام الأصل تقلبها وتبدلها، وزينتها فانية.
23 ـ الأمثلة المذكورة تجعل المسلم يسير على طريقة تجار الصحابة كعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، وملخص هذه الطريقة:
"أنهم لا يفرحون بما أتى ولا يحزنون بما فات".
فيعمل المسلم ويتاجر ويكدح ويجمع الأموال، لكنها تجتمع في يديه دون قلبه، ولذلك لا يحزن لفوت شيء منها ولا يفرح باجتماعها؛ لأنها لم تدخل قلبه، فضلاً أن يوالي لها ويعادي، ويغضب ويرضى لأجلها.
24 ـ الآيات المذكورة تبين أن الحياة الدنيا جميعها لا تساوي أن يعصى الله لأجلها فما بالك ولذة المعصية المزعومة جزء لا يذكر من الحياة الدنيا، فتصور ذلك يقلل شهوة الحصول على المعصية وهو أمر مقصود شرعاً.
25 ـ الله خلق الحياة الدنيا لعباً ولهواً وزينة، هذا من حيث الأصل فجاء الشرع فوظفها التوظيف الحسن وجعلها مزرعة للآخرة يتسابق فيها أهل الإيمان، ويتنافس فيها المتنافسون، فإذا كانت الآخرة حصدوا ما بذروا، وسروا بما رأوا من فضائل ربهم.
26 ـ الله جعل الحياة الدنيا لهواً ولعباً، والعرب تطلق على ـ المرأة والولد والنكاح والمال ـ لهواً كما ذكره ابن منظور، وكل هذه الأمور من مكونات الحياة الدنيا، بل من شهواتها كما قال – تعالى-: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ" (آل عمران: من الآية14).
27 ـ جاء ذكر "متاع" مقترناً بذكر الحياة الدنيا كثيراً في القرآن مما يدل على أن حقيقتها أنها متاع، كما قال - تعالى-: "إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ" (غافر: من الآية39)، وقال: "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ" (الرعد: من الآية26)، وقال: "قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ" (النساء: من الآية77).
28 ـ الآيات التي صورت الحياة الدنيا ذلك التصوير تربي المسلم على التوازن في حياته، وبيان ذلك كما يلي:
قررت الآيات أن الدنيا فانية متاع زائل لا قيمة لها، لا تطلب ولا يركض وراءها.
ومع ذلك جاءت آيات تحث المسلم على العمل والكدح وطلب الرزق والضرب في الأرض.
فهذان الخطابان يربيان في المسلم كيف يوازن بين الأمور والأدلة، فيعيش في الحياة الدنيا ويطلب رزقه ومع ذلك لا تدخل الدنيا قلبه ولا يتعلق بها.
29 ـ المثال المذكور في الآيات لم يأت معقداً صعباً لا يدركه إلا خواص الناس أو العلماء، بل جاء واضحاً بيناً سهلاً يدركه حتى الأعرابي في باديته؛ وذلك لأن القصد تبصير الناس بحقيقة الدنيا، فكان المثال " ماء، ثم زرع، ثم هشيم، ثم تذروه الرياح".
30 ـ الآيات المذكورة فيها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة في إثبات أن لفظ السماء قد يراد بها العلو وليس بالضرورة أن يقصد بها السماء المعروفة، ولذلك في حديث الجارية التي سألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أين الله؟ قالت: في السماء" رواه مسلم.
مرادها العلو كما في الآيات المذكورة؛ لأن المطر ينزل من الغيث كما في آية سورة الحديد، والغيث في العلو.
31 ـ الناس مع الأرض الخضراء على أنواع مختلفة:
فمنهم من يلهو ويلعب فقط.
ومنهم من يغتر بظاهرها وينسى أنها ستفنى ويرجع إلى ما كان عليه حالها قبل الغيث، ومنهم من يريد أن يأخذ جميع زينتها فمن دوحة إلى دوحة، ومن خضراء إلى أخضر فلم يستقر في مكان وضاع عليه الوقت ولم يتمتع المتاع الحقيقي من تلك الزينة.
ومنهم من تلذذ بمتعتها وأدى حق الله فيها من عبادته وشكره فجمع بين الدنيا والآخرة، وكذلك الناس بالنسبة للحياة الدنيا:
منهم من "يريد الحياة الدنيا وزينتها".
ومنهم من فتنوا بها حتى قالوا: "يا ليت لنا مثلما أوتي قارون".
ومنهم من "يحسبون أنهم يحسنون صنعاً".
ومنهم من قالوا: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".
وهم أفضل الأصناف أدوا حق أنفسهم وحق الله - سبحانه وتعالى-.
أسأل الله أن يعيذنا من فتنة الحياة الدنيا، وأن يغفر لنا تقصيرنا، إنه ولينا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

 

عقيل الشمري
  • مقالات ورسائل
  • الصفحة الرئيسية