(63)
صفات واضع الشريعة تقتضي كمالها ودوام
صلاحيتها:
يتصف واضع الشريعة-جل جلاله-بكمال العلم المنافي للجهل، وبكمال العدل المنافي
للظلم، وبكمال القيومية المنافية للغفلة والسنة والنوم، وبكمال الحكمة المنافية
للطيش والعشوائية والـخَرَق،وكمال الرحمة المنافي للغلظة والقسوة.
فكمال علمه تعالى يقتضي أن يشرع لعباده شريعة كاملة لا نقص فيها، صالحة لكل
زمان ولجميع البشر في كل الأجيال، مهما اختلفت مستوياتهم الثقافية والاقتصادية
والاجتماعية والصناعية، إذ علمه محيط بالماضي والحاضر والمستقبل وتغيرات
الأحوال، كما أنه محيط بالنفس الإنسانية وما يصلحها وما يفسدها، وإنما يأتي نقص
التشريع من جهل المشرع بتلك الأمور أو أحدها والله تعالى منزه عن ذلك، فقد أحاط
بكل شيء علما.
وكمال عدله يقتضي أن يبرأ وينزه عن الهوى والمحاباة لأحد من المخلوقين، أو ظلم
أحد منهم، فهو يشرع لخلقه لجلب مصالحهم ودفع المفاسد عنهم جميعا، في كل
الأحوال، لأن العدل صفة ذاتية لله تعالى، وقد حرم الظلم على نفسه وجعله بين
عباده محرما، وهذا بخلاف غيره من خلقه فإنهم معرضون لارتكاب الظلم، محاباة
لقريب أو صديق،أو نكاية بعدو، أو اتباعا لهوى، أو غير ذلك من العوارض التي تعرض
للبشر، كما قال تعالى عن نفسه: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو
العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}.آل عمران: 18.
وقال: {ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان}.الرحمان: 8 والميزان العدل.
وقال تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم}
الأنعام: 5.
وأكثر سبحانه من أمر عباده-المعرضين للظلم والهوى والمحاباة -بالعدل.
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم
شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما
تعملون}. المائدة: 8.
وقال تعالى: {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى}. الأنعام: 158.
وقال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم
أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى
أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا}.النساء: 153.
وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع
أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم}. الشورى: 15.
والآيات في ذلك كثيرة.
وكمال قيوميته يقتضي أن يكون تعالى منزها من الغفلة والنسيان والسنة والنوم.
وبذلك يكون تشريعه محيطا بكل مصالح العباد التي وضع شريعته لجلبها، وبجميع
المفاسد التي وضع شريعته لدفعها أو رفعها، ولهذا كان من أسمائه تعالى:{الحي
القيوم} المقتضيان نفي السنة والنوم عنه، كما قال تعالى: {الله لا إله إلا هو
الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم}. البقرة: 255.
ونفى عن نفسه تعالى الغفلة، فقال: {وما الله بغافل عما تعملون} البقرة: 74.
وغيرها كثير.
وكمال حكمته يقتضي أن يضع كل شيء في مكانه المناسب الذي لا يقال فيه ليته كان
كذا، أو ليته لم يكن كذا، ولهذا يكثر تعقيب الله تعالى على كثير من أحكامه
باسميه الكريمين {العليم الحكيم}، كقوله تعالى-وهو يحدد أنصباء الورثة-:
{آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما
حكيما}. النساء: 11.
ومثل قوله تعالى-في تشريع أحكام القتل-:{توبة من الله وكان الله عليما حكيما}.
النساء: 92.
وكمال رحمته يقتضي أن يشرع لعباده ما هو الأيسر لهم أو الأكثر نفعا في الدنيا
والآخرة، فلا يكلفهم ما فيه حرج عليهم، وقد يكون في بعض مايكلفهم شيء من
المشقة، ولكن تلك المشقة أيسر لهم من المشقة التي تنزل بهم لو لم يكلفهم الله
ذلك، ومن أقرب الأمثلة على ذلك أنه تعالى شرع لهم الجهاد في سبيله، دفعا
للعدوان، أو فتحا للأبواب المغلقة أمام الجاهلين بدين الله، المحرومين من سماع
الدعوة إليه، ودكا للسدود التي يضعها الطغاة في طريق الدعوة إلى الله، فلا يدفع
ذلك العدوان ويحطم تلك الأبواب ويدك تلك السدود إلا الجهاد في سبيل الله، وفيه
من مشقة بذل الأموال وإزهاق الأرواح وخراب الديار وغلاء الأسعار وفقد السلع، ما
لا يخفى من المشقة على المباشرين للجهاد وغيرهم من النساء والذرية وكبار السن
وغيرهم، و مع ذلك لو قورن بين تلك المشقات وما يترتب عليها من ثمار، كرفع راية
الإسلام وتحطيم راية الكفر، ونيل الناس حريتهم من استعباد الطغاة لهم وصدهم عن
سبيل الله وإكراههم المباشر أو غير المباشر على الكفر والفسوق والظلم والعدوان،
وما يترتب على الجهاد من أمن وعدل وعبادة لله وحده، ومن قوة المسلمين وإرهابهم
لعدوهم الذي أمرهم الله تعالى به في كتابه، وسلامة بلدان المسلمين من الاحتلال
والاعتداء، كل تلك المشقات التي تنال المسلمين من الجهاد في سبيل الله لا تعد
شيئا بجانب ثمراته العظيمة ما ذكر منها وما لم يذكر. [راجع في ثمرات الجهاد
وأضرار القعود عنه: (الجهاد في سبيل الله/حقيقته وغايته) (2/411) للكاتب]
قال تعالى-نافيا إرادته الحرج على أمته فيما يشرع لهم-: {ما يريد الله ليجعل
عليكم من حرج}. المائدة: 6.
وقال تعالى: {وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من
حرج}. الحج: 78.
وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون
تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما}. النساء: 29
(64)
الأدلة الدامغة على كمال الشريعة
نصوص وتفاصيل وتجارب تدل على كمال
هذه الشريعة:
وإضافة إلى ما مضى فقد نص الله تعالى في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه على كمال هذه الشريعة، ودلت تفاصيلها الواردة في الكتاب
والسنة على أنها شريعة كاملة، ودلت على ذلك التجربة من أول مجيء هذه الشريعة
إلى يومنا هذا
أولا: النصوص:
أما النصوص الدالة على كمال هذه
الشريعة، فمنها قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت
لكم الإسلام دينا}.سورة المائدة: 3.
و منها قوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من
الخاسرين}. آل عمران: 19.
وجه الدلالة من هذه الآية أن الله نفى أن يقبل من أحد غير هذا الدين، ولولا أن
هذا الدين كامل لما صح النفي، إذ نقصه يقتضي الحاجة إلى تكميله، وتكميله-مع
وجود نقص فيه-لا بد أن يكون من غيره، وغيره منفي القبول، فلزم أن يكون كاملا لا
نقص فيه.
ومنها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله
واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}. النساء: 58-59.
وجه الدلالة من هذه الآية أن الله أمر بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر من
المؤمنين، ثم عقب على ذلك بالأمر برد ما اختلفوا فيه من شيء إلى الله والرسول،
فدل على أنه ما من شيء يختلف فيه المسلمون -بما فيه الرعية وولاة أمرهم-إلا وله
في هذه الشريعة حكم فصل، ولو كانت هذه الشريعة ناقصة لما صحت هذه الإحالة
العامة، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالإحالة إلى مليء، فلا يحال إلى
غير مليء، فالشريعة مليئة، أي كاملة.
ومن ذلك وصف كتابه الذي هو المصدر الأول لشريعته بأنه هدى، وأنه يهدي للتي هي
أقوم، كما في قوله تعالى:{أ لم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}. البقرة: 1.
وقوله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}. الإسراء: 9.
ثانيا: التفاصيل
أما التفاصيل فإن الذي يطلع على
تفاصيل هذه الشريعة العظيمة ويعلم منهجها في التشريع، فسيجدها شاملة كاملة
كافية، في كل باب من أبواب حياة البشر، تكفلت بجلب جميع مصالح العباد، ودفع-أو
رفع-كل المفاسد عنهم، ما تمسكوا بها وأطاعوا الله في أمره ونهيه، منها ما نص
عليه ومنها ما دخل في عموم النصوص أو شملته عللها، ومنها ما سكتت عنه لإباحته.
وكلف الله علماء الأمة الذين تتوافر فيهم شروط الاجتهاد أن يبينوا للناس ما يجد
من قضايا في حياتهم، ولا بد أن يجد العالم المجتهد الذي يستفرغ وسعه في أي قضية
من القضايا النازلة بالأمة حكما في هذه الشريعة.
ولهذا قال ابن القيم، رحمه الله-مبينا كمال شريعة الله-: (وقد توفي الرسول صلى
الله عليه وسلم، وما طائر يقلب جناحيه، إلا ذكر للأمة منه علما، وعلمهم كل شيء،
حتى آداب التخلي، وآداب الجماع والنوم، والقيام والقعود، والأكل والشرب،
والركوب والنزول، والسفر والإقامة، والصمت والكلام، والعزلة والخلطة، والغنى
والفقر، والصحة والمرض، وجميع أحكام الحياة والموت، ووصف لهم العرش والكرسي،
والملائكة والجن، والنار والجنة، ويوم القيامة وما فيه حتى كأنه رأي العين،
وعرفهم معبود هم وإلههم أتم تعريف حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله
ونعوت جلاله، وعرفهم الأنبياء وأممهم وما جرى لهم وما جرى عليهم حتى كأنهم
كانوا بينهم، وعرفهم من طرق الخير والشر دقيقها وجليلها ما لم يعرفه نبي لأمته
قبله، وعرفهم، صلى الله عليه وسلم أحوال الموت وما يكون بعده في البرزخ وما
يحصل فيه من النعيم والعذاب للروح والبدن ما لم يعرف به نبي غيره، وكذلك عرفهم،
صلى الله عليه وسلم، من أدلة التوحيد والنبوة والمعاد والرد على جميع الفرق أهل
الكفر والضلال ما ليس لمن عرفه حاجة من بعده، اللهم إلا إلى من يبلغه إياه
ويبينه ويوضح ما خفي عليه، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من مكايد الحروب
ولقاء العدو وطرق النصر والظفر ما لو علموه وعقلوه ورعوه حق رعايته لم يقم لهم
عدو أبدا، وكذلك عرفهم صلى الله عليه وسلم من مكايد إبليس وطرقه التي يأتيهم
منها وما يتحرزون به من كيده ومكره ما يدفعون به شره ما لا مزيد عليه، وكذلك
عرفهم، صلى الله عليه وسلم أحوال نفوسهم وأوصافها ودسائسها وكمائنها ما لا حاجة
لهم معه إلى سواه، وكذلك عرفهم، صلى الله عليه وسلم من أمور معايشهم ما لو
علموه لاستقامت لهم دنياهم أعظم استقامة.
وبالجملة فجاءهم بخير الدنيا والآخرة برمته، ولم يحوجهم الله إلى أحد سواه،
فكيف يظن أن شريعته الكاملة التي ما طرق العالم شريعة أكمل منها، ناقصة تحتاج
إلى سياسة [ذكر هذا النص وهو يتحدث عن اختلاف العلماء في العمل بالسياسة، وقرر
أن السياسة العادلة هي جزء من شريعة الله، وأن كل ما خالف شريعة الله فليس
بسياسة عادلة] خارجة عنها تكملها، أو إلى قياس أو حقيقة أو معقول خارج منها؟!
ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده.
وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك وقلة نصيبه من الفهم الذي وفق الله
له أصحاب نبيه الذين اكتفوا بما جاء به واستغنوا به عما سواه، وفتحوا به القلوب
والبلاد، وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا، وهو عهدنا إليكم، وقد كان عمر رضي الله
عنه يمنع من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خشية أن يشتغل الناس به
عن القرآن، فكيف لو رأى اشتغال الناس بآرائهم وزبالة أذهانهم عن القرآن
والحديث؟! فالله المستعان). انتهى كلام ابن القيم رحمه الله من: [أعلام
الموقعين عن رب العالمين (4/375)]
قلت: كيف لو رأى ابن القيم اليوم اشتغال غالب قادة المسلمين من حكام، ومن يسمون
بالمشرعين بزبالات أعداء الإسلام، من اليهود والنصارى والملحدين، وإحلالها محل
القرآن والسنة وما استنبطه علماء الأمة منهما، ويرون أن هذه الزبالات هي التي
تصلح لحياة الأمة، وليس الشريعة الربانية، بل إنهم ليحاربون كل من دعا إلى
تطبيق شريعة الله، ويصفونه بأوصاف وضعوها للدلالة على الذم تنفيرا للناس منهم،
كالرجعي، والأصولي، والمتزمت، والمتشدد... وإذا ما نبه الأمة الإسلامية منبهٌ
إلى الخطر الذي حل بها من اعتداء أعدائها عليها باغتصاب أرضها وانتهاك حرماتها
ونهب خيراتها، وذكرها بأمر ربها لها بجهاد عدوها وإخراجه من أرضها التي أجمعت
الأمة على أن الجهاد لدفع العدوان عنها وحماية بيضة الإسلام فرض عين على جميع
الأمة إذا لم تقم به طائفة كافية منها، إذا نبهها منبه وذكرها بقول الله تعالى:
{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم
وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم}. الأنفال: 60، وصفوه بأنه إرهابي
متطرف! وهم يرون أعداء الله وأعداء الأمة يقتلون المسلمين في بلاد المسلمين
التي اغتصبوها، ويسجنونهم، ويعذبونهم، وينتهكون أعراضهم ويمنعونهم من دخول
مساجدهم ليعبدوا ربهم فيها...!!
ثالثا: التجارب
أما التجارب فإن التاريخ في كل
العصور من يوم جاء هذا الدين إلى اليوم-وسيبقى كذلك إلى يوم القيامة-شاهد على
كما ل هذه الشريعة، إذ لم تطبق في أي زمان أو مكان إلا أثبت تطبيقها كمالها،
لنجاحها في تحقيق المصالح ودفع المفاسد التي عجزت قوانين الأرض عن تحقيقها، و
قد ضرب مثالا لذلك في هذا العصر الأستاذ عبد القادر عودة، رحمه الله بتطبيق
الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله، الفقه الجنائي في الجزيرة العربية، ونجاحه
نجاحا منقطع النظير. [راجع لهذا الموضوع ما سطره هذا العالم المسلم الخبير
بالقانون الوضعي،الذي شمر عن ساعد الجد فدرس-بعد دراسة القانون-الشريعة
الإسلامية، وخلص إلى حكم العالم المنصف الذي جزم بأن التجارب الكلية والجزئية
دلت على عجز القانون الوضعي عن الوصول إلى بعض النتائج التي وصلت إليها الشريعة
الإسلامية، التشريع الجنائي الإسلامي (2/708-716)]
(65)
ميزات الشريعة الإسلامية
وقد بين عبد القادر عودة، رحمه الله-بعد أن غاص في أعماق القانون الوضعي حتى
أصبح من كبار رجاله، ثم هداه الله للتفقه في هذا الدين والإطلاع على أسرار هذه
الشريعة وحِكَمِها، فأخذ يبين كمالها و محاسنها ويدعو إلى تطبيقها، ويبين قصور
القانون الوضعي وعجزه عن تحقيق المقاصد التي وضع من أجلها، وجاهد في سبيل ذلك،
حتى قضى نحبه على يد طغاة الحكم المحاربين لشريعة الله-بين ما تمتاز به الشريعة
الإسلامية عن غيرها من قوانين البشر، فقال رحمه الله: (وعلى هذا يمكننا أن
نستخلص مما ذكر من الاختلاف-بين الشريعة والقانون-أن الشريعة الإسلامية تمتاز
على القوانين الوضعية، بثلاث ميزات جوهرية
الميزة الأولى:
الكمال . تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين
الوضعية بالكمال، أي بأنها استكملت كل ما تحتاج الشريعة الكاملة، من قواعد
ومبادئ ونظريات، وأنها غنية بالمبادئ والنظريات التي تكفل سد حاجات الجماعة في
الحاضر القريب والمستقبل البعيد.
الميزة الثانية:
السمو. تمتاز الشريعة الإسلامية عن القوانين الوضعية بالسمو، أي بأن قواعدها
ومبادئها أسمى دائما من مستوى الجماعة، وأن فيها من المبادئ والنظريات ما يحفظ
لها هذا المستوى السامي، مهما ارتفع مستوى الجماعة.
[قلت: ولعل هذا هو سبب محاربة الطغاة للشريعة الكاملة السامية الدائمة، لأن
هبوط مستواهم عن مستواها وفقدهم الهمة العالية التي ترفعهم إلى مستواها السامق،
وشعورهم بالنقص والتدني عنها، وعدم أهليتهم لحملها، وخوفهم من ظهور مَن هو أهل
لحملها عليهم، كل ذلك جعلهم يحاربونها ويحاربون دعاتها، حتى لا يفقدوا السيطرة
غير المشروعة على الأمة]
الميزة الثالثة:
الدوام: تمتاز الشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية بالدوام، أي بالثبات
والاستقرار، فنصوصها لا تقبل التعديل والتبديل، مهما مرت الأعوام وطالت
الأزمان، وهي مع ذلك تظل حافظة لصلاحيتها في كل زمان مكان). [التشريع الجنائي
الإسلامي (1/24).
[ومن أهم الأسباب التي جعلت الشريعة كذلك أن كثيرا من نصوصها قابلة لاندراج
كثير من القضايا النازلة فيها، إما لعمومها، وإما لإطلاقها، وإما لعللها، أو
غير ذلك مما يدخل تحت اجتهاد المجتهد المؤهل للاجتهاد.]
(66)
أسباب سوء الظن في كمال
الشريعة
إذا كانت هذه الشريعة العظيمة بهذه
المنزلة الرفيعة من الكمال، فما لأسباب التي أحدثت في نفوس متهميها هذا الظن
السيئ؟
والجواب أن الأسباب كثيرة، و يمكن ضبطها
بالأمور الأربعة الآتية:
الأمر الأول:
الجهل بحقائقها [كما سبق في كلام ابن القيم: " وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على
من ظن ذلك وقلة نصيبه من الفهم الذي وفق الله له أصحاب نبيه..."]. وهذا السبب
قد يكون هو الغالب في كثير من ذرا ري المسلمين الذين يسيئون الظن بهذا الشريعة،
ولهذا يرجع كثير منهم عن هذا الظن السيئ ويتوب، ويتحمس لتحكيمها بعد أن ييسر
الله له العلم بكمالها-ولو إجمالا-وهذا الرجوع واضح جدا في هذا العصر الذي
تعاظمت فيه الصحوة الإسلامية المباركة في كل أنحاء الأرض، ومن ذوي التخصصات
المتنوعة: أطباء، ومهندسين، وفلكيين، وجيولوجيين، وعلماء نفس، وعلماء اجتماع،
وعسكريين، وأدباء، وإعلاميين، وغيرهم، وقد كان غالب المتخصصين في هذه العلوم
قبل ثلاثة عقود-بل أقل-لا يرون في هذا الدين ما يصلح منهجا لحياة الناس، وكانوا
ييممون وجوههم شطر كل مبدأ ينشدون فيه ما ينقذ الأمة من شيوعية ورأسمالي وقومية
وغيرها، ما عدا هذا الدين، فقد كان عندهم خارج حلبة السباق، ولكننا نرى اليوم
نقابات هذه التخصصات وطلابها وأساتذتها يلحون على تطبيق هذه الشريعة، لما رأوا
من كمالها وقصور ما عداها، وأصبحوا هم العقبة الكأداء أمام الطغاة المحاربين
للشريعة الإسلامية، وقد كانوا من قبل هم جنودهم في محاربتها ومحاربة أهلها،
وكأنهم في انضمامهم إلى صف المناصرين لشريعة الله سحرة فرعون الذين خدعهم برهة
من الزمن، ثم أفاقوا متحدين له:{قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي
فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا
خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى}. طه: 72-73 ولهذه الصحوة
أسباب كثيرة، لا يتسع المقام هنا لذكرها.
وقد يكون الجهل هو السبب في عداء كثير من غير المسلمين للشريعة الإسلامية وعدم
الاعتراف بالدين الإسلامي جملة، والدليل على ذلك ما نراه من دخول كثير منهم في
هذا الدين عندما تتاح لهم فرصة العلم به، وهم أصناف شتى أيضا.
وعلاج هذا الداء هو نشر العلم النافع من العلماء العاملين.
الأمر الثاني:
التشويه المتعمد لحقيقة هذه الشريعة، وقد تكاتف على هذا التشويه أعداء هذه
الشريعة من اليهود والنصارى والملحدين والوثنيين، وغلاة العلمانيين من ذرا ري
المسلمين، واتخذوا لذلك كل الأسباب الممكنة في مناهج التعليم وأجهزة الإعلام
ومراكز البحث، وعن طريق المستشرقين، والمنصرين، والكتاب ومن يسمون بالأدباء،
وعلماء السوء الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا.
إن هذا التشويه الذي تعمده أعداء هذه الشريعة لحقائقها كان كافيا لمحوها، لولا
أنها تحمل في ذاتها عوامل ثباتها وكمالها ودوامها وسموها، وفي ذلك تحقيق لقول
الباري جل وعلا: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. الحجر: 9.
الأمر الثالث:
إقصاء الطغاة لهذه الشريعة عن تطبيقها في الحياة، لأنها لو طبقت في حياة الأمة
لرأى الناس كمالها واقعا، والمبدأ المطبق في الواقع يدفع عن نفسه التهم
والشبهات الكاذبة، أما إذا لم يطبق في الحياة فإن الكذب عليها يصدقه الجاهلون
بها.
الأمر الرابع:
جمود غالب علماء المسلمين في الأرض على التقليد الأعمى والتطبيق العملي لزعمهم
إغلاق باب الاجتهاد وتثبيط همم طلاب العلم عن البحث المقارن، وقصر هم على
الاكتفاء بقراءة كتيبات مبتورة عن الدليل مقيدة بأقوال متأخري مذهب معين، فإذا
تجاوزا تلك الكتيبات، لم يتعدوا الشروح والحواشي الدائرة حولها، مع البعد
الكامل عن النوازل والمعاملات الحادثة التي لم يجد الناس جوابا شافيا لها، وشجع
هذا النهج من لا يريد تطبيق الشريعة، كما أحدثوا محاكم قانونية ومستشارين
قانونيين، فاتجه المسلمون إلى تلك المحاكم، وقد تسمى غرفا تجارية، وإلى أولئك
المستشارين، فأُحِلَّ بذلك الحرام وحرم الحلال. [راجع أعلام الموقعين عن رب
العالمين (4/372) وما بعدها]
(67)
وما يعقلها إلا العالمون:
ولقد ضرب الرسول صلى الله عليه
وسلم، مثلا يبين به من فقهه الله في الدين، فعرف بذلك الشريعة الكاملة، فطبقها
فأحدثت فيه أثرها النافع العظيم، ومن أعرض عن ذكر الله فطبع الله على قلبه جزاء
وفاقا، فلم يهتد بهدى الله، وإنما آثر الضلال على الهدى فنال منه الضنك
والشقاء،ففي حديث أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (مثل ما بعثتي الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان
منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت
الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي
قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثتي
الله به، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) [البخاري
(1/28)]
فشريعة الله التي بعث الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، كاملة وهي صالحة
للتطبيق لذوي القلوب النظيفة الطاهرة التي لم تجتلها الشياطين عن فطرة الله،
وبها رفعوا رؤوسهم واعتزوا بربهم ودينهم، فلم يذلوا لغير الله، أما ذوو القلوب
الجاسية الدنسة الذين اجتالتهم الشياطين، فأخرجتهم عن فطرة الله التي فطر الناس
عليها-وهم القيعان التي لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ-فلم ترتفع رؤوسهم بهذه
الشريعة، إذ لا هِمَمَ لهم ترفعهم إلى مستواها، فانحنت رقابهم لغير الله، وذلت
نفوسهم لسواه من أهواء وشهوات وشياطين، فكانوا بذلك عبيد العبيد: {وتلك الأمثال
نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}.العنكبوت: 43.
{قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى}.
فصلت: 44.