(98)
رضا المؤمن بما قدره الله
ومن هنا نعلم أن المقضي المقدر الذي يجب
الصبر عليه بعد وقوعه ويشرع الرضا به، هو المصائب التي يبتلي الله بها عباده،
من فقر ومرض وموت قريب ونزول وباء، وقحط وجوائح، وزلازل وبراكين وفيضانات، وما
شابه ذلك من الكوارث النازلة في الأنفس والأموال والأهل........
وقد ورد ذلك في نصوص القرآن والسنة، ومن
أوضح الآيات قول الله تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال
والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنالله وإناإليه
راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}. البقرة:155-157.
فقول المؤمنين عندما يصابون بمصيبة: {إنالله
وإناإليه راجعون} علامة واضحة على رضاهم بما قدر الله عليهم، لتأكيدهم بأنهم هم
وكل ما لهم به صلة، لله تعالى أي عبيده وملكه يتصرف فيهم بما يشاء، وأنهم
راجعون إليه بعد هذه الحياة فيجزيهم بما قدموا فيها من عمل صالح، ومنه الصبر
على الابتلاء.
ومن الأحاديث الدالة على ذلك، ما رواه
صهيب، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عجبا لأمر
المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر
فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له). [الحديث في صحيح مسلم، وهو
في جامع الأصول (9/369)]
أما الذنوب والمعاصي فإن الواجب على
العبد أن يبغضها في كل حال من الأحوال، وأن يجتهد في البعد عنها وعدم ارتكابها
قبل وقوعها، ولا يجوز له الرضا بها مطلقا، سواء أكانت منه أو من غيره، فإذا
وقعت منه وجب عليه التوبة منها، ومن شروط التوبة الندم على فعل المعصية.
وإذا علم أنه لا يجوز الرضا بكل مقضي
مقدر، ولو كان معصية، فإن الواجب على العبد أن يرضى بكل ما شرعه الله وأمر بهن
ولا يجوز له بغضه وسخطه.
قال ابن تيمية، رحمه الله: (ليس في كتاب
الله، ولا في سنة رسول الله آية ولا حديث يأمر العباد أن يرضوا بكل مقضي مقدر،
من أفعال العباد، حسنها وسيئها، فهذا أصل يجب أن يعتنى به، ولكن على الناس أن
يرضوا بما أمر الله به، فليس لأحد أن يسخط ما أمر الله به، قال تعالى: {فلا
وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت
ويسلموا تسليما}.النساء: 65.
وقال تعالى: {ولو أنهم رضوا ما آتاهم
الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله
راغبون}. [التوبة: 59] وذكر الرسول-هنا-يبين أن الإيتاء هو الإيتاء الديني
الشرعي، لا الكوني القدري، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ذاق طعم
الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا) [مسلم (1/62)]
وينبغي للإنسان أن يرضى بما يقدره الله
عليه من المصائب، التي ليست ذنوبا، مثل أن يبتليه بفقر، أو مرض أو ذل، وأذى
الخلق له، فإن الصبر على المصائب واجب، وأما الرضا فهو مشروع، ولكن هل هو واجب
أو مستحب؟ على قولين، لأصحاب أحمد وغيرهم، أصحهما أنه مستحب) انتهى كلام ابن
تيمية من [مجموع الفتاوى (8/190، (10/158)، (11/257).
وراجع طريق الهجرتين، لابن القيم، ص 152 طبع قطر]
فالواجب على المؤمن أن يعتقد أن ما شاء
الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن مشيئة الله العامة-وهي الكونية القدرية-هي سر
الله الذي لا نعلم عن مقدوره شيئا إلا بعد وقوعه. وأن يقوم بما أمره الله به
فعلا، وما نهاه عنه تركا، ولا يجوز له أن يحتج بالقدر على مخالفة أمر الله
ونهيه، وأن الله تعالى لا يأمر العبد، ولا ينهاه عن شيء، إلا إذا كان قادرا على
فعل ما أمره به وترك ما نهاه عنه، وأن الله سبحانه رضي لعباده الإسلام والإيمان
والطاعة، وكره لهم الكفر والفسوق والعصيان، وأن على العبد أن يحب ما يحبه الله،
وأن يبغض ما يبغضه الله، وأن يسعى لتحقيق ما أمره الله به أو نهاه عنه، وأنه لا
يجوز له أن يتكل على ما كتب وقدر في علم الله المكنون، ولو جاز هذا الاتكال
وشرع لما صح أن يطلب من أحد عمل شيء في حياته، لا للدنيا، ولا للآخرة.
وقد قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه،
لمن قال له: أفرارا من قدر الله؟: (نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت
لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان: إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت
الخصبة، رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟). [البخاري
(7/21)، ومسلم (4/1740)،وراجع كتابنا الشورى: ص 64]
لقد ألزم عمر، رضي الله عنه السائل بما
يتعاطاه الناس في حياتهم، من تحري مواطن المصالح والمنافع والسعي الجاد في
الحصول على تلك المصالح والمنافع منها، ومن البعد عن المواطن التي لا يرجى منها
الحصول على منافع، وهذا المعنى لا يخلو منه عمل أحد يوميا، فلو استحضره السائل
وغيره لكان كافيا له في هذا الباب.
إن ما وردت به النصوص من كتاب الله وسنة
رسوله،صلى الله عليه وسلم، في شأن القدر-تدل على أنه لا يكون شيء إلا بإذن الله
وقدره، سواء كان خيرا أم شرا، وأن تعاطي الأسباب مشروع في أمور المعاش والمعاد،
ولكنها لا تقتضي حتمية ترتب مسبباتها عليها بدون مشيئة الله، وأنه لا يجوز لأحد
أن يحتج بالقدر، فيقعد عما يجب عليه عمله، أو يتعاطى ما لا يجوز له تعاطيه
احتجاجا بأن الله قدره عليه، كما يدل على هذه المعاني الواقع الذي نراه في حياة
الناس وأعمالهم التي لا تحصى كثرة.
فنحن نشاهد مريضين بمرض واحد، وصحتهما
وأعمار هما متقاربة أو متماثلة، يذهبان إلى طبيب واحد، فيهتم بمعالجتهما
اهتماما متساويا، فيشفى أحدهما ولا يشفى الآخر، أو يشفى أحدهما في وقت قصير ولا
يشفى الآخر إلا بعد زمن طويل، وقد يشفى أحدهما ويموت الآخر، ونرى تاجرين يملكان
بضاعة من صنف واحد ذات جودة واحدة في متجرين متجاورين ولا يوجد بينهما فرق واضح
يرجح نجاح أحدهما دون الآخر، فيربح أحدهما أكثر من صاحبه وقدير بح هذا ويخسر
ذاك، ونرى آخرين يجتهد كل منهما في الحصول على مال، وكلاهما فقير فيصير أحدهما
غنيا ويبقى صاحبه على فقره، وقد يفتقر الغني ويغنى الفقير، ونرى هذا يسعى
للحصول على رزقه فيرزقه الله، ويقعد ذاك عن السعي فيبيت جائعا، ونشاهد آخر
يأتيه رزقه من حيث لا يحتسب، ونرى عددا من الناس تغرق بهم السفينة في البحر
فينجو بعضهم ويهلك الآخرون.. وهكذا آلاف الحوادث تقع في الأرض تدل دلالة لا
تقبل الشك أن وراءها تقديرا من القادر على كل شيء، وأنه لابد من تعاطي الأسباب
للحصول عل النتائج المتوقع ترتبها على تلك الأسباب غالبا، ولكن تلك النتائج
ليست حتمية، وهذا كله يدل على تلك المعاني التي جاءت في الكتاب والسنة، في
موضوع القدر.
|