(107)
دروس في الإيمان- النتائج :
1-الإيمان شرط في صحة العبادة وقبولها
والإثابة عليها:
إن ما جاء به الرسول صلى الله عليه
وسلم، فيه إخبار للناس بأمور الغيب، وهي إما ماضية، كقصص الأنبياء وأممهم، وإما
مستقبلة، كأشراط الساعة، وما يحصل في اليوم الآخر، من حشر وحساب وجزاء، وثواب
وعقاب، ومن الغيب إخباره الناس عن الله وعن صفاته، وكونه أرسل رسوله إليهم
ليخرجهم من الظلمات إلى النور، وأن القرآن الكريم وحي أنزله الله إليه، وأن
سنته وحي كذلك وان طاعته واجبة ومعصيته محرمة، فمن صدق الرسول صلى الله عليه
وسلم في ما أخبر به عن ربه، فهو مؤمن وهو الذي تكون عبادته صحيحة مقبولة عند
الله ويستحق عليها الثواب، لأن الإيمان شرط في صحة العبادة، كما قال تعالى {ومن
يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فألئك يدخلون الجنة ولا يظلمون
نقيرا}. النساء: 124.
وقال تعالى: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة
ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}. النحل: 97.
وقال تعالى:{ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما}. طـه: 112
وقال تعالى: {ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى}. طـه:
75.
وقال تعالى: {ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة
يرزقون فيها بغير حساب} غافر40.
ومن كذبه في شيء من ذلك، فقد كفر، والكافر لا يقبل الله منه عملا، ولو كان
ظاهره الصلاح كالصدقة وصلة الرحم، ونصر المظلوم وغير ذلك، ولا يثيبه عليه في
الآخرة، وليس الله تعالى بظالم له بعدم قبوله تلك الأعمال منه وعدم إثابته
عليها في الآخرة، لأنه هو لم يرد بعمله الصالح في الظاهر الآخرة، إذ لم يؤمن
بها كما أراد الله منه، وإنما أراد الدنيا وقد أعطاه الله منها مالا قدرة له
على شكره عليها لو كان مؤمنا، فكيف وقد كفر كفر الاعتقاد وكفر العمل وكفر
النعمة!؟ قال تعالى: {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته
منها وسنجزي الشاكرين}. آل عمران: 145.
وقال تعالى: {فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من
خلاق}. البقرة: 200.
والآيات الدالة على حبوط عمل الكافر كثيرة في القرآن الكريم، منها قوله تعالى:
{ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين}. المائدة: 5.
وقوله تعالى: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في
الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}. البقرة: 217.
وقال تعالى:{والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما
كانوا يعملون}. الأعراف: 147.
وقال تعالى: {مثل الذين كفروا أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا
يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد}. إبراهيم: 18.
وقد سألت عائشة، رضي الله عنها، الرسول صلى الله عليه وسلم عن أعمال الكفار
التي ظاهرها الصلاح فقالت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم،
ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟ قال: (لا ينفعه، إنه لم يقل يوما: رب اغفر لي
خطيئتي يوم الدين). [صحيح مسلم 0 3/86) بشرح النووي]
(108)
تابع
للنتائج
2-المبادىء لا يحملها ويطبقها إلا من
آمن بها:
إن المبادئ لا يحملها ويعمل بها إلا من
آمن بها، واعتقد أنها تنفعه وتعود عليه بالفائدة والمصلحة، أما الذي يشك فيها
ويكذب بها، فإنه يحاربها ويقف ضد العمل بها، علنا إن كان قادرا قويا، كما فعل
المشركون، وكما يفعل أعداء الإسلام الأقوياء في كل زمان، وسرا إن كان ضعيفا،
كحال المنافقين في المدينة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتصاره على
الكفار في غزوة بدر الكبرى.
ولهذا يكثر توجيه الخطاب في القرآن الكريم إلى المؤمنين، مع أنه نزل لكل الناس،
سواء كان الخطاب يتعلق بالشعائر التعبدية، كالطهارة والصلاة والصيام والحج
والزكاة، أو في العلاقات الأسرية أو في الأطعمة والأشربة، أو في العدل والقصاص
وتحكيم شرع الله أو في الوفاء بالعقود وترك الخيانة، أوفي الأموال، أو في
اجتماع كلمتهم واعتصامهم بحبل الله، أو في الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله عموما،
أو في النهي عن طاعة الشيطان، أو في أداء أي حق من الحقوق: حقوق الله وحقوق
عباده، وكذلك خاطب المؤمنين بفعل الخير عموما وحماية الحق وقيادة البشرية به
والشهادة عليهم، هذه الأمور وغيرها من شريعة الله مطلوبة الأداء من كل الناس،
ولكن الله تعالى خاطب بها عباده المؤمنين خاصة، لأن المؤمنين هم الذين يرجى
منهم طاعة الله في امتثالها.
قال تعالى في شأن الطهارة والصلاة: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا وجوهكم}. الآية.المائدة:6
وقال في شأن، صلاة الجمعة: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة
فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون}.الجمعة: 9
وقال في شأن الصيام: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين
من قبلكم لعلكم تتقون}. البقرة:183
وقال تعالى في شأن الحج آمرا المؤمنين-كما هو واضح من الخطابات قبله وبعده-:
{وأتموا الحج والعمرة لله}. البقرة: 196
وقال في شأن الزكاة: {قد أفلح المؤمنون-إلى قوله-والذين هم للزكاة فاعلون}.
المؤمنون: 1-4 وهم الذين أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منهم الصدقة في
قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة..}. التوبة: 103.
أما غير المؤمنين فقد شرع الله أخذ الجزية منهم، لأنها ليست عبادة.
وقال تعالى في العلاقات الأسرية: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت
أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات قبل صلاة الفجر وحين تضعون
ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم
جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم
حكيم}. النور : 58
وقال تعالى في شأن الأطعمة: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم
واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما
أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولاعاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم}.
البقرة: 172
وقال في الأشربة: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
رجس-إلى قوله-فاجتنبوه لعلكم تفلحون}. المائدة:90
وقال تعالى في العدل: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو
على أنفسكم}. الآية النساء: 135
وقال تعالى في القصاص: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر
بالحر} . الآية، البقرة: 178
وقال تعالى في شأن تحكيم الشريعة: {إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله
ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون}. النور:51
وقال تعالى في شأن الوفاء بجميع العقود: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}.
المائدة: 1
وقال تعالى في شأن الخيانة: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول
وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}. الأنفال: 27
وقال تعالى في شأن الأموال: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}. النساء: 29
وقال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين}.
البقرة: 228
وقال تعالى في شأن اجتماع الكلمة على الحق والاعتصام بحبل الله: {يا أيها الذين
آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله
جميعا ولا تفرقوا..} . الآية آل عمران:101-102
وقال تعالى في شأن طاعة الله وطاعة رسوله عموما: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله
ورسوله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}. النساء:59
وقال تعالى في النهي عن اتباع الشيطان {يا أيها الذين آمنوا لاتتبعوا خطوات
الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر}. النور: 21
وقال تعالى في أداء الحقوق-حقوق الله وحقوق عباده-: {قد أفلح المؤمنون الذين هم
في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم
لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى
وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على
صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}.
المؤمنون: 1-11
وقال تعالى في شأن فعل الخير وحمايته، وقيادة البشرية به والشهادة به على الناس
كلهم، مع بيان مؤهلاتهم في هذه الشهادة: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا
واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون وجاهدوا في الله حق جهاده هو سماكم
المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس
فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم
النصير}. الحج: 77-78
فالأمة الإسلامية وحدها هي التي تطبق شريعة الله في أرضه عندما تكون أمة
إسلامية حقا، وتقود الأمم وتهديها بها، وتشهد عليها بالحق والعدل: {كنتم خير
أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله..}. آل عمران:
110
وكذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم، يخص المؤمنين بالأمر والنهي، مع أنه رسول
الله إلى الثقلين.
من ذلك: ما رواه أبو هريرة، رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله
واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو
ليصمت} [اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (رقم: 29، ص: 10)] وغيره كثير.
(109)
تابع لـ(لنتائج)
3-الأصل فيمن يؤمن بضد المبدأ أن يحاربه
:
أما غير المؤمنين فإن موقفهم من شريعة
الله هو الصد عنها وحربها وحرب أهلها في كل زمان ومكان، قال تعالى: {إن الذين
كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى
سمعهم وعل أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم} البقرة: 6-7
وقال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون
ويمكر الله والله خير الماكرين} الأنفال: 30
وقال تعالى: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم
تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون} الأنفال:36
وكل قصص الرسل-مع قومهم الذين كفروا بهم من نوح عليه السلام إلى نبينا محمد صلى
الله عليه وسلم-واضحة الدلالة على هذا المعنى، ويكفي دلالة على ذلك ما نشاهده
اليوم من الحرب المستعرة من أعداء الإسلام لهذا الدين وأهله، سواء أكانوا هم
اليهود والنصارى والملحدين أم هم تلاميذهم من ذرا ري المسلمين الذين حاربوا
الإسلام أشد من حرب أسيادهم له.
وقد يكون أعداء هذه الشريعة ضعفاء، لا يقدرون على محاربتها علنا، لعلمهم بأن
محاربتهم السافرة ستعود عليهم بالضرر، لقوة المسلمين، وعندئذ يحاربون هذه
الشريعة في الخفاء، ويحيكون ضدها وضد أهلها المؤامرات، ويظهرون غير ما يبطنون،
ويبثون الإشاعات الكاذبة لتشويه سمعة الصالحين من المؤمنين والمؤمنات، ويتهمون
الإسلام بما ينفر الناس منه، ويتعاونون سرا مع اليهود والنصاري وغيرهم من أعداء
الإسلام، وهؤلاء هم المنافقون-ومثلهم كثير ممن يسمون بالعلمانيين في بلدان
المسلمين-وقد كشفهم القرآن الكريم، مصدر هذه الشريعة التي حاربوها ولا زالوا.
كما قال تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين
يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون-إلى قوله-وإذا
لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن
مستهزئون} البقرة: 8-14
وقال تعالى: {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل
الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبد وإن قوتلتم لننصرنكم
والله يشهد إنهم لكاذبون-إلى قوله تعالى-لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك
بأنهم قوم لا يفقهون}.الحشر: 12-13
(110)
تابع
لـ(لنتائج)
4- قوة المؤمنين الصادقين وعزتهم:
إن المؤمنين الصادقين الأقوياء في
إُيمانهم، لا بد أن يكونوا أقوياء في الحياة، لا يرضون بالضعف، ولا بد أن
يكونوا أعزة، لا يرضون بالذلة والهوان، لأنهم أهل كلمة الله التي يجب أن تكون
هي العليا، ولا تعلو كلمة الله في الكون إلا إذا حملها رجال أقوياء في إيمانهم،
وفي عبادتهم، وفي سلوكهم، وفي اقتصادهم ومالهم، وفي علمهم، وفي صناعاتهم، وفي
فروسيتهم وجنديتهم، وفي سياستهم، بحيث يبذلون كل طاقاتهم في نيل تلك القوة،
ويفوقون أعداءهم في ذلك كله، ذلك ما يقتضيه صدق الإيمان الذي قال الله فيه:
{إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم في
سبيل الله أولئك هم الصادقون} الحجرات: 15
وأمر تعالى عباده المؤمنين بإعداد القوة الشاملة التي ترهب عدوهم، فلا يجرؤ على
الاعتداء عليهم، ولاعلى ظلم الضعفاء في الأرض لأنه يعلم أنهم سيئود بونه الأدب
الذي يكسر شوكته ويخضعونه لما شرعه الله من العدل والمساواة بين بني البشر،
بحيث يكونون كلهم عبيدا لله وحده، لا لسواه، قال تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم
من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم
الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون}.
الأنفال: 60
وعندما زعم رأس النفاق-زعيم العلمانيين في عهده-أنه هو وزمرته الأعزة، والرسول
صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم الأذلة وأن الأعزة سيسيطرون على المدينة،
ويخرجون الأذلة منها، كان رد الله عليه أن العزة للعزيز الغالب القوي القادر
ولأوليائه، وهم الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، فقال تعالى: {يقولون لئن
رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن
المنافقين لا يعلمون} المنافقون: 8
هذا وعد من الله لأوليائه المؤمنين الصادقين بأن ينالوا أثر اسمه {العزيز} وأثر
صفته{العزة} وأن تكون العزة مقصورة عليهم، كما هو واضح من تقديم الجار والمجرور
{ولله} الذي هو الخبر، على المبتدأ {العزة}، فإذا ما أصبح المنتسبون مدعو
الإيمان أذلة في الأرض، وأعداؤهم أعزة-عزتهم هي الكبر والعلو في الأرض، ولا
تحصل لهم إلا بذلة المسلمين- فيها، فقد فقدوا-أي مدعو الإيمان-إيمان العزة
الصادق، واتصفوا بإيمان ضعيف لا يستحقون عليه وعد الله تعالى بالعزة، وهو
صاحبها وحده، كما قال تعالى:{سبحان ربك رب العزة عما يصفون} الصافات:180 وهو
تعالى مانحها وقد وعدبها من يستحقها فإذا تخلفت عمن يدعي الإيمان فذلك دليل على
أن إيمانه ليس هو الإيمان الموعود صاحبه بها، وهذا ما نشاهده اليوم في كل أنحاء
الأرض، حيث يذل المسلمين أذل خلق الله في عقر دارهم ويدنسون مسجدهم الأقصى الذي
يحيط به المسلمون من جميع الجهات، وهكذا تسفك دماؤهم وتزهق أرواحهم وتنتهك
أعراضهم،في آسيا من الفليبين الشيشان، وفي أفريقيا من الحبشة وإريتريا إلى
أوغندا وبور ندي وليبريا وفي أوربا في البوسنة والهرسك، ويحرمون من حقوقهم
الدينية والمدنية والقانونية والتعليمية في كثير من بلدان أوربا، وبخاصة في
بلاد الحرية والمساواة وحقوق الإنسان،فرنسا، ومع ذلك فإن قادة الشعوب الإسلامية
يلجئون في طلب العزة والنصر إلى أعداء الله، حيث يستعينون باليهود والنصارى على
اليهود والنصارى! أي إنهم يطلبون العزة من أعداء صاحب العزة، كما قال تعالى:
{الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة
لله جميعا}. النساء: 139
(111)
تابع لـ(نتائج)
5- مقومات القوة والعزة:
و للقوة والعزة مقوماتهما التي لا
توجدان بدونها:
المقوم الأول:
الأخوة في الله، وهي الأخوة القائمة على الرابطة الإيمانية، التي هي أقوى
الروابط وأوثقها، ولأهمية الأخوة الإيمانية وكونها الرابطة التي تعلو على كل
رابطة لا تكون على أساسها، حُصِر المؤمنون فيها فلا وجود لهم بدونها كما قال
تعالى: {إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون}
الحجرات: 10
وإنما كانت الأخوة الإيمانية مقوما من مقومات العزة والقوة، لما يترتب عليها من
الترابط والتعاون والموالاة والبعد عن كل أسباب الخلاف والقطيعة والعدوان، وعدم
خذلان المؤمن أخاه المؤمن، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، قال قال رسول
الله، صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا،
ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم، لا
يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا) ويشير إلى صدره، ثلاث مرات (بحسب
امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله
وعرضه). [صحيح مسلم: (4/1986، رقم: 2564)].
وقد تحققت الأخوة الإيمانية في أعلى صورها بين أصحاب رسول الله، صلى الله عليه
وسلم، عندما آخى بين المهاجرين والأنصار، فأثمرت من الولاء والمحبة والإيثار ما
تفتقده الأمة الإسلامية اليوم [لقد جمع المسلمون اليوم كل الصفات المنافية
للأخوة الإيمانية مما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، من التحاسد ,
والتباغض والتدابر، والتحقير، و استباحة الدماء والأموال والأعراض، وغيرها، بل
والى بعضهم اليهود والنصارى ضد بعض، فكيف ينالون العزة وهم يتخذون وسائل الذل
لهم سبيلا!؟]، حيث بلغ الأمر ببعض الأنصار أن يعرض على أخيه المهاجر نصف ماله،
وأن يطلق إحدى زوجتيه ليتزوجها بعد عدتها [روى ذلك الإمام البخاري في صحيحه 0
(7/112) بشرح فتح الباري).، وقد تضمن كتابنا (أثر التربية الإسلامية في صلاح
المجتمع) الأسباب المحققة للأخوة الإسلامية، والأسباب التي تنافيها أو تضعفها،
فليرجع إليه من شاء].
(112)
تابع لـ(لنتائج)
المقوم الثاني:
النصح: وهو كما قال الخطابي، رحمه الله: (إرادة الخير للمنصوح له) [جامع العلوم
والحكم (1/148) بتحقيق وهبة الزحيلي)].
والنصح إحدى وظائف الأنبياء والرسل، ومن تبعهم من عباد الله الصالحين، كما قال
تعالى عن نبيه نوح عليه السلام: {أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم} الأعراف:62.
وقال عن نبه صالح عليه السلام:{لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون
الناصحين} الأعراف: 79.
وقال تعالى عن نبيه شعيب عليه السلام: {لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف
آسى على قوم كافرين} الأعراف: 93.
وقال تعالى عن مؤمن آل فرعون الناصح لنبي الله موسى عليه السلام: {وجاء رجل من
أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من
الناصحين} القصص: 20
ويدخل في النصح، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي لا يستقيم أمر الأمة
الإسلامية-بل أمر العالم كله-إلا به، وبدونه يفقد الخير أو يقل، ويكثر الشر في
الأرض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أهم وظائف المسلمين الذين يعرفون
كل معروف وكل منكر، لأن لديهم منهاج الله الذي دلهم على كل خير وبينه لهم،
ودلهم على كل شر ووضحه لهم، فهم الذين يعلمون المعروف ولا يأمرون إلا به كما
يعلمون المنكر ولا ينهون إلا عنه وبذلك كانوا خير أمة كما قال تعالى: {كنتم خير
أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}. آل عمران:
110.
وقال تعالى:{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
وأولئك هم المفلحون}. آل عمران: 104.
وقال تعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله
إن الله عزيز حكيم} التوبة: 71. [تأمل كيف ختم الله هذه الآية باسميه الكريمين:
{العزيز الحكيم) في سياق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لينبه عباده
المؤمنين أن مقتضى حكمته تعالى أن لا ينال عزته إلا من أمر بالمعروف ونهى عن
المنكر.!]
بخلاف غيرهم من الناس، الذين اختلت لديهم موازين الخير والشر، لعدم التزامهم
بمنهج الله الذي هو الميزان الحق، فيصبح الحق عندهم باطلا، والباطل حقا،
والمعروف منكرا والمنكر معروفا، فيأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، كما قال
تعالى عنهم: {والمنافقون والمنافقات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن
المعروف}. التوبة: 67.
والنصح في الشرع شامل للأمة كلها صغيرها وكبيرها، ورجالها ونسائها، وشر يفها
ووضيعها، وسادتها وعبيدها، وحاكمها ومحكومها، وهو كذلك شامل لكل خير يراد
للمنصوح نيله، وكل شر يراد له السلامة منه، ولهذا حصر الرسول صلى الله عليه
وسلم الدين كله في النصيحة، كما في حديث تميم الداري، رضي الله عنه، أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (الدين النصيحة-ثلاثا-) قلنا لمن يا رسول الله؟
قال:(لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم). [صحيح مسلم: (1/74، رقم:
95)]
وفي حديث جرير، رضي الله عنه، قال: (بايعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم على
إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم) [صحيح مسلم (1/75، رقم: 97).
(5/294)].
وقد خص الرسول، صلى الله عليه وسلم ولاة أمور المسلمين الذين لا ينصحون لرعيتهم
بوعيد شديد على ذلك، كما في حديث معقل بن يسار، رضي الله عنه الذي حدث به في
مرضه الذي مات فيه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (ما من عبد
يسترعيه الله رعية، فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة) [اللؤلؤ
والمرجان: (ص: 478، رقم الحديث: 1200)].
والراعي يشمل كل من له ولاية على غيره، كالوالدين مع الأولاد، والزوج مع الزوج،
والسادة مع العبيد، والمستأجرين مع الأجراء، والعلماء مع الأمة، والأمراء
والملوك مع الرعية.
والنصح لله ولرسوله والمؤمنين، يقتضي بذل الجهد وعمل الأسباب المشروعة لتحقيق
مصالح الأمة، والقاعد عن ذلك وهو قادر على فعله-مع حاجة الأمة إليه-لا يعد
ناصحا لأمته، وإذا كان غير قادر على العمل فالواجب عليه أن ينصح بالقول
والمشورة والتوجيه،وبإنفاق المال فيما تحتاجه الأمة، وإذا عجز عن ذلك كله،
فالنصح المطلوب منه هو محبة الخير والفلاح والعزة والنصر للمسلمين، كما قال
تعالى: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج
إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم}. التوبة: 91.
ومع أن الأصل في الأمة الإسلامية النصح والتنا صح، فإن ذلك يكاد يكون اليوم
مفقودا بينها، وبخاصة في ضرورات حياتها، من حفظ الدين والنسل والنفس والعقل
والمال، حيث يقع الإهدار و الاعتداء على هذه الضرورات من المسلمين أنفسهم،
بعضهم على بعض بوسائل متعددة، دون أن يوجد الناصحون الذين يكفون لحماية الحق
وأهله بردع المعتدي وعدوانه، وإذا وجد قليل من الناصحين كان المعتدون الظالمون
الأقوياء لهم بالمرصاد، يكممون أفواههم، ويستحلون دماءهم وأموالهم وأعراضهم
فيقل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذلك فقد المسلمون-أفرادا وشعوبا
ودولا-العزة، بفقد أهم مقوماتها، وتسلط عليهم أعداؤهم بالاعتداء على تلك
الضرورات كذلك فأذلوهم جميعا، جزاء وفاقا.
(113)
تابع لـ(لنتائج)
المقوم الثالث-
من مقومات العزة-: اجتماع كلمة الأمة على الحق:
لقد أمر الله تعالى المؤمنين أن يعتصموا بحبله، ونهاهم عن التفرق والتنازع، لما
في اجتماع كلمتهم على الحق من قوة وعز وسؤدد، وتعاون على البر والتقوى، وإعلاء
لراية الإسلام، وهيبة في نفوس الأعداء، ونصر من الله عليهم، ولما في التفرق
والتنازع من الضعف والخور والفشل والعدوات والإحن، ومن إطماع الأعداء في
العدوان على أرض المسلمين وعرضهم، وأموالهم، ومساجدهم، كما قال تعالى:
{واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء
فألف بين قلوبكم} الآية: آل عمران: 103.
وقال تعالى: {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن
الله مع الصابرين} الأنفال: 46.
وقال تعالى: {ولقد صدقكم الله وعده إذتحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في
الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من
يريدالآخرة}. آل عمران: 151.
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم-كما أمر الله تعالى-بلزوم الجماعة والاعتصام
بحبل الله، كما في حديث حذيفة، رضي الله عنه يقول:(كان الناس يسألون رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني-إلى أن
قال-: فما تأمرني إن أدر كني ذلك؟-أي زمن الدعاة إلى أبواب جهنم-قال: (تلزم
جماعة المسلمين وإمامهم) [اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (ص: 485،
رقم: 1211)]
( 114)
تابع لـ(لنتائج)
أسباب الاجتماع والائتلاف التي منحها
الله عباده المؤمنين :
وقد خص الله هذه الأمة بأسباب الاجتماع
والائتلاف التي تفتقدها كل الأمم سواها:
من ذلك:حفظ الله لها مصدر منهاج حياتها الذي يوجهها دائما إلى الحق و يجمع
كلمتها عليه، وهو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه-وكذا
سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم [سبق الكلام على ذلك في الفصل الثالث: الإيمان
بالكتب السماوية]
فهي تأخذ توجيهها منه، وكله حق وما سواه باطل، فإذا تنازعت في شيء رجعت إليه
فقضى بينها بالحق وأزال التنازع وردها إلى الاجتماع والائتلاف، كما قال
تعالى:{يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن
تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك
خير وأحسن تأويلا}. النساء: 59
أما الأمم الأخرى التي حرمت نفسها من الإيمان بهذا المنهج الإلهي-بعد أن حرفت
وبدلت ما أنزل الله إليها من هداه، كما هو شأن اليهود والنصارى، أو آثرت ابتداء
عبادة غير الله على عبادته فلم تستجب لتوجيه وحيه، كما هو شأن الملحدين
والوثنيين-فإن مناهجها كلها تفقد هذه الميزة الربانية، لأنها من صنع البشر
الذين لا قدرة لهم على الإحاطة بما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة، بل لا يزالون
يتخبطون في قوانينهم التي يُسِّيرون بها حياتهم، فما يرونه اليوم حسنا، يلزمون
أنفسهم بتعاطيه والعمل به ويعاقبون من خالفه يصبح عندهم غدا سيئا محظورا
يعاقبون من تعاطاه، بل إنهم ليختلفون في الأمر في وقت واحد فيرى بعضهم حسنه
ويرى الآخرون قبحه، لذلك تجدهم مختلفين في كل شيء متباغضين متعادين ولا حاكم
بينهم إلا أهواؤهم، وأي هوى أحق بالا تباع من غيره!؟
قال تعالى-مبينا نعمته على هذه الأمة، وحرمان الأمم الأخرى أنفسها من تلك
النعمة-: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم
الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أو توه
من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من
الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}. البقرة: 213.
وقال تعالى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به
فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا
يصنعون} المائدة: 14.
ومن ذلك: أن الله تعالى تفضل على هذه الأمة بالتشريع الحاسم الذي لا يقبل
الاختلاف والاجتهاد في أصول الدين، وأسس الفرائض، وأمهات المحرمات، وعقوبات
الجرائم الكبرى، والقواعد العامة للسياسة الشرعية، والأحكام الأسرية، لعلم الله
تعالى أن عقول خلقه غير قادرة على ضبط مصالحهم فيها، وأنه لا بد من تشريع ثابت
لها وترك تعالى لعلماء الأمة وعقلائها وذوي الخبرة فيها الاجتهاد فيما لا يضر
الاختلاف فيه، بحسب الأزمنة والأمكنة واختلاف الأحوال والأشخاص، مما يندرج في
نصوص عامة، أو قياس معتبر صحيح.
ومن ذلك: ما شرعه الله من العبادات الجماعية-وإن كان كل فرد مسئولا مسئولية
مباشرة عنها-كصلاة الجماعة والجمعة في المساجد، وصلاة العيدين، وصلاة
الاستسقاء، وصلاة الكسوف، وقيام الليل في شهر رمضان، والحج الذي يؤديه المسلمون
من كل أنحاء الأرض في وقت واحد ومكان واحد، والعمرة.
ومن ذلك : الجهاد في سبيل الله، الذي شرعه الله لإعلاء كلمته، وهو لا يكون إلا
جماعيا يتكاتف فيه المسلمون ويتعاونون بالمال والنفس والرأي، لإحقاق الحق
وإبطال الباطل في الأرض.[ للمؤلف كتاب كبير بعنوان: (الجهاد في سبيل الله،
حقيقته وغايته)]
ومن ذلك : ما شرعه الله لعباده المؤمنين من التواصل كإفشاء السلام، ورد التحية
بمثلها أو أحسن منها، وزيارة بعضهم لبعض، وعيادة المرضى وتشييع الجنائز،
ومواساة المحتاجين، وتفقد أحوالهم، وغير ذلك.
ومن ذلك : ما شرعه الله تعالى من الصلح بالعدل بين المتنازعين، سواء كان ذلك
بين الأفراد أم بين الأسر أم بين الدول، ونصر المظلوم على ظالمه.
(115)
تابع لـ(لنتائج)
أسباب الفرقة والتنازع التي نهى الله
عباده المؤمنين عنها :
وهناك أسباب تفرق بين الناس، شرع الله
لعباده المؤمنين تجنبها والابتعاد عنها:
من ذلك : النهي عن الغيبة والنميمة والتجسس.
ومن ذلك: النهي عن التنافس في أمور الدنيا [بخلاف أمور الدين، فالتنافس الصادق
فيها مطلوب] المفضي إلى الضغائن والأحقاد، كبيع المسلم على بيع أخيه، وخطبته
على خطبته وطلب الإمارة والحرص عليها.
ومن ذلك: الغش، والخيانة، وخلف الوعد، والكذب، والغدر، والظلم، وشهادة الزور،
والفجور عند المخاصمة.
ولقد حرص أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن تبعهم بإحسان على تعاطي أسباب
الاعتصام بحبل الله واجتماع كلمتهم على الحق، وعلى تجنب أسباب التنازع والشقاق،
لقوة إيمانهم وحرصهم على طاعة الله ورسوله، واتجهوا بنشاطهم وأعمالهم إلى ما
يرضي ربهم ويعز دينهم فحقق الله لهم بذلك العزة والقوة وألقي بذلك المهابة في
قلوب أعدائهم ونصرهم عليهم، وكانوا يختلفون في مسائل الاجتهاد اختلاف مَن ينشد
الوصول إلى الحق،لا اختلاف ذوي الأهواء والأطماع الذين لا يستقر لهم قرار إلا
بصدع صف المسلمين وتفريق كلمتهم.
ولقد أعلن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للناس شدة كراهيته
للخلاف المؤدي إلى النزاع وآثر موافقته لمن سبقه من الخلفاء في بعض المسائل
الاجتهادية، وإن خالفت رأيه، حرصا منه رضي الله عنه على اجتماع الكلمة، ووقاية
للأمة من النزاع المؤدي إلى الفشل، كما روى ذلك عَبِيدة بن عمرو السلماني، عنه
رضي الله عنه، أنه قال: (اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف، حتى يكون
الناس جماعة، أو أموت كما مات أصحابي.) [صحيح البخاري:(7/71 رقم: 3707) بشرح
فتح الباري].
(116)
تابع لـ(لنتائج)
نصيب المسلمين اليوم من القوة و العزة :
للعزة المقصودة-هنا- معنيان:
المعنى الأول:
أن يتحرر قلب المؤمن من عبودية كل ما سوى الله بعبوديته تعالى وحده، فيعتز-أي
يتقوى-به تعالى وبدينه وشريعته، فيتوكل على الله ويعتمد عليه، ويخافه، ولا
يخاف-خوف عبادة-سواه من المخلوقين، ويطلب العزة والنصر من الله، لا من غيره،
ويوقن بأن الله تعالى-وحده-هو المعز المذل وأن من سواه لا ينفع ولا يضر إلا بما
قدره الله تعالى.
وهذا المعنى لابد أن يلازم المؤمن الصادق الإيمانِ في حياته كلها، سواء أكان
حاكما أم محكوما، سيدا أم مسودا، قويا أم ضعيفا، غنيا أم فقيرا، غالبا أم
مغلوبا، آسرا أم مأسورا، فردا أم جماعة، طليقا أم سجينا، فإذا كمل هذا المعنى
في نفس المؤمن، فهو دليل كمال إيمانه، وهذا هو العزيز الحق الذي قال الله تعالى
فيه: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} المنافقون: 8 .
وإن فقد هذا المعنى في من يدعي الإيمان فذلك دليل على أن دعواه كاذبة، وأنه ليس
من أهل العزة، وإن بدا في ظاهر أمره عزيزا بمال أو جاه أو ملك، أو غير ذلك، فهو
ذليل في حقيقة الأمر لكل ذليل، كما سيأتي.
المعنى الثاني :
امتلاك الأسباب المادية التي تكون عونا
للمؤمنين على الحياة الكريمة، من وسائل القوة، كالمال والصناعة، والتجارة
والزراعة، والعلم الشامل لشئون الدنيا والآخرة، بحيث يستغنون في ضرورات حياتهم
عن غيرهم، فلا يكونون تحت رحمة أعدائهم في مأكلهم ومشربهم، وملبسهم ومركبهم
ومسكنهم، وفي سلاحهم، وبيعهم وشرائهم ونقدهم، وصناعاتهم...
وهذا المعنى قد يضعف عند المؤمنين أحيانا-والضعف يتفاوت-، لأي سبب من الأسباب،
التي غالبا ما تكون من أنفسهم. وهذا الضعف يجعل أعداءهم الذين يتربصون بهم،
يطمعون فيهم، فيحتلون أرضهم، وينهبون أموالهم، ويستبيحون حرما تهم، ويأسرون
رجالهم ويسبون نساءهم، ويهدمون مساجدهم، كما حصل في فترات من تاريخ الأمة
الإسلامية، وتلك ذلة لايرضاها الله لعباده المؤمنين.
فإذا بقي في الأمة الإسلامية رجال فيهم المعنى الأول من معنيي العزة، فإن أولئك
الرجال يَنتَدِبون [انتدب القوم لكذا أسرعوا إليه، لسان العرب] للسعي في إزالة
أسباب الذلة عن الأمة، وللأخذ بأسباب العزة التي فقدت أو ضعفت، فلا يزالون
ينفخون روح العزة في الأمة، ويحضونها على الأخذ بأسباب القوة، ويذكرونها بأمجاد
أسلافها، ويهونون عليها ما يصيبها من ابتلاء ومحن وخسائر في النفوس والأموال
والذرية، في سبيل استعادة عزتها وكرامتها وحريتها، بل وحرية العالم كله، إذا
تحررت الأمة الإسلامية من الذل لغير الله.
وعندئذ تهون عند المؤمن الحق الذي تحرر قلبه من عبودية غير الله كل المصائب،
فلا يبالي بالجوع ولا العطش، ولا البرد ولا الحر، ولا السجن ولا الأسر، ولا
التشريد ولا الطرد، ولا الجراح ولا القتل حتى ينال عزته التي أرادها الله له.
وفي التاريخ الإسلامي نماذج لهؤلاء الرجال، تبدأ بالخليفة الأول، أبي بكر
الصديق الذي أنفذ جيش أسامة، وجاهد المرتدين في وقت كان غالب الصحابة يرون في
ذلك مغامرة قد تعصف بالمسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة!!
ولنطو التاريخ لنرى كيف أعاد صلاح الدين الأيوبي إلى الأمة الإسلامية عزتها بعد
أن فقدتها في الحروب الصليبية، ثم لنختصر الزمن بذكر حدثين لا يزال المسلمون
يرونهما:
الحدث الأول:
تحرير أفغانستان من أعظم غزو كافر في هذا العصر لشعب أعزل إلا من إيمانه [ستأتي
الإشارة إلى محنة هذا الشعب، بقادته الذين حرموه من قطف ثمار انتصاره بما قدمه
من شهداء وتضحيات].
والحدث الثاني:
الجهاد في سبيل الله في فلسطين التي سلمها الصليبيون المعاصرون لليهود، واستسلم
لذلك التسليم قادة العرب من (المحيط الهادر إلى الخليج الثائر!!) [عبارة كان
يرددها رائد القومية العربية الذي هدد بإلقاء اليهود في البحر، فلم يمت حتى
احتل اليهود أرض الكنانة، وبيت المقدس، وكادوا يحتلون دمشق، وكان ذلك سببا في
فتح باب السعي إلى الاستسلام السياسي والاقتصادي لليهود!!] واقتدى بقادة العرب
غيرهم من قادة المسلمين، من لاغوس [عاصمة نيجيريا] إلى جاكرتا [عاصمة
إندونيسيا]. فإذا أطفال المسلمين في فلسطين الذين ولد آباؤهم في ظل الاغتصاب
اليهودي- ذكورا وإناثا- يزلزلون الأرض من تحت أقدام اليهود بالحجارة، ويأتجرون
بالمتفجرات التي تمزق أجسامهم ليمزقوا أجسام أعدائهم، حتى أدهش ذلك يهود الذين
كانوا يظنون أن الشعب الفلسطيني وبخاصة الشباب الذي ولد في ظل جبروتهم قد ألف
الذل واستسلم للهزيمة وسلم بالأمر الواقع وإذا الشيوخ والنساء يتسابقون إلى
ميدان التحدي، يستقبلون رصاص العدو بصدورهم، ويقول من نجا منهم: السجن أحب
إلينا من العبودية لغير الله. [قدوة الجميع الشيخ أحمد يس قواه الله ونصره]
وهكذا يكون أهل العزة الربانية لا يهنون ولا يذلون، وهم تحت مطارق العذاب، وفي
غياهب السجون، أحرار القلوب، وإن استعبدت أجسامهم، أعزة النفوس، وإن وطئت أقدام
أعدائهم على رقابهم. [وقد اضطر اليهود استقدام بعض الفلسطينيين ليسلموهم بعض
المرافق الخدمية في قطاع غزة وفي الضفة الغربية، ليضربوا بهم المجاهدين، وينجوا
هم من العمليات الجهادية التي أنزلت بهم خسائر مادية وبشرية فادحة، ولكن
الأبطال لا زالوا يواصلون الكفاح، بل نقلوه إلى قلب تل أبيب العاصمة اليهودية.]
{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} المنافقون: 8.
والعزة بالمعنى الأول هي الحرية الحقة التي إذا فقدها الإنسان صار رقيقا
للمخلوقين الذين يحتاج إليهم، ولو كان ملكا مطاعا في ظاهر الأمر، ومن اتصف بها
صار حرا، ولو كان رقيقا أو أسيرا، وقد عبر عن ذلك ابن تيمية أصدق تعبير فقال:
(.. فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن،
فإن من استُعبِد بدنه واستُرِق، لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا
بل يمكنه الاحتيال في الخلاص، وأما إذا كان القلب-الذي هو الملك-رقيقا مستعبدا
لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض.. فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية
القلب.....-إلى أن قال-: وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض، قلبه رقيق لمن
يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم ... فهو في الظاهر رئيس
مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم..) [مجموع الفتاوى: (10/186-189)]
(117)
تابع
لـ(لنتائج)
فَقْد غالب المسلمين العزة لتفريطهم في
الأخذ بمقوماتها.
وبهذا يعلم أن غالب المسلمين اليوم
يفقدون العزة بهذا المعنى - ولا أقول كل المسلمين، لأنه يوجد في المسلمين من
يبذل نفسه وماله وجاهه وكل ما يملك في سبيل عودة العزة والكرامة والحرية للأمة
الإسلامية، ولكن أعداء العزة والكرامة الذين ابتليت الأمة بوجودهم في مراكز
قيادتها، يحاربون من يحدو الأمة إلى استعادة العزة والكرامة، لأنهم يعلمون أن
مؤهل بقائهم في تلك المراكز هو ذلهم لأعداء الإسلام، وإذلالهم هم للأمة التي
ابتليت بهم- وسبب فقدهم العزةالأمور الآتية:
الأمر الأول:
تفريطهم الشنيع في مقومات العزة التي مضى الكلام عنها.
فالأخوة الإيمانية التي تثمر المحبة والإيثار، والتعاون والتنا صر والرحمة،
والعزة كادت تفقد بين المسلمين باتخاذ الأسباب المنافية لها وترك الأسباب
المؤدية إلى تحقيقها، حتى أصبح المسلم يمر بأخيه المسلم دون أن يحييه بتحية
الإسلام، ويمرض جاره فلا يعوده، بل قد يموت ولا يدري عنه، أو يدري عنه فلا يتبع
جنازته ولا يواسي أهله، ويحتاج إلى ما يسد حاجته من طعام أو شراب أو ملبس أو
دواء، فلا يلتفت إليه أحد، ويُعتَدى عليه ويُظلَم فلا يجد من ينصره، بل كثيرا
ما يعين بعض الظالمين الأقوياء بعضا على المظلوم الضعيف وأصبحت الغيبة والنميمة
فاكهة المتسامرين، وأصبح الشقيق-في كثير من بلدان المسلمين-يخاف من تجسس شقيقه
عليه، وأصبح كثير من المسلمين-على مستوى الأفراد والأسر والجماعات والشعوب
والدول-يحبون لغيرهم ما يكرهونه لأنفسهم، ويحبون لأنفسهم ما يكرهونه لغيرهم،
على عكس القاعدة الأخوية الإيمانية (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)
[اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان (ص: 10 رقم: 28)]، حلت الأثرة عندهم
محل الإيثار، والبغضاء والحسد محل المحبة والغبطة، وإذا فقدت الأخوة الإيمانية
أو ضعفت، وهي من أهم مقومات العزة فمن أين تأتي العزة لمن فقدت فيهم معاني
الأخوة الإسلامية؟. [راجع لأسباب تحقيق الأخوة الإسلامية، والأسباب المنافية
لها كتاب: أثر التربية الإسلامية في صلاح المجتمع. للمؤلف]
والنصح سبق أن المراد به إرادة الخير للمنصوح، وهو شامل لكل ما يحقق المصالح
المعتبرة شرعا للمسلمين، أو يدفع عنهم المفاسد المعتبرة كذلك، كما أنه شامل
للأفراد والأسر والجماعات والحكام والمحكومين.
وإذا ما دققنا النظر في حال المسلمين اليوم وجدناهم-كذلك-قد ابتعدوا عن بذل
بعضهم النصح لبعض، فتجد كثيرا من أفراد المسلين يحبون لأنفسهم الغنى، والمسكن
المريح، والمركب الفاخر، والتجارة الرابحة ويحسد أخاه على ذلك، ويحب أحدهم أن
يحظى بالجاه والسلطان والمنصب، ويحسد أخاه على ذلك، ولو قدر على زحزحته عن ذلك
لفعل واتخذ كل سبب يحقق له مراده، ولو لم يطمع هو في الحصول على تلك الأمور،
وهو أسوأ أنواع الحسد، ويسعى المرء للوصول إلى الشهرة والسمعة والاحترام والذكر
الحسن، ويحاول بشتى الوسائل أن يكون أخاه خامل الذكر مغمورا غير معروف، وإذا
جاوز أخوه القنطرة فبرز بين الناس واشتهر لسبب ما، وذكر بخير سعى في تشويه
سمعته وألصق به التهم الكبيرة والصغيرة زورا وبهتانا.
وإذا تعامل المسلم مع أخيه المسلم في أي أمر من الأمور-تجارة أو صناعة أو
مصاهرة أو غيرها-لا يتورع عن غشه وخداعه والكذب عليه ونكث عهده وعقده في سبيل
حصوله هو على منفعة عاجلة، ولو حطم حياة أخيه وتسبب في فقره والحط من قدره.
وإذا استنصح المسلم أخاه المسلم واستشاره في أمر من الأمور، لم ينصح له كما
ينصح لنفسه، بل إما أن يشير إليه بعجلة وبدون تأمل أو تفكير، وقد يكون في
مشورته العطب والخطل، وإما أن يشير إليه بما ليس فيه مصلحته، ليقتنص الأمر الذي
فيه مصلحة لنفسه ويحرم منه من استشاره فيه، وقد يفعل ذلك ولو لم يطمع هو فيه
كما مضى.
وهكذا-بل أشد- تفعل الجماعات الإسلامية فيما بينها، ومثلها الأحزاب-أيا كانت
مبادئها- وكذا الدول مع الدول، وقد تنصح بعض الدول المدعية للإسلام لدول غير
إسلامية ضد دول مثلها تدعي أنها إسلامية.
وهكذا قل الآمرون بالمعروف والنا هون عن المنكر على كل المستويات-أفرادا
وجماعات، وأحزابا ودولا -.
بل كثر بين المسلمين التشجيع على فعل المنكر والأمر به والتشجيع على ترك
المعروف والنهي عنه، في كل مناهج حياة المسلمين. [هذا الأمر لا يحتاج إلى
تدليل، ويكفي تعاون المحاربين لتحكيم شريعة الله مع اليهود والنصارى والملحدين
على كل من يدعو إلى العمل بهذه الشريعة، وكل بلاء إنما يأتي من محاربة شريعة
الله-وهي كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم-] وهذه إحدى خصال أعداء الله،
كما قال تعالى عنهم: {والمنافقون والمنافقات بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن
المعروف} التوبة: 67.
فإذا وجد الناصح الأمين الذي يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه، فبادر بنصحه له
نصحا صادقا، يعود عليه بالخير في الدنيا والآخرة، وجد من المنصوح نفورا
واستكبارا واستهزاء، اتباعا لهواه، واعتزازا بكبريائه، وإصرارا على إفساده، كما
قال الله تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما
في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل
والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم وبئس
المهاد} البقرة: 204-206.
فهل يرجى للمسلمين-وهذا شأنهم- أن ينالوا العزة والكرامة ؟
(118)
تابع
لـ(لنتائج)
أما اجتماع كلمة المسلمين على الحق
فهنا تأتي طامة طوام المسلمين التي
أفقدتهم عزتهم وكرامتهم، وجعلتهم أذلة لأذل خلق الله في الأرض، وهي طامة التفرق
المردي والاختلاف المهلك والتنازع القاتل وهذه الطامة لم تدع بلدا، ولا دولة
ولا شعبا، ولا منظمة، ولا جماعة، ولا حزبا، ولا أسرة، ولا بيتا إلا رمته بقوسها
إلا ما شاء ربك وقليل ما هم .
تأمل قليلا في كل دولة وكل بلد من بلدان المسلمين، هل تجد كلمة المسلمين فيه
مجتمعة على الحق؟ كلا، سترى فيه تنازعا عنيفا وصراعا مخيفا بين حكومته وشعبه،
وستجد فيه تناحرا بين جماعاته و أحزابه الكثيرة، وستجد تصدعا في صفوف كل حزب
وكل جماعة، وستجد كل أسره منقسمة فيما بينها، كل فرد يتبع حزبا أو جماعة، وستجد
الشعب غارقا في الصراعات مبددا طاقاته في القيل والقال والشجار والاقتتال، وقد
يمنعه من الاقتتال الضبط العسكري، وليس الرغبة عنه، بدليل أن هذا الضبط إذا ضعف
في بلد من بلدان المسلمين، نشبت بين أبنائه المعارك الدامية، راميا مصالحه وراء
ظهره.
أما الجماعات والأحزاب الإسلامية الشعبية فإن الحديث عن تفرقها وتنازعها مما
يحزن النفوس ويدمي القلوب، ففي كل بلد جماعات وأحزاب إسلامية، كثير منها لا
تختلف أهدافها وقد لا تختلف-أيضا-وسائل عملها إلا قليلا، فقد تجد جماعتين أو
أكثر، هدفها التعليم، ومذهبها الفقهي واحد، وعقيدتها واحدة وطريقتها واحدة:
حنفية أو مالكية أو شافعية أو حنبلية سلفية أوأشعرية..... مجتهدة
(1) في زعمها، أو مقلدة، ومع ذلك تجد تلك الجماعات أو
الأحزاب تتصارع فيما بينها وتشتغل كل جماعة منها بالخصام مع الجماعة الأخرى،
ومن السهل على كل منها أن تجد المسوغات التي تؤيد بها موقفها، والأسباب التي
تعادي بها الجماعة الأخرى، وإذا كان النزاع والصراع يحصل بين الجماعات والأحزاب
المتفقة-في الجملة-في الهدف والوسيلة، والمذهب الفقهي والطريقة، فما بالك
بجماعتين تختلفان في ذلك كله أو بعضه، وما بالك بجماعتين أو جماعات تتنافس
سياسيا!؟
هل تريد أدلة على هذا التنازع والتناحر بين الجماعات والأحزاب الإسلامية
السياسية أو غير السياسية في البلدان الإسلامية أو غير الإسلامية؟
ضع الخريطة السياسية أمامك وابدأ باستعراض شعوب تلك الجماعات من الشرق إلى
الغرب أو العكس، في الفليبين جماعتان سياسيتان رئيستان، وهما في نزاع مستمر منذ
ما يزيد على ثلاثة عقود، والنصارى يعتدون على كل ضرورات حياتهم وفيها-أي
الفليبين-جماعات صغيرة لا يهدأ لها بال إلا بالقدح في غيرها من الجماعات
الأخرى.!
وتوجد كذلك جماعات وأحزاب في دول جنوب شرق آسيا في إندونيسيا وماليزيا وفي
تايلاند تبدد طاقاتها وجهودها في النزاع بينها وأفضل الجماعات -في الواقع وليس
في الحكم-هي التي لا تتعاون مع الجماعات الأخرى على ما فيه مصلحة الجميع،
ولكنها تمنع نفسها من التصادم مع غيرها، هذا مع وجود جهود جبارة ومؤامرات
مستمرة من قبل النصارى والوثنيين والعلمانيين للقضاء على الإسلام والمسلمين في
المنطقة.
وفي الهند يدمر الهندوس مساجد المسلمين، ويقتلون عشرات الآلاف من رجالهم
ويحرمونهم من غالب حقوقهم التي يمنحهم إياها القانون الهندي، ومع ذلك تجد مئات
الجماعات المتنازعة التي يقدح بعضها في بعض بالحق وبالباطل، ومثل الهند بنغلادش
وباكستان. (2)
وأفغانستان وما أدراك ما أفغانستان! قامت فيه جماعات إسلامية، غزا بلادها جيش
عرمرم ملحد، وحملت ما تيسر من سلاح، وما كان أحد يظن أن هذه الجماعات ستنجو من
الهلاك إلا بالهرب من بلادها، ولكن الله وفقها فصمدت، ونصرها بجنده المؤمنين
وأموالهم، وبملائكته المقربين، فإذا هي تهزم أكبر دولة مادية بعد أن سقط في
المعركة أكثر من مليون شهيد، غير المعوقين، ودمر العدو البلاد، واستبشر الناس
خيرا بإقامة المجاهدين دولة الإسلام في هذا البلد، فإذا هم يرجعون كما قال
الرسول صلى الله عليه وسلم يضرب بعضهم بعضا، ليس لشيء إلا اتباعا للهوى وحرصا
على حظوظ النفس المادية التي يتنزه عنها المجاهد في سبيل الله، هذا مع العلم أن
الأحزاب المتصارعة من المجاهدين اليوم متفقون في غالب الأمور الدينية، ماعدا
الأحزاب الشيعية، ومع ذلك تجد هذا الحزب يتحالف مع حزب يخالفه دينا كبعض
الأحزاب الشيوعية أو معتقدا كبعض الأحزاب الشيعية، ضد حزب أو أحزاب توافقه دينا
ومعتقدا ومذهبا، ولا يتورعون من سفك دماء بعضهم بعضا، وبخاصة دماء الأطفال
والنساء والشيوخ، وإذا كان المجاهدون بهذه الدرجة من النزاع فكيف بمن سواهم؟!
وهكذا توجد في الدول العربية مئات الجماعات (3) بلغ الأمر
ببعضها أن تستحل دماء بعض، كما يحصل في الجزائر، و تنقسم الجماعة الواحدة على
نفسها، مع ما ينزل بها من الهجمات الشرسة من أعداء تطبيق الشريعة الإسلامية.
ولا تخلو دولة عربية-إلا ما شاء الله-من وجود جماعات يكيد بعضها لبعض.
وهكذا تجد جماعات وأحزابا إسلامية متناحرة أو غير متعاونة في أفريقيا، كإريتريا
والحبشة والصومال والسودان وأوغندا وتشاد والجزائر وليبيا والمغرب وتونس
وموريتانيا والسنغال ونيجيريا، وغيرها.
وهكذا تجد الجماعات الإسلامية في الغرب-أوربا وأمريكا-يطعن بعضها في بعض، ويرفض
بعضهم التعاون مع بعض، مع ما يعانون من مشقات الغربة الدينية والدنيوية.
ومما يؤسف له أن يقاتل بعض المسلمين في البوسنة والهرسك في صفوف أعداء الله من
النصارى، إخوانهم المسمين المجاهدين.!
وهكذا المنظمات الإسلامية -لا نريد التعرض للمنظمات التي قامت على أساس
القوميات، كجامعة الدول العربية، فهي لم تقم على أساس الإسلام، وإنما قامت،
بإيعاز من بعض الدول الغربية، ضد الدعوة إلى جامعة إسلامية، بعد سقوط آخر رمز
للخلافة الإسلامية، بعد الحرب الكمالية لدين الإسلام، اقتداء بالقوميات التي
قامت في أوربا، ومع ذلك نتمنى أن تخفف هذه الجامعة من العدوات والصراعات التي
أنهكت الشعوب الإسلامية ومزقتها شر ممزق وتصل إلى بعض ما وصلت إليه الدول
الأوربية من التقارب الذي كاد يصل إلى الوحدة السياسية الكاملة. وراجع كتاب
الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر(2/99-198) للدكتور محمد محمد حسين- التي
قامت-في ظاهر-أمرها للم شعث المسلمين في الأرض وقد زادت دولها على خمسين دولة
أو قاربت، تجتمع هذه الدول باسم الإسلام، ولكن ثمانيا وتسعين في المائة منها-إن
أحسنا بها الظن- تصرح بأنها علمانية، أي تلتزم الفصل بين الدين والدولة، فالدين
صلة خاصة بين الفرد و ربه [وبعض تلك الدول لا تترك الفرد المتدين وشأنه، بل
تضايقه وتلاحقه، وتستجوبه شرطها وتحقق معه في تردده على المساجد، وبخاصة تردده
لصلاة الفجر]، والدولة تحكمها قوانين اليهود والنصارى والملحدين، ولهذا تجتمع
دول تلك المنظمة باسم الإسلام، ولكن غالبها يحارب الإسلام بنبذه تحكيم الكتاب
والسنة ومحاربة كل من يدعو إلى تحكيمهما في حياة المسلمين، ويقف من قضايا
المسلمين الخطيرة المواقف التي ترضي أعداء الإسلام من اليهود والنصارى
والملحدين(4) أو لا تغضبهم على الأقل -ويقابل مندوب هذه
الدولة مندوب دولة أخرى، وكل منهما يعلم أنه عدو لدود لصاحبه، ثم يصدرون قرارات
عامة فضفاضة تُراعى في صياغتها رغبات الدول الكبرى وهي معروفة! والدليل على
تصدع هذه الدول وعدم اجتماعها على كلمة الحق اعتداء الدولة القوية منها على
الدول الضعيفة-إلا إذا خافت الدولة القوية من دولة حليفة أجنبية للدولة الضعيفة
من دول الغرب-وإذا اعتدت دولة على أخرى من هذه الدول، وقفت الدول الأخرى موقفا
سلبيا-في الغالب-لاتنصر الدولة المظلومة، ولا تصلح بين الدولتين بالعدل، ولا
تقاتل التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله! ولا تجد دولة مجاورة لدولة إلا وهما
متنازعان على أميال من الأرض تنازعا قد يفجر بينهما معارك تأكل الأخضر واليابس،
ويجر النزاع والعدوات بين حكام تلك الدول إيجاد عدا وات بين الشعوب، بما تحدثه
وسائل الإعلام في كل دولة ضد الدولة الأخرى من دعاوى صادقة أو كاذبة، وتهم
صحيحة أو مختلقة، مع شدة التحريض المثير للنعرات والمورية للأحقاد.(5)
(119)
تابع
لـ(لنتائج)
ويأتي-بعد ذلك-دور العلماء.وأقصد
بالعلماء-هنا-من انتسب إليهم، أو عده قومه منهم، وقد يكون عالما، وقد يكون
طويلب علم متعالم.
وسأحصر الكلام عن العلماء في مسألتين:
المسألة الأولى: في اجتماعهم أو
اختلافهم فيما بينهم.
العلماء حقا هم ورثة الأنبياء الذين
ينشرون العلم ويربون الناس على العمل به، ويسعون في جمع كلمة الأمة على الحق،
ويكونون قدوة حسنة للناس.
والأصل عندهم عدم الاختلاف فيما بينهم فيما ثبت لهم دليله، وظهر لهم معناه،
فإذا التبس الحق واحتاج إلى اجتهاد، واختلفت فيه وجهات النظر، فقد يختلفون،
ولكنهم جميعا لا يقصدون إلا الحق، فإذا ظهر لأحدهم الصواب مع غيره اتبعه وعمل
به، وإلا أخذ كل منهم بما ظهر له، معتقدا أن ما عنده صواب يحتمل الخطأ، وما عند
غيره خطأ يحتمل الصواب، وبذلك يعذر بعضهم بعضا في مسائل الاجتهاد، ولا يفسد
اختلافهم في ذلك ما بينهم من ود واحترام، ولا يفسق بعضهم بعضا ولا يبدعه ولا
يكفره، بل يثبت له ما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الأجر الواحد فيما
اجتهد فيه وأخطأ، والأجران فيما اجتهد فيه وأصاب، وقد جرى على ذلك أصحاب الرسول
صلى الله عليه وسلم والتا بعون غيرهم من علماء الإسلام الصادقين.
وقد بين هذه القاعدة الإمام الشافعي رحمه الله، فقال: (كل ما أقام الله به
الحجة في كتابه أو على لسان نبيه، منصوصا، بينا، لم يحل الاختلاف فيه، لمن
علمه، وما كان من ذلك يحتمل التأويل، ويدرك قياسا، فذهب المتأول أو القايس إلى
معنى يحتمله الخبر أو القياس، وإن خالفه فيه غيره، لم أقل إنه يُضيَّق عليه
ضِيقَ الخلاف في المنصوص) [الرسالة: (ص: 560، م: 1674،1675) وراجع (ص: 494، م:
1406-1409). وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله أربعة قيود فيما لا يجوز الخلاف
فيه الأول: أن يوجد دليل من الكتاب والسنة في المسألة، الثاني: أن يكون حكم
المسألة منصوصا، الثالث: أن يكون بينا، الرابع: أن يطلع العالم على ذلك الدليل]
وقال ابن تيمية رحمه الله: (ومن علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر على
وجه الذم والتأثيم له، فإن الله غفر له خطأه، بل يجب لما فيه من الإيمان
والتقوى موالاته ومحبته، والقيام بما أوجب الله من حقوقه، من ثناء ودعاء
وغيره). [مجموع الفتاوى (8/234)]
وقال في موضع آخر: (وقد اتفق الصحابة -في مسائل تنازعوا فيها-على إقرار كل فريق
للفريق الآخر على العمل باجتهادهم، كمسائل في العبادات، والمناكح، والمواريث،
والسياسة .... وتنازعوا في مسائل علمية اعتقا دية، كسماع الميت صوت الحي،
وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه قبل الموت مع بقاء
الجماعة والألفة). [مجموع الفتاوى (19/122-123). تأمل قوله رحمه الله:
{وتنازعوا في مسائل علمية اعتقا دية... مع بقاء الجماعة والألفة..} مع ما ينشره
من ضاقت صدورهم باختلاف العلماء في الفقه، في بعض جزئيات في العقيدة، كالذي
ذكره ابن تيمية هنا، فأخرجوا أولئك العلماء المجتهدين من زمرة أهل السنة
والجماعة، كالحافظ ابن حجر، والإمام النووي، وأمثالهما من رواد العلم، ويرددون
عبارة: لا يجوز الخلاف في الأصول، لأن السلف لم يختلفوا في الأصول، وهي عبارة
صحيحة في أصول الاعتقاد، كأركان الإيمان، وليست على إطلاقها في كل الجزئيات
العقدية، كما هو واضح في الأمثلة التي ذكرها ابن تيمية، وكاختلافهم في فناء
الجنة والنار]
فللعلماء حالتان:
الحالة الأولى:
أن يثبت عندهم الدليل، ويظهر المعنى لهم جميعا على وجه واحد لا يحتمل غيره، وفي
هذه الحال لا يسعهم الخلاف، لعدم وجود المسوغ له.
الحالة الثانية:
أن يثبت عندهم الدليل، ويكون لمعناه احتمالان أو أكثر، وتختلف فيه وجهة نظرهم،
فيرى هذا مالا يراه الآخر، وهنا لا يلزم أحدَ هم ما فهمه الآخر، بل يقر كل فريق
على العمل باجتهاده كما قال ابن تيمية، مع بقاء الجماعة والألفة بينهم، وقيام
كل منهم بما أوجب الله لصاحبه من حقوق، وعدم جواز ذكره بذم أو تأثيم.
(120)
تابع
لـ(لنتائج)
فما نصيب علماء المسلمين اليوم من هذه
القاعدة التي تجمع، ولا تفرق؟
بادئ ذي بدء نقول: إنه يوجد في الأقطار
الإسلامية-وفي غير الأقطار الإسلامية-علماء ذوو بصيرة وتقوى وورع، يسعون جادين
في تطبيق هذه القاعدة، ويحزنهم ما يرون من تفرق علماء المسلمين وتمزقهم ويهيبون
بإخوانهم العلماء أن يسيروا على نهج هذه القاعدة، ولكن هذا الصنف من العلماء
قليل، سنة الله في عباده الصالحين: (إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها
راحلة) [متفق عليه، وهو في اللؤلؤ والمرجان (ص 691، رقم: 1651)].
فإذا استثنيت هؤلاء وحزمت حقائبك وجلت في الأرض- في بلدان المسلمين أو
غيرها-وجدت عجبا من الكثرة الكاثرة من المنتسبين إلى العلم، سواء أكانوا من
جماعة واحدة أو من جماعات، وكثيرا ما تجد السبب في تنازعهم اتباع الهوى والجري
وراء مصالح مادية [وقد يكون سبب الخلاف دينيا، ولكنه لا يرقى إلى جواز المفاصلة
والتنازع المؤدي إلى الفشل]، ولكنهم قد يسوغون مواقفهم بأسباب دينية، إذا
سبرتها وجدتها أوهى من بيت العنكبوت.
إنك تجد بلدا إسلاميا يكاد عدد المسلمين فيه يتساوى مع عددغيرالمسلمين، وتجد
فيه أحزابا كثيرة للمسلمين، وأحزابا أخرى لغير المسلمين، فإذا فتشت عن علماء
ذلك البلد وجدتهم قد تفرقوا في تلك الأحزاب كلها، فتجد بعضهم في حزب إسلامي
وتجد بعضهم في حزب علماني [الكلام هنا لا يقصد منه نقد وجود عالم في حكومة
علمانية أو غيرها، وإنما المراد وصف حال العلماء في التفرق والتنازع. وقد اشترك
بعض الشباب الصالحين في حكومة علمانية في بعض الدول في جنوب شرق آسيا، فكان لهم
أثر واضح في الإصلاح]، وتجد آخرين في حزب نصراني، فإذا جاءت جولة جديدة، ظن
العالِم أن النصر الانتخابي فيها سيكون لحزب آخر انتقل إليه وترك الحزب الذي
كان فيه، وكال المديح لحزبه الجديد ولو كان علمانيا، وكال الشتائم لحزبه القديم
ولو كان إسلاميا!
وتجد بلدا آخر من بلدان المسلمين يتنافس فيه على زعامته رجل وامرأة، وتصدر
فتاوى من غالب علماء المسلمين، في ذلك البلد وفي غيره، بعدم جواز تولي المرأة
الولاية العظمى، ولكن علماء ذلك البلد ينقسمون قسمين: قسم يؤيد اختيار الرجل،
وآخر يؤيد اختيار المرأة، ووراء كل عالم أتباعه، والمسوغات جاهزة لدى الجميع!
وتجد في بلدان كثيرة جماعة واحدة، لا خلاف بين أفرادها في عقيدة ولا في مذهب
فقهي، ولا في اتجاه فكري، ينشق منها أحد أعضائها-العلماء!-ويكون جماعة أخرى
صغيرة، فإذا بحثت عن سبب الانشقاق وجدته الاستقلال بتلقي المساعدات المالية،
ليس إلا.
وإذا تتبعت المواقف السياسية في البلدان الإسلامية، وجدت كثيرا من العلماء
يتناقضون في فتاواهم في قضية واحدة كانت منكرا قبل سنين ولكنها اليوم أصبحت
معروفا، والمفتون هم المفتون والمسوغات جاهزة!
وإذا بحث أعداء تطبيق الشريعة الإسلامية عن مفت يحل ما حرم الله وأجمعت على
تحريمه الأمة، كتحريم الربا، وجدوا من يفتي في ذلك ممن يشترون بآيات الله ثمنا
قليلا، ووُجد من يؤيد ذلك المفتي من أمثاله، بل قد يجد محاربو الإسلام من
يفتيهم بشرعية قطع رقاب الآمرين بالمعروف والنا هين عن المنكر، وقد يقبل أن
يكون عضوا في صف الجواسيس على العلماء العاملين!
وتجد علماء السنة [السنة-هنا-يقابلها (الشيعة)] في بلد السنة متفقين على مذهب
أهل السنة فينتدِب من بينهم أحد أدعياء العلم، لنشر مذهب الرافضة ويبني المدارس
والمعاهد، ويجتذب الطلاب والمدرسين، ويحدث شقا جديدا في صف المسلمين، والسبب
الحصول على المال والسعي وراء الظهور.
وتجد بلدا تنتشر فيه السنة، وتتقلص البدعة، فيستاء من ذلك علماء البدع
والخرافات، فيسعون في إيجاد مراكز وأوكار لبدعهم وخرافاتهم، فيجمعون لذلك
المال، ويعمرون المدارس والمساجد، ويدرسون الطلاب ويدربونهم على تلك البدع
والخرافات ويعدونهم لتدريسها ونشرها، ثم يسلطونهم على ذلك البلد لإحداث فتنة
بين أهله!
(121)
تابع
لـ(لنتائج)
وتجد آخرين لا هم لهم إلا الطعن في دعاة
الإسلام الذين جاهدوا في الله حق جهاده ينسبون إليهم زورا وبهتانا ما هم منه
براء، أو يتتبعون بعض الهفوات الصغيرة التي لا يسلم منها إلا المعصوم صلى الله
عليه وسلم، ويضخمونها ليخرجوهم بها من دائرة الإسلام.
وتجد طائفة من العلماء اتجهت في نشاطها إلى بعض أبواب الإسلام وقل نشاطها في
سواه-والإسلام منهج شامل لكل حياة المسلمين-فإذا رأت جماعات أخرى اهتمت بأبواب
الإسلام الأخرى جن جنونها، وفَسَّقتْ وبدَّعتْ واتهمت، وزعمت أنها وحدها حاملة
الإسلام، لأنها تريد الجماعات كلها تنضوي تحت لوائها وتلتزم بمنهجها، مع أنها
لو تأملت قليلا لوجدت أن الجماعات الأخر تسقط عنها فرض الكفاية الذي لو لم يقم
به أحد لكانت هي من الآثمين. [ولقد انتقل هذا النزاع والصراع الموجود في بلدان
المسلمين إلى المسلمين الذين نزحوا إلى البلدان غير الإسلامية، كدول أوربا
وأمريكا، فوجد من التنافس على الزعامات في بعض المراكز الإسلامية ما وصل إلى
درجة تدخل الشرطة في فض النزاعات، ووجدت صراعات الأحزاب والجماعات والدول
بكاملها في تلك البلدان، مما أعطى لمن يتعمدون تشويه الإسلام دليلا يدعمون به
دعاواهم الماكرة، وقد بينت ذلك في رحلاتي إلى أوربا، وأشرت إليه في محاضرة
ألقيتها في القاعة الكبرى في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وقد طبعت]
وتجد من هؤلاء من يناصبون العداء للعلماء الذين ترجح عندهم الدخول في المعترك
السياسي بعد دراسة هذا الأمر والتشاور فيه والمقارنة بين المصالح والمفاسد
المترتبة على الدخول في هذا العمل أو عدم الدخول فيه، والقصد من ذلك محاولة
التقليل من الشر والظلم، والإكثار من الخير والعدل، وتقوية الدعوة إلى الله
ونشرها والدفاع عن الدعاة، حسب الاستطاعة، كالدخول في الانتخابات البرلمانية
وتولي بعض الوظائف، كالوزارات، فيسارع أولئك في اتهام هؤلاء بأنهم يقرون
الطواغيت على الحكم بغير ما أنزل الله، ويشاركونهم في الإثم، وهذه المسألة من
المسائل الاجتهادية التي تختلف فيها وجهات النظر، وقد يختلف حكمها في بلد عن
بلد آخر، كما يختلف باختلاف الأشخاص، وعلماء كل بلد أولى بالحكم فيها من غيرهم،
لأنهم أعلم بواقع بلدهم من غيرهم، والذي يطلع على معركة علماء اليمن فيما يتعلق
بالدستور، ويقارن بين الدستور الدائم للجمهورية العربية اليمنية [وكان لبعض
العلماء جهود عظيمة في إثبات بعض مواده التي صبغت بالصبغة الإسلامية، في وقت لا
يجرؤ فيه على التقدم باقتراح مواد إسلامية في الدستور إلا عظماء الرجال، إذ كان
في عهد سيطرة عبد الناصر على اليمن، وكان الداعية المسلم يعد رجعيا يستحق
القتل، وقد اغتيل الأستاذ الزبيري، رحمه الله، وكان شجاعا في قول كلمة الحق، لا
تأخذه في الله لومة لائم] والميثاق الوطني الذي يعد منطلق المؤتمر الشعبي [وكان
لعلماء اليمن-أيضا-جهود موفقة في إدخال كثير من القواعد والأفكار الإسلامية]،
ومشروع الدستور الذي أُرِيدَ إقراره بعد قيام الوحدة-وقد وضع بعناية لزحزحة
الحكم بالإسلام في اليمن، أقول الذي يقارن بين هذه الثلاثة من جهة، وبين دستور
الجمهورية اليمنية الذي أقره الشعب اليمني بعد هزيمة الحزب الاشتراكي-يعرف قدر
هؤلاء العلماء وجهادهم المتواصل لتسديد حكامهم والحفاظ على إيمان الشعب اليمني
الذي هو من أهم سماته بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
هؤلاء العلماء هم الذين نشروا الدعوة في اليمن، ونشروا السنة في أماكن ما كان
أحد يجرؤ على المجاهرة بالعمل بها-فضلا عن الدعوة إليها-وغالبهم [نعم غالبهم،
وإلا فمنهم علماء مجاهدون كبار لم يأخذوا العلم في خارج اليمن، ومنهم القاضي
يحيا بن لطف الفسيل رحمه الله، الذي أنشأ أول معهد علمي في اليمن بعد الثورة]
من علماء الأزهر والجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وجامعة أم القرى،
وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية [الجامعات الثلاث الأخيرة كلها في
المملكة العربية السعودية].
وهم الذين وفقهم الله فمكنوا بعض الدعاة من نشر الدعوة السلفية في معقل الجار
ودية.
وهم الذين تسببوا في إقامة مئات المعاهد العلمية في كل نواحي اليمن، وهم الذين
جاهدوا في سبيل وضع مناهج المدارس الحكومية والكتب الدينية التي نفع الله بها
وقضى على الإلحاد الذي كاد يتغلغل إلى كل بيت في اليمن عن طريق المدرسين
اليساريين الذين درسوا في البلدان الشيوعية من اليمنيين وغيرهم، وعن طريق
الطلاب الذين كانوا يتلقون الشبه الإلحادية وينقلونها إلى أسرهم.
وكانوا مع جهادهم هذا يطاردون ليزج بهم في السجون فيتركون منازلهم ويفرون إلى
الجبال والوديان لينشروا الدعوة والوعي المطلوب بين القبائل.
وهم الذين قضوا-بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة-على كثير من الخرافات التي كانت
منتشرة في اليمن.
وهم الذين جعلوا بعض زعماء قبائل اليمن يناصرون الدعوة إلى الله وتحكيم شرع
الله في اليمن.
وهم الذين كافحوا ولا زالوا يكافحون في كل ميدان في الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، في مجلس النواب، وفي مجلس الوزراء، وفي المؤسسات الشعبية، وفي المساجد،
وفي المؤسسات التعليمية، والمؤسسات الإعلامية، في حدود طاقتهم، وكل وزير منهم
يسعى جهده في وزارته لتحقيق المصالح ودفع المفاسد والأمر ليس كله بيدهم، حتى
يطبقوا كل ما يريدون من الخير.
وقبل ذلك هم الذين كسروا شوكة الشيوعيين الذين أرعبوا الناس في شمال اليمن في
الثمانينات، حتى أصبحوا يسيطرون على كثير من المناطق يسفكون الدماء ويحتلون
الأعراض وينهبون الأموال، فاختل الأمن واستسلم الناس لهم.
وهم الذين شاركوا في إزالة قوة كابوس الشيوعية والإلحاد في الحرب الأخيرة.
أهؤلاء-وأمثالهم-يجزون بالتأثيم والتفسيق ودعوة الناس إلى مقاطعتهم واتهامهم
بممالأة تحكيم القوانين المخالفة للإسلام، وهم يبذلون كل جهد في كل مادة في
الدستور أو القوانين لتكون متفقة مع شرع الله!؟
(122)
تابع
لـ(لنتائج)
ذلك من حيث الواقع، فما حكم تَقَلُّد
أعمال حكومية لا يستطيع الموظف فيها أن يقوم بكل ما يجب عليه أو يستحب القيام
به من حيث الشرع؟
هنا تجيب المصالح التي جاء الشرع لجلبها، والمفاسد التي جاء الشرع لدفعها.
وسأدع الجواب للعلامة الفقيه الداعية المجاهد، الذي فقهه الله في دينه، وهو
يتحرك بالدعوة، يتفقه في النصوص ويعمل بها، ويتعرف على الواقع وينزل النصوص
عليه، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون. وليس من الذين
يحفظون بعض النصوص، ويجهلون الواقع الذي تنزل عليه فيصدرون الفتاوى المتسرعة
بناء على هذا الجهل!
فقد قال: (إذا كان المتولي للسلطان العام، أو بعض فروعه، كالإمارة والولاية
والقضاء ونحو ذلك، إذا كان لا يمكنه أداء واجباته وترك محرماته، ولكن يتعمد ذلك
ما لا يفعله غيره قصدا وقدرة جازت له الولاية، وربما وجبت... وهذا باب يختلف
باختلاف النيات والمقاصد، فمن طلب منه ظالم قادر وألزمه مالا، فتوسط رجل بينهما،
ليدفع عن المظلوم كثرة الظلم، وأخذ منه وأعطى الظالم، مع اختياره أن لا يظلم،
ودفعه ذلك لو أمكن، كان محسنا، ولو توسط إعانة للظالم كان مسيئا... ومن هذا
الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على
خزائن الأرض، وكان هو وقومه كفارا... ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم
عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته ورعيته، ولا تكون
تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد،
وهو ما يراه من دين الله، فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل
والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن
يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله: {فاتقوا الله ما استطعتم}) التغابن:
16. [مجموع الفتاوى (20/55-57)]
وقال في موضع آخر: (والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بالقرآن، فإن قومه لا يقرونه
على ذلك، وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا، بل وإماما وفي
نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا
يكلف الله نفسا إلا وسعها..) [مجموع الفتاوى (19/218)].
ولا شك أن التخفيف من الشر خير من تركه يكثر، إذا لم يُستَطَعْ إزالته كله،
وتكثير الخير خير من تركه يقل إذا لم يُستَطَعْ جلبه كله، ونور في ظلمة خير من
ظلمة لا نور فيها، كما قال ابن تيمية في موضع ثالث: (فإذا لم يحصل النور
الصافي، بأن لم يوجد إلا النور الذي ليس بصاف، وإلا بقي الإنسان في الظلمة، فلا
ينبغي أن يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة، إلا إذا حصل على نور لا ظلمة فيه،
وإلا فكم ممن عدل عن ذلك، يخرج من النور بالكلية). [مجموع الفتاوى (10/364).
هذا مع العلم أن بعض حكام المسلمين يقرون بشرع الله، ويطبقونه مع نقص، ووجود
العلماء في بعض المناصب يساعدهم عل تكميل شيء من ذلك النقص، فليسوا كملك مصر،
وقد عمل يوسف عليه السلام واليا عنده]
فالواجب على العلماء أن يتدبروا المسائل الاجتهادية النازلة ويتدارسوها حتى
يتبين لهم وجه الحق فيها، ولا يتسرعوا في حكم بعضهم على بعض، فإن تبين لهم
جميعا وجه الحق، عملوا به، وإلا أقر كل فريق صاحبه على ما أداه إليه اجتهاده
الذي سيثيبه الله عليه أخطأ أم أصاب، كما مضى.
(123)
تابع
لـ(لنتائج)
ويجب التنبيه-هنا-على قاعدة مهمة، كثيرا
ما ينساها-أو يتناساها-بعض المنتسبين إلى العلم، وهي أنه قد يحصل من بعض
العلماء ما يخالف شرع الله مخالفة صريحة-مما لا يبلغ حد الكفر-كالمعاصي وبعض
البدع، والواجب في هذه الحال نصحه، وأمره ونهيه، ولا مانع من هجره [راجع في
موضوع الهجر,وأنه يتبع المصلحة: مجموع الفتاوى (28/203-210)]، إذا أدى إلى
صلاحه أو إلى تحذير الناس من الاغترار به، ولكن ذلك لا يقضي على ما له من حق
الموالاة بقدر ما عنده من الخير، ومعاداته بقدر ما عنده من الشر، فالولاء
والبراء يتجزآن، كما يتجزأ الإيمان، فما يراه بعض من ينسى هذه القاعدة من أن
الولاء لا يتجزأ وكذلك البراء، ويبنون على ذلك المعاداة المطلقة للعلماء أو
الدعاة الذين يدخلون في هذا الصنف، هو مذهب الخوارج الذين يرون أن الشخص
الواحد، إما أن يكون مستحقا للثواب فقط أو مستحقا للعقاب فقط، وقد رد شيخ
الإسلام ابن تيمية، رحمه الله على من يعتقد هذا الاعتقاد، فقال:
(وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، وسنة وبدعة، استحق من
الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما
فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة... هذا هو الأصل
الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة...) [مجموع
الفتاوى (28/209)]
هذه هي المسألة الأولى، وهي اجتماع العلماء أو اختلافهم فيما بينهم، وإذا كانت
هذه هي حال العلماء في التنازع والتفرق والتدابر والتقاطع فكيف ينال المسلمون
العزة التي من أهم مقوماتها اجتماع الكلمة على الحق، والعلماء هم قدوة الأمة،
والناس لهم تبع؟ [قلت في إحدى قصائدي:
وتفـرق العلمـاء كـل يدعـي ======= أن الهدى تحت العمامة والرداء
والأرض يغمرها الضلال وتصطلي ======== فيها الخلائق كلها نار الشـقاء
هتاف العزة والجهاد (ص: 88)]
(124)
تابع لـ(لنتائج)
المسألة الثانية: في اتفاق العلماء
والأمراء، أو اختلافهم:
لقد كان أمير المؤمنين في العصور
المفضلة، يجمع بين العلم والإمارة، وكان يستشير العلماء فيما يشكل عليه، وكان
هو إمام المسجد وقائد الجيش، وقد يجمع مع ذلك القضاء، وقد كان الرسول صلى الله
عليه وسلم يجمع بين سياسة الأمة وقيادتها، وبين إمامتها وتبليغ دين الله إليها.
قال ابن تيمية، رحمه الله: (وقد كانت السنة أن الذي يصلي بالمسلمين الجمعة
والجماعة ويخطب بهم، هم أمراء الحرب الذين هم نواب ذي السلطان على الأجناد
ولهذا لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في الصلاة قدمه المسلمون في
إمارة الحرب وغيرها..). [مجموع الفتاوى (28/260)]
ثم تغير الحال، فاختص الأمراء بالسياسة وقوة السلطان، مع عدم إهمال العلم،
واختص العلماء بالتعليم والإفتاء والتربية والدعوة وإمامة المساجد، وكان
العلماء والأمراء يتعاونون على إقامة دين الله، فريق العلماء يفتي ويبين الحق
وينصح، وفريق الأمراء ينفذ-غالبا-أي إنه يجتمع لإقامة الدين سلطان العلم
والحجة، وسلطان القوة والقدرة والسيف، ولا يقوم الدين ويحفظ إلا باجتماع هذين
الأمرين.
قال ابن تيمية، رحمه الله: يوضح ذلك أن السلطان نوعان: سلطان الحجة والعلم، وهو
أكثر ما سمي في القرآن سلطانا... والثاني: سلطان القدرة. والعمل الصالح لا يقوم
إلا بالسلطانين، فإذا ضعف سلطان الحجة كان الأمر بقدره وإذا ضعف سلطان القدرة
كان الأمر بحسبه...). [مجموع الفتاوى (19/125)]
وقال في موضع آخر: (ودين الإسلام أن يكون السيف تابعا للكتاب، فإذا ظهر العلم
بالكتاب والسنة، وكان السيف تابعا لذلك، كان أمر الإسلام قائما...). [مجموع
الفتاوى (20/393)]
وبين في موضع آخر أن انفراد الدين عن سلطان القوة، و انفراد سلطان القوة عن
سلطان الدين فيهما فساد العالم، قال: (وإن انفرد السلطان عن الدين، أو الدين عن
السلطان، فسدت أحوال الناس). [مجموع الفتاوى (28/394)]
وبين الغزالي، رحمه الله، أن الدين هو الأصل، وأن السلطان حارس، فقال: (فالفقيه
هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات،
فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طريق سياسة الخلق وضبطهم، لينتظم
باستقامتهم أمورهم في الدنيا.... والملك والدين توأمان، فالدين أصل والسلطان
حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، ولا يتم الملك والضبط إلا
بالسلطان، وطريق الضبط في فصل الحكومات بالفقه). [إحياء علوم الدين (1/17)]
هكذا كان الدين يقوم بسلطان الحجة والفقه عند العلماء، وسلطان القوة والسيف عند
والأمراء، وكان يحصل بين بعض العلماء وبعض الأمراء-أحيانا-اختلاف وجفاء، ولكن
الخلاف ما كان يصل إلى درجة الفصل بين الدين والدولة.
فما نصيب علماء المسلمين وحكامهم اليوم
من الاتفاق والنزاع؟
لقد التزم غالب حكام الشعوب الإسلامية
في هذا العصر بفصل الدين عن الدولة، ولم يبقوا من أحكام الدين الإسلامي إلا بعض
أحكام الأسرة [نقول: بعض، لأن قوانين بعض الدول بها مواد تخالف أحكام الإسلام،
وتوجد قوانين مقترحة للأحوال الشخصية في بعض البلدان الإسلامية، بها مواد تخالف
أحكام الإسلام] -الأحوال الشخصية-وبعض المعاملات التي قد يلجئون إليها إذا رأوا
المصلحة تقتضي ذلك، ولكنها غير ملزمة لهم، واستبدلوا بأحكام الإسلام قوانين
أجنبية. [اقتدوا في فصل الدين عن الدولة بالنصارى الذين ذاقوا الأمرين من سلطة
الكنيسة التي كانت تحكمه بأهواء القساوسة الذين يزعمون بأنهم يحكمون باسم الله،
ولم يكن عندهم في الإنجيل ما يمكن به الفصل بالعدل في أحكامهم، بخلاف الإسلام
الذي فيه تبيان لكل شيء، كما مضى] وبذلك سَيَّروا حياة الناس بحسب أحكام
القوانين الوضعية، بل إنهم يصدرون مايشاؤن من قوانين وأحكام تحقق لهم ما يهوون،
ولو خالفت تلك القوانين، لأنهم يرون أنفسهم فوق القانون ولهم حججهم ومسوغا تهم
في التغيير التبديل.
(125)
تابع لـ(لنتائج)
وإزاء هذا التغيير انقسم العلماء ثلاثة
أقسام:
القسم الأول:
يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويبين الحق من الباطل، بحسب قدرته، ولا يقر هذا
المنهج المحارب لشريعة الله.
وموقف الحكام-النابذين لتحكيم الشريعة-من هذا القسم من العلماء، يختلف من حاكم
لآخر، فبعض الحكام يهملون هؤلاء العلماء وآراءهم، ويحاصرون أفكارهم، وقد يأذنون
بنشرها في مطبوعات لا تؤثر على الرأي العام، ويبعدونهم عن مراكز التوجيه.
وهؤلاء الحكام أحسن حالا من غيرهم، وقد يكونون يميلون بفطرتهم إلى ما ينادي به
أولئك العلماء، ولكن ضعف إيمانهم وضغوط أعداء الإسلام عليهم وخوفهم على
مناصبهم، يحول بينهم وبين تنفيذ ما يعتقدون أنه الحق.
وبعض الحكام يُضَيِّقون الخناق على هؤلاء العلماء ويؤذونهم بالاعتقال والسجن
والتعذيب والتشريد، وانتهاك لأعراض والقتل، ويتهمونهم بالتشدد والتطرف
والأصولية [الأصولية نسبة إلى الأصول، والأصولي في الشريعة الإسلامية هو الذي
يعتقد أصول الإيمان والإسلام ويفقههما فقها صحيحا، وهو العالم بموازين الحكم
الصحيح في الشريعة الإسلامية عن طريق تضلعه في علم أصول الفقه وقواعده، وقواعد
الأحكام، وأصول التفسير وأصول الحديث... ولكنه عند الغربيين يطلق على فرقة من
فرق النصارى البروتستانت، تتمسك بنصوص محرفة تمسكا جامدا، ويحكمون على كل من
يخالف ظواهر تلك النصوص عند الفئات الأخرى من النصارى، بأنها على باطل، وهي
ترجمة لمعنى كلمة:
(ESSENTIALISM) في اللغة الإنجليزية، هذا مع العلم أن كلمة أصولي تطلق في اللغة
الإنجليزية على ما يشبه إطلاقها في الشريعة في الجملة، وهو الضليع في القانون،
والمحامي، والقاضي والكلمة الدالة على هذا المعنى في اللغة الإنجليزية هي
(JURIST). فأطلق أعداء الإسلام على المسلم المتمسك بدين الإسلام كلمة الذم
الأولى، وتركوا كلمة المدح الثانية، مع أن المسلم في غنى عن مدحهم، ولكن
ببغاوات المسلمين من الإعلاميين وغيرهم تلقفوا الكلمة وأطلقوها على من هو
بضدها، وهذا مصداق لقول الرسول صلى الله عليه وسلم {حتى لو دخلوا جحر ضب
لدخلتموه}. راجع كتابنا (السباق إلى العقول: ص 369). تحت الطبع ]
وهم صابرون صامدون-صمود بلال رضي الله عنه-يقيم الله بهم الحجة ويبين بهم للناس
الحق [يحدوهم إلى احتمال الأذى والصبر على المحن ثلاثة أمور الأمر الأول: إقامة
الحجة على الزعماء ببيان الحق من الباطل. والأمر الثاني: تنبيه الأمة على الخطر
المحدق بها، بسبب عدم تحكيم شريعة الله والسبب الثالث: طمعهم في الفوز بأفضل
الجهاد، الذي رواه أبو سعيد، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
{أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر}، وهو حديث صحيح، راجع كتاب جامع العلوم
والحكم لا بن رجب بتحقيق وهبة الزحيلى (2/151)]، وكلما زاد التشديد عليهم زاد
إقبال الناس على دعوتهم وكتبهم والتشبع والتمسك بأفكارهم لما يرون في نهجهم من
الحق، وهو قصد رد المسلمين إلى دينهم، ولما أصاب المسلمين من الذل والهوان،
ولفشل كل المناهج التي أجرى حكامهم تجاربها عليهم، كما تُجرى تجارب العقاقير
على الفئران [كما قال الشاعر:
لولا اشتعال النار فيما جاورت === ما كان يعرف طيب عرف العود].
ولقد تأثر بدعوة هؤلاء العلماء والدعاة كثير من الشباب في العالم الإسلامي
وغيره، فعمت الصحوة الإسلامية أرجاء الأرض، وهي في حاجة إلى ترشيد وتفقيه في
دين الله حتى تسير بخطى ثابتة على منهج الله.
ذلك هو القسم الأول من العلماء.
(126)
تابع
لـ(لنتائج)
القسم الثاني:
من يؤثر السلامة، ويخاف أن يصاب بمكروه إذا أمر أو نهى، ويبغض المنكر بقلبه،
ويلتزم الصمت، وقد يقول كلمة الحق لدى من يأمنه ولا يخاف منه.
ولنا على هذا الموقف ثلاث ملحوظات:
الملحوظة الأولى:أن
الخوف من الإصابة بالمكروه والذي يسقط به الأمر والنهي هو الخوف الذي يغلب على
الظن حصوله، وليس الخوف المتوهم.
الملحوظة الثانية:
أنه ليس كل مكروه يصيب الآمر والناهي مسقطا لذلك عنه، فالذي يخاف على نفسه
المكروه، من قتل أو ضرب أو حبس، أو نفي، أو أخذ مال، أو على أسرته بالاعتداء
عليهم بذلك أو غيره، يُسقِط عنه هذا الخوف-إذا غلب على ظنه وقوعه-القيامَ
بالأمر والنهي، وإن كان يستحب له إذا قدر على الصبر، كما مضى في حديث أبي سعيد.
[راجع كتاب جامع العلوم والحكم (2/151)]
الملحوظة الثالثة:
أن الحكام الذين لم يحكموا الشريعة، ليسوا سواء فبعضهم يتغاضون عن الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، في حدود، وبخاصة إذا لم يُتَعَرَّض لهم بالتجريح،
ولم يذكروا بأسمائهم، ويجب أن يكون العالم حكيما يأمر وينهى بما يقدر عليه،
وبالأسلوب الممكن بدلا من السكوت المطلق.
ذلك هو القسم الثاني من العلماء.
(127)
تابع
لـ(لنتائج)
القسم الثالث:
هم علماء السوء، وهم الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، مثل علماء بني
إسرائيل، الذين يكتمون الحق، أو يلبسونه بالباطل، بتحريف الكتاب والسنة،
والتأويلات الفاسدة، فيحلون ما حرم الله ورسوله، ويحرمون ما أحل الله ورسوله،
طاعة لطواغيت الحكام الذين يحاربون الحكم بالكتاب والسنة، من أجل الحظوة عندهم
والقرب منهم، والحصول على المال والجاه وغيره، وهم أشد خطرا على الإسلام
والمسلمين من طواغيت الحكام الذين يعلم المسلمون أنهم يحاربون كتاب الله وسنة
رسوله، بخلاف علماء الضلال فإن جهال المسلمين، وهم أكثر من غيرهم، يغترون بهم
ويُضَلُّون بتحريفهم وتأويلاتهم، ويقف هؤلاء العلماء بالمرصاد للعلماء
العاملين، يشوهون سمعتهم، ويفتون بضلالهم، وقد يدعون الحكام إلى إيذائهم، بل قد
يستحلون دماءهم بإصدار الأحكام الجائرة عليهم [وهذا الابتلاء الذي يحصل للعلماء
العامين الصادقين، من الحكام الظالمين، وعلماء السوء المتزلفين، لا يخلو منه
زمان، لكنه في هذا العصر أصبح سمة بارزة في كل بلدان المسلمين التي يحارب
حكامها تحكيم الكتاب والسنة، وللبلدان العربية من ذلك النصيب الأوفر، لا يخفى
على من عاش في هذه الحقبة من الزمن، وبخاصة بعد انسحاب جيوش ما يسمى بالاستعمار
من بلدان المسلمين، وتقلد أبناء المسلمين، من تلاميذ أعداء المسلمين مقاليد
الحكم في بلدانهم، وقد بدأت المحنة في تركيا الكمالية، ثم بمصر الناصية،
وانتشرت فالبلدان الأخرى، وبخاصة تلك التي حكمتها الأحزاب الشيوعية
والاشتراكية].
ذلك هو القسم الثالث من العلماء.
(128)
تابع
لـ(لنتائج)
فئة الشباب الذين تتلمذوا على الكتب.
وهناك فئة رابعة أفرزتها هذه الأوضاع
المحزنة من اختلافات العلماء فيما بينهم، واختلافهم مع الحكام، واختلاف
الجماعات والأحزاب، هذه الفئة هي فئة شبابية نظرت في أوضاع أمتها، فوجدتها
أوضاع ذلة ومهانة، يسيطر أعداؤها على كل مقومات بقائها، وضرورات حياتها، ورأت
فشل كل التجارب السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي طبقها حكامها في
بلدانها، وتلفتت يمنة ويسرة لعلها تجد راية أخرى غير هذه الرايات التي أذلت
الأمة الإسلامية، فلم تجد شيئا يمكنه أن ينقذ هذه الأمة إلا مصدر عزها السابق
الذي جعل لأسلافها من الأمجاد ما لم تحلم به أمة من الأمم، وسبرت فئات العلماء
الذين هم المؤهلون لقيادة هذه الأمة إلى العودة إلى ذلك المصدر الإلهي العظيم،
فرأوا تلك الأقسام الثلاثة من العلماء:
*
علماء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المغلوب على أمرهم، الذين غصت بهم
السجون والمعتقلات، واستضافتهم حبال وأخشاب المشانق، وعانقت رقابهم السيوف، لا
في ساح جهاد أعداء الأمة الإسلامية الذين احتلوا أرضها ودنسوا مقدساتها
وانتهكوا أعراضها، ولكن في ساحات عواصم هذه الأمة التي بناها أجدادهم
المجاهدون، والذي لم تنله يد الإثم بالقتل أو التعذيب، ناله التشريد فحرمه من
التمتع بالسكن في بلده وبيته، ولم يجد كثير منهم مأوى إلا في بلاد الكفر.
*
وعلماء إيثار السلامة والسكوت الذين يقبعون في منازلهم على وجل من بطش الطواغيت
الذين لا يرضون بالسكوت، بل يريدون كل العلماء يؤيدونهم على باطلهم.!
*
وعلماء السوء الذين باعوا الدنيا بالدين فأصبحوا شرا على الدين وأهله من طغاة
الحكام.
هذه الفئة الرابعة ساءها ما رأت من مآسي أمتها، فاتجهت إلى دراسة الإسلام
لتفهمه وتسعى في تطبيقه في نفسها، ثم في الأمة، فمنهم من أخذ علمه من
الكتب-وبخاصة كتب الدعاة المغلوب على أمرهم-وغالب تلك الكتب تشتمل على معان
فكريه وحهاديه، تولد في النفوس الحماس للإسلام وتقوي العاطفة نحوه، وتظهر خطر
البعد عن هذا الدين، وكابوس سيطرة أعداء الأمة الإسلامية عليها، وغالب هذه
الفئة ذات ثقافة غير شرعية، فكثير منهم أطباء ومهندسون...
وقد يوجد فيهم من درس الشريعة دراسة أولية تؤهله للاستمرار في طلب العلم
الشرعي، ولكنه لم يكمل الدراسة التي تضبط له ميزان تصرفاته ضبطا شرعيا.
ولم يستيطعوا أخذ التوجيه على يد علماء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للحظر
المفروض عليهم، ولم تطمئن نفوسهم لأخذ العلم على يد العلماء الساكتين لأنهم في
نظرهم مقصرون بذلك السكوت [عدم الأخذ عن هؤلاء غلط، لأن التفقه عليهم في كتاب
الله وسنة رسوله، يعصم من زلل الجهل والاجتهادات المبنية عليه، وسكوتهم لخوف من
أذى معتبر في سقوط الإثم عنهم يغلب على الظن وقوعه هم به معذورون، وإذا كان
سكوتهم لا يعذرون به في نظر هؤلاء الشباب، فذلك بينهم وبين ربهم، وهو لا يمنع
أخذ العلم عنهم، بل الذي لا يأخذ العلم عنهم ويتصرف تصرفا جاهلا، يكون آثما على
ذلك].
أما علماء السوء فالأمر واضح في أنهم لا يرضون أن يكونوا تلاميذ لهم، بل موقفهم
منهم كموقفهم من طغاة الحكام أو أشد.
ورأى كثير من أفراد هذه الفئة أن الجهاد العسكري هو خير وسيلة لإعادة الأمة إلى
دين الإسلام، وذلك بمحاربة الحكام الذين أقصوا منهج الإسلام عن حياة هذه الأمة،
ومحاربة كل القوى التي تسند أولئك الحكام، من الشرطة، والجواسيس وأفراد الجيش،
وكبار موظفي الدولة، كالوزراء، ورجال الإعلام، وبعض المحامين والقضاة، وكل من
يرون في عمله مخالفة للأحكام الإسلام، وكذلك الأجانب الذين يَقْوَى اقتصاد
الحكام بزيارتهم للبلدان الإسلامية، بل وبعض العلماء والدعاة الذين لا يتفقون
معهم في هذا العنف.
فَهِم هؤلاء الشباب مشروعية تصرفهم هذا من نصوص عامة في القرآن والسنة، كالأمر
بالجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يتقي المؤمن ربه حسب استطاعته،
ورأوا أن أحكام تلك النصوص تنطبق عليهم وعلى المسؤلين عن محاربة تحكيم الشريعة
وكل من أعانهم، وكان كثير منهم قد تدربوا على المعارك الحربية في الجهاد
الأفغاني، ووجدوا من يمدهم بالسلاح-ولا ندري أهؤلاء المُمِدون، ممن يفهمون هذا
الفهم فيرون أنهم ممن يجهزون الغزاة، أم هم ممن يدبرون الفتن بين المسلمين-،
وقد ترتب على هذا الفهم ما يحصل اليوم من قلاقل واضطرابات في بلدان المسلمين،
ومن إزهاق لنفوس كثيرة بغير حق [حتى بلغ الأمر بهذه الفئة أن تقتل بعض دعاة
الإسلام من الجماعات الأخرى التي لا توافقها على تصرفاتها!!]، ومن الفوضى التي
لم يعد من السهل السيطرة عليها، ومما زاد في استعارها وقوف أعداء تطبيق الشريعة
من داخل البلدان الإسلامية ومن خارجها، ضد وصول الأحزاب الإسلامية إلى الحكم
بالطرق المشروعة فيما يعرف بالديموقراطية والتعددية الحزبية والانتخابات
العامة، كما حصل في الجزائر.
بل إن كثيرا من طواغيت الحكام يعتبرون مجرد الدعوة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية
جريمة يستحق صاحبها الحرمان من كل الحقوق السياسية التي يتمتع بها اليهود
والنصارى والملحدون في البلدان الإسلامية، وهذا من أهم الأسباب التي دفعت هذا
الشباب إلى حمل السلاح وتسديده إلى المذنب والبريء.
(129)
تابع
لـ(لنتائج)
نتيجة مرة
وبهذا يعلم أن غالب المسلمين اليوم،
وبخاصة من بيدهم أمر الأمة، قد ابتعدوا عن الأخذ بمقومات العزة التي أمرهم الله
بها، وتعاطوا أسباب الذلة التي نهاهم الله عنها-ومنها الفرقة والتنازع-،
والأدهى من ذلك أنهم يتسابقون للتقرب من أعدائهم وموالاتهم وهم الذين اغتصبوا
أرضهم واتخذوا-ولا زالوا يتخذون-كل وسائل الكيد لهم للقضاء عليهم وعلى كل
الأسباب التي تعيد لهم عزتهم ومجدهم، ويؤججون نار التنازع فيما بينهم، حتى أصبح
علماء الأمة ومفكروها يندبون حظ هذه الأمة العاثر [فقد قال شيخ الجامع الأزهر:
(نحن أمة قد تمزقت داخليا، وكل شعب من شعوبها يحيا مأساة خاصة، ونحن نطالب
المسلمين شعوبا وحكاما في كل مكان وكل بلد قائلين: إذا كنا قد فشلنا في أداء
حقوق الأخوة، فإننا نطالب بأداء حقوق الجوار، حتى حال شافية من هذا التقاطع
والتدابر الذي ينهش جسد الأمة الإسلامية ..) مجلة المجتمع الكويتية. عدد 1155.
29 محرم-5 صفر. صفحة: 20]
كما أهملوا المصدر الذي لا يمكن أن تجتمع كلمتهم على الحق إلا به-وهو الكتاب
والسنة- ولولا بقاء هذا المصدر المحارَب محفوظا بحفظ الله له، يرجع إليه من
يحرص على طاعة الله بالعمل بما يرضيه، مما تضمنه من تشريع، ولولا ما بقي من
عبادات جماعية تربط بين المسلمين، لم يستطع أعداء الإسلام القضاء عليها-مع
محاولتهم الجادة للتقليل من شأنها وتقليص وظائفها-كالحج وصلوات الجماعة والجمع
والأعياد، ونحوها مما أبقى على الصِّلات الاجتماعية والأسرية، ولولا أولو بقية
من دعاة الحق لازالوا يحدون الأمة إلى المحبة والإخاء، لولا ذلك كله وهو من فضل
الله وتوفيقه، ومن محاسن هذا الدين وفضائله، لولا ذلك لانحلت البقية الباقية من
الروابط الخيرة التي لا زال المسلمون يتمتعون بها كما انحلت روابط الأمم
الأخرى.
وحاربوا التشريع الحاسم بالقوانين الوضعية التي تقر الكفر والارتداد والفسوق
والعصيان، فارتُكِبَت بذلك كبائر الذنوب، كالزنا وشرب الخمر والميسر، وأهملت
أمهات فرائض الإسلام، وحورب فاضل الأخلاق، وأصبح من يتصف بها أهلا للازدراء
والنبذ والحرمان فكسدت بذلك سوقها، ومكن لفا سدها، وأصبحت من مؤهلات الاحترام
والتكريم، فنفقت بذلك سوقها.
وأقصوا حدود الله التي تحفظ بها الضرورات ومكملاتها، من دين ونسل ونفس وعقل
ومال، ففسدت بذلك حياة المسلمين في الأرض ونكسوا رايات الجهاد وأهملوا وسائله
التي لا عزة للأمة الإسلامية إلا بها، فاحتل أعداؤها ديارها وأرضها ونهبوا
خيراتها ودمروا مساجدها وانتهكوا أعراضها، وسفكوا دماء شعوبها ورملوا نساءها
ويتموا أطفالها، والسبب في ذلك كله هو فقدها للإيمان الذي الشرعي الذي يؤهل
أهله للعزة ويجعلهم في صف العزيز: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن
المنافقين لا يعلمون}. المنافقون 8
وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وسبحانك اللهم وبحمدك،لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
======
(1) وقد سبق الكلام
عن الاجتهاد وأهله، وعن أدعيائه، فلا داعي لتكراره.
(2) يكفي أن تعلم أن أهم سبب لفوز امرأة مرتين، هو النزاع
بين الجماعات والأحزاب الإسلامية، حتى إن جماعة واحدة انقسمت قسمين قسم منهما
أيد اختيار المرأة.
(3) ) يقال إن الجماعات الموجودة في مصر وحدها تزيد عن سبعين
جماعة.
(4) كما كانت تقف الدولة الماركسية في عدن وكذلك رئيس منظمة
التحرير الفلسطينية من الجهاد الأفغاني!
(5) وتتقلب مواقف الشعوب بتقلب مواقف حكامها التي تمدح اليوم
دولة كانت تكيل لها الذم والشتائم أمس، وتصبح تلك الدولة اليوم صديقة بعد أن
كانت بالأمس عدوا دون ميزان أو ضابط شرعي.
|