(16)
الشرك وأنواعه وحكم كل نوع
تمهيد: تعريف الشرك:
الشرك في اللغة :
قال في اللسان: (الشِّرْكَةُ والشَّرِكَةُ سواء: مخالطة الشريكين.. وقد اشترك
الرجلان وتشاركا وشارك أحدهما الآخر.. والاسم: الشِّرْك، والجمع أشراك....
وأشرك بالله جعل له شريكا في ملكه..).[ راجع المادة (ش ر ك) في اللسان وغيره]
أما الشرك في اصطلاح الشرع، فهو:
أن يَجْعَلَ العبد لله ندا في ربوبيته،
أوألوهيته،أوأسمائه وصفاته.[ وهي المباحث الثلاثة التي سبق الكلام فيها]
وقد شمل ذلك كله حديث ابن مسعود رضي الله عنه إذ قال: سألت رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: (أن تجعل لله ندا وهو خلقك).[ اللؤلؤ
والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان: رقم الحديث53، ص: 16)]
أنواع الشرك:
يظهر مما سبق أن الشرك يكون في أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد
الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
أنواع شرك الربوبية :
وشرك الربوبية نوعان:
الأول إنكار وجود الخالق مطلقا:
كما هو حال فرعون الذي ادعى عدم علمه بوجود إله غير نفسه: [وغالب المنكرين
لوجود الخالق مكابرون، ومنهم فرعون الذي قال الله تعالى عنه: (وجحدوا بها
واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا). النمل: 14، وقد سبق في المبحث الأول من الفصل
الأول أن كل ما في الكون من المخلوقات دليل على وجود الله وتدبيره للعوالم
كلها، وأن منكره يعد شاذا في هذا الكون] كما قال تعالى عنه:{وقال فرعون يا أيها
الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي
أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين}. القصص: 38.
وقال تعالى: {يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى
إله موسى وإني لأظنه كاذبا}. غافر:37.
وكما هو شأن الشيوعيين الماركسيين في عصرنا الحاضر، ويسمي هذا النوع من الشرك
بشرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك.
النوع الثاني:
أن يعترف العبد بخالق للكون في الجملة، ولكنه
يعتقد أن معه خالقا آخر خلق بعض المخلوقات، كاعتقاد المجوس بوجود خالقين: وهما
النور الذي خلق الخير، والظلمة التي خلقت الشر.
وحكم من صدر منه هذا الشرك (شرك الربوبية) بنوعيه ظاهر، فكفره أعظم أنواع الكفر
المخلد في نار جهنم، لأن غالب الأمم كانت تقر بربوبية الله، ولا تعترف بخالق
سواه، وإن أشركت معه غيره في العبادة، فالذي ينكر ربوبية الله أو يزعم أن للكون
خالقين أو أكثر شاذ في هذا الوجود. [ راجع شرح الطحاوية: 82-87]
(17)
أنواع شرك الألوهية:
والشرك في الألوهية نوعان:
النوع الأول:
أن يسوي الله بغيره في عبادته كما يقول النصارى: إن عيسى هو الله أو ابن الله
أو ثالث ثلاثة، وكأن يسجد لصنم أو قبر أو يستغيث به أو يدعوه طالبا منه ما لا
يقدر عليه إلا الله [ويجب أن يفرق بين الاستغاثة والدعاء وبين التوسل بالذات أو
الجاه، فدعاء غير الله أو الاستغاثة بغيره فيما لا يقدر عليه إلا الله عبادة
يكفر صاحبها إذا أقيمت عليه الحجة. أما التوسل بالذات أو الجاه ففيه خلاف بين
العلماء قديما وحديثا، وغاية ما قال فيه منكروه أنه بدعة، ولم يقل أحد منهم:
إنه شرك، كما قد يظنه بعض الجهلة المتسرعين في إصدار الأحكام بدون علم]، وكذلك
أن يحب غير الله-حب عبادة-كما يحب الله، أو ينحر دابة عبادة وتقربا إلى غير
الله، ويدخل فيه التوكل والاعتماد على غير الله، بحيث يعتقد أن الْمُتَوَكَّلَ
عليه يجلب له النفع أو يدفع عنه الضر، من دون الله، كجلب رزق أو جاه أو منصب،
ودفع مرض أو فقر أو موت، أو غير ذلك مما يترتب عليه تعظيم المخلوق كتعظيم
الخالق، أو الخوف من المخلوق كالخوف من الخالق، وهو خوف العبادة الذي يجعل
صاحبه يلجأ إلى المخوف منه كما يلجأ إلى الله أو أشد. [ولا يدخل في ذلك الخوف
الطبيعي، كخوف الإنسان من سبع، أومن عدو صوب إليه السلاح ليقتله أو يأخذ ماله،
لأن هذا الخوف-الطبيعي-ليس خوف عبادة وتعظيم] وهذا شرك أكبر.
ومعلوم أن الشرك الأكبر لا يغفره الله تعالى، كما قال تعالى: (إن الله لا يغفر
أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء). النساء: 116.
ويدخل في ذلك من حرم ما أحل الله أو أحل ما حرم الله متعمدا، ومن أطاعه واتبعه
في ذلك التحليل والتحريم مع علمه بمخالفته دين الله، لأن ذلك يعتبر عبادة له من
دون الله، كما ورد ذلك في حديث عدي بن حاتم عندما قدم على النبي صلى الله عليه
وسلم، فسمعه يقرأ قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبا نهم أربابا من دون الله
والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما
يشركون} 31. التوبة . فقال عدي-وكان نصرانيا-: لسنا نعبدهم! فقال الرسول صلى
الله عليه وسلم: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله
فتحلونه؟) قال عدي: بلى [جواب عدي هذا يدل على أنهم كانوا يتبعون أحبارهم ورهبا
نهم في التحليل والتحريم، مع علمهم بمخالفة ذلك لدين الله، ولو كانوا يتبعونهم
في ذلك مع الجهل به، لقال للرسول صلى الله عليه وسلم: نحن لا نعلم أن ما حرموا
أو أحلوا يخالف دين الله]، قال: (فتلك عبادتهم) [سنن الترمذي (5/278، رقم
الحديث: 3095) وهو في صحيح الترمذي للألباني (3/56)، وحسنه]
كما يدخل في ذلك اعتقاده جواز الحكم بغير ما أنزل الله، سواء أَحَكَمَ هو-أي
معتقد الجواز أو جوزَ ذلك لغيره بالفتوى أو بالرضا-. [راجع: مقدمة المؤلف:
(الفقرة الخامسة تحت عنوان: أهمية الموضوع)، والمبحث الخامس من: الفصل الثالث
من هذا الكتاب]
أما إذا حكم الحاكم بغير ما أنزل الله في بعض القضايا، لغرض من الأغراض، كأخذه
رشوة، أو لمصلحة قريب أو صديق.... مع اعتقاده أنه عاص في ذلك،وأن الحكم بما
أنزل الله واجب، فلا يدخل في هذا النوع من الشرك، بل هو من كبائر الذنوب التي
تجب التوبة منها، وإذا لم يتب فهو تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له وإن شاء
عذبه بقدر معصيته ثم أدخله الجنة. [راجع شرح الطحاوية: (ص: 363)]
وبهذا يعلم أن من حرم ما أحل الله أو أحل ما حرم الله، مجتهدا
-وهو من أهل الاجتهاد-أو جاهلا، لا يحكم عليه بالكفر، بل لا يؤثم ولا يفسق،
وإنما ينال المجتهد من الله الأجر على اجتهاده، ويغفر الله له خطأه، ولا يؤاخذ
الجاهل بجهله.
وكذلك من اتبع من أحل الحرام أو حرم الحلال مع عدم علمه بمخالفة ذلك لدين الله
لا يكون كافرا ولا آثما، لعدم قيام الحجة عليه. [راجع مجموع الفتاوى لابن
تيمية: (7/70-71)]
وحكم مرتكب هذا النوع من الشرك أنه كافر كفرا أكبر مخلد في النار إذا قامت عليه
الحجة ومات على ذلك.
النوع الثاني:
أن يعبد الله تعالى وحده، ولكنه لا يخلص له الإخلاص الكامل في عبادته، بل يتصنع
فيها للمخلوقين، كأن يحسن صلاته ويطيلها ليثني عليه الناس، أو يتصدق، أو يجاهد،
أويجتهد في طلب العلم الشرعي، ليرائي بذلك، أو يحلف بغير الله غير معتقد تعظيم
المحلوف به كتعظيم الله أو أشد [أما إذا حلف بغير الله معتقدا تعظيم المحلوف به
مثل تعظيم الله أو أشد فإن اعتقاده ذلك-لا مجرد الحلف-شرك أكبر، لأنه جعل لله
ندا بذلك الاعتقاد] ، فهذا وأمثاله شرك أصغر، لا يخرج صاحبه من الملة، ولكنه
على خطر عظيم، فأول ما تسعر النار بمن قرأ القرآن ليقال: إنه قارئ، أو أنفق
ماله ليقال: إنه جواد، أو قاتل الكفار ليقال: إنه شجاع كما ورد بذلك الحديث
الصحيح [متفق عليه وهو في (رياض الصالحين، رقم: 1617، ص: 620)].